قصة تأسيس شبكة مصرية في الغرب باسم مزيف لنقل معلومات ومعدات لإنتاج الصواريخ

د. خالد خيرت لـ«الشرق الأوسط»: تركنا مونتي كارلو وأقمنا في سالزبورغ للتمويه

العميد حسام خيرت وزوجته ووالدته وابنه خالد وابنته داليا وزوجات عدد من أصدقائه حين بدأ مرحلة الاستقرار في مونتي كارلو (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)،  بطاقة حجز الفندق الذي انتقل إليه العميد حسام خيرت مع أسرته في مونتي كارلو في فرنسا عام 1984 تحت اسم وهمي هو الدكتور أحمد يوسف وذلك لتأسيس الشركة المزيفة (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)
العميد حسام خيرت وزوجته ووالدته وابنه خالد وابنته داليا وزوجات عدد من أصدقائه حين بدأ مرحلة الاستقرار في مونتي كارلو (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)، بطاقة حجز الفندق الذي انتقل إليه العميد حسام خيرت مع أسرته في مونتي كارلو في فرنسا عام 1984 تحت اسم وهمي هو الدكتور أحمد يوسف وذلك لتأسيس الشركة المزيفة (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)
TT

قصة تأسيس شبكة مصرية في الغرب باسم مزيف لنقل معلومات ومعدات لإنتاج الصواريخ

العميد حسام خيرت وزوجته ووالدته وابنه خالد وابنته داليا وزوجات عدد من أصدقائه حين بدأ مرحلة الاستقرار في مونتي كارلو (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)،  بطاقة حجز الفندق الذي انتقل إليه العميد حسام خيرت مع أسرته في مونتي كارلو في فرنسا عام 1984 تحت اسم وهمي هو الدكتور أحمد يوسف وذلك لتأسيس الشركة المزيفة (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)
العميد حسام خيرت وزوجته ووالدته وابنه خالد وابنته داليا وزوجات عدد من أصدقائه حين بدأ مرحلة الاستقرار في مونتي كارلو (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)، بطاقة حجز الفندق الذي انتقل إليه العميد حسام خيرت مع أسرته في مونتي كارلو في فرنسا عام 1984 تحت اسم وهمي هو الدكتور أحمد يوسف وذلك لتأسيس الشركة المزيفة (صورة خاصة لـ«الشرق الأوسط»)

يكشف أصغر شاهد في قضية الشبكة المصرية التي جرى تأسيسها في الغرب باسم مزيف لنقل معلومات ومعدات لإنتاج الصواريخ، والمعروفة باسم «الكربون الأسود»، ذكرياته، في لقاء خاص مع «الشرق الأوسط» وذلك حين كان في قلب المطاردات والأسفار الغامضة بأسماء وهمية بين مصر وأوروبا. هذا الشاهد هو الدكتور خالد خيرت، نجل بطل القضية الرئيسي، العميد حسام خيرت، خبير الصواريخ والمعدات الحربية الراحل، الذي كان معروفا بقربه من المشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع المصري آنذاك.
وبدأت وقائع هذه الأحداث في ثمانينات القرن الماضي. والتقى الدكتور خالد خلال تلك الفترة، حيث كان يقوم بزيارات متعددة لوالده في المدن الأوروبية، بالكثير من أبطال الشبكة في كل من مونت كارلو وسالزبورغ وفيينا، وذلك أثناء فترة النشاط التي انتهت نهاية مأساوية فيما بعد. وطلبت مصادر أمنية مصرية رفيعة، أثناء تحري «الشرق الأوسط» لاستكمال بعض معلومات القضية، عدم الإشارة إلى أسماء عدد من أعضاء الشبكة ممن ما زالوا على قيد الحياة، والبالغ عددهم أكثر من عشرين شخصا، وحجب تفاصيل أخرى خاصة بعملية التسليح، باعتبار أنها من مقتضيات الأمن القومي للبلاد، وهي أمور جرى وضعها في الحسبان أثناء كتابة هذا الموضوع.

من أشهر الأسماء المعروفة للرأي العام، في تلك القضية، الدكتور عبد القادر حلمي، وهو أميركي الجنسية من أصل مصري، وكان يعمل في وكالة ناسا وبرامج الصواريخ الأميركية، وهو الرجل الذي جرى ربط اسمه باسم الدكتور محمد مرسي الرئيس المصري الأسبق، تحت مزاعم تقول إن مرسي هو من وشى بالشبكة خلال وجوده في أميركا، لكن يبدو أن هذه المزاعم لم تكن دقيقة، وفقا لشهادة الدكتور خالد. ومن جانبه أفاد الدكتور حلمي عبر وسيط أن محاميه الأميركي ينصحه بعدم التعليق بخصوص ملابسات هذه القضية.
وبسبب غموض تفاصيل هذه الشبكة المعقدة التركيب، لسنوات، وعدم وجود خط متسلسل واضح المعالم عنها، كان يعتقد، حتى أيام قليلة مضت، أن ضابطا متقاعدا، ما زال على قيد الحياة، هو بطل القضية. وثبت من عمليات التحقق التي قامت بها «الشرق الأوسط» أن هذا غير صحيح، وأنه مجرد لبس وقعت فيه غالبية وسائل الإعلام المصرية، لأسباب تتعلق بوجود تشابه في الاسم الأول بين الرجلين (حسام الدين) وجزء من الاسم الأخير (خيرت - خير الله)، وهو ما أكده الدكتور خالد، ومصادر أمنية وأطراف كانت تعمل ضمن الشبكة.
واستمدت قضية «الكربون الأسود» اسمها من مادة الكربون التي تدخل في صناعة الصواريخ وتجعلها تتحمل الحرارة المرتفعة، وكذا تجعلها غير مرئية لأجهزة الرادار، ويبدو أن آخر عمليات الشبكة المصرية انكشفت أثناء محاولة تهريب كميات من هذه المادة من الولايات المتحدة إلى مصر، رغم أن نشاط الشركة المزيفة لم يقتصر على مادة الكربون، ولكنه شمل نقل الكثير من المعدات والمعلومات والأمور الأخرى، كما يقول الدكتور خيرت، وعناصر أخرى لها علاقة بالشبكة، التي لا مجال لذكرها هنا.
على كل حال كان مركز الشبكة قد شرع في العمل في البداية انطلاقا من مدينة مونتي كارلو الفرنسية، تحت ستار شركة لاستيراد المعدات، وكان يعمل فيها بشكل أساسي، أي في الجانب السري من مهمة الشركة، أربعة مصريين من رتب نظامية مختلفة (أحيلوا للتقاعد بعد انكشاف العملية وغير مسموح بنشر أسماء عدد منهم). وكانوا تحت رئاسة العميد خيرت، وتضاعف عدد عناصر الشبكة من المصريين بعد ذلك أربع مرات. وكانت هناك كذلك أطراف عراقية مجهولة، لكنها مربوطة بالقائد العسكري العراقي في بغداد عامر السعدي، وهو المسؤول عن إدارة برامج التسليح العراقي، وحامل أسرار التصنيع لجيش صدام حسين. بينما كان يعمل في الجانب المرئي والظاهر للعيان شخصيات أجنبية، بالإضافة إلى طاقم سكرتارية أجنبي كان من بينه فرنسيون.
تولت الشخصيات الأجنبية، ومن بينهم ألمان وأرجنتينيون، إدارة فرعي الشركة وأعمالها في كل من الأرجنتين والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها من بلدان أوروبية. كانت التعليمات أن تقوم الشركة بتغيير مقرها الرئيسي كل سنتين في أوروبا من أجل التمويه، ويقول الدكتور خالد إنه لهذا السبب «تركنا مونتي كارلو عام 1986 وأقمنا في سالزبورغ بالنمسا».
سقطت الشبكة بأكملها في عام 1988.. أي بعد أقل من يومين على قيام العميد خيرت، الذي كان وقتها يمضي أيام إجازته في فندق هيلتون فيينا، بتوجيه ابنه خالد، وهو في منزله الذي يطل على ضفة النهر في سالزبورغ، بأن يدخل إلى مكتبه المنزلي، ويقوم بفرم أوراق معينة بسرعة. يقول الدكتور خيرت: قمت بهذه العملية في ذلك الوقت مع صديق لوالدي كان معي في سالزبورغ.
ويتابع قائلا: على أي حال حين بدأت أرافق والدي وهو في عمله الجديد في أوروبا كنت أشعر أن هناك أمورا غريبة تحدث، لكنني كنت أدرك أنه في مهمة عمل من أجل مصر. فحتى اسمي الرسمي كان قد جرى تغييره في جواز السفر إلى اسم مزيف.
ارتبط الدكتور خالد بحياة والده العسكرية منذ فتح عينيه على الدنيا. يقول: «منذ فتحت عيني على الحياة وأنا أعلم أن أبي ضابط في القوات المسلحة.. من خلال بدلته العسكرية ومن خلال مناوبات عمله التي كان يذهب إليها. كنت أحيانا أذهب إليه بالطعام المنزلي وأمضي معه بعض الوقت في فترة المناوبة. كان يعمل في وزارة الدفاع وفي هيئة التسليح في ضاحية العباسية وعمل أيضا في المدفعية حيث إنه تنقل بين وحدات مختلفة».
وعمل العميد خيرت أيضا في مكاتب تابعة للجيش تقع في منطقة ألماظة بالعاصمة، بينما كان منزله وهو ما زال في القاهرة، يقع في ميدان سفير في ضاحية مصر الجديدة. ويقول الدكتور خالد: كنت أذهب إليه وأنا صغير في العمر عن طريق سيارة بسائق تابعة لجهة عمله. وعن الوقت الذي بدأ يشعر فيه أن والده مقبل على مهمة كبيرة وعما إذا كان قد لاحظ وجود استعدادات لهذا الأمر، يوضح: شعرت بهذا وعرفت به حين حصل على الموافقة على السفر. أنا كنت اعتبرها مهمة عمل عادية، بينما هو كان سعيدا جدا.. وكان يذكر اسم المشير أبو غزالة كثيرا في البيت.
وكان أبو غزالة وقتها قد أمضى نحو عام كوزير للدفاع والإنتاج الحربي، بعد أن كان يعمل كمدير لإدارة المخابرات الحربية والاستطلاع. العلاقة بين هذا القائد العسكري الذي توفي عام 2008 بسبب إصابته بالسرطان، وبين العميد خيرت، الذي توفي في 2013 بالسرطان أيضا، علاقة عمل ذات طابع خاص يغلب عليها الثقة والاحترام.
يتضمن مشروع العميد خيرت تأسيس شركة في أوروبا، تعمل علانية وفقا للقوانين الأوروبية، تحت ستار شركة مدنية، من أجل جمع المعلومات والمعدات التي تدخل في تطوير الصناعات العسكرية وعلى رأسها الصواريخ، ونقلها إلى كل من القاهرة وبغداد، وذلك بتمويل عراقي وافق عليه الرئيس الراحل صدام حسين بعد جلسة خاصة بين خيرت ومسؤولين كبار في الجيش العراقي آنذاك، منهم الفريق السعدي نفسه، الذي يعتقد أنه سلم نفسه للقوات الأميركية عند اجتياحها بغداد عام 2003.
ويبدو أن العميد خيرت كان مهووسا بالتطوير وبالدخول في عالم التكنولوجيا والتقنية المتقدمة، في جميع المجالات، المدنية والعسكرية، وهذا ما سيتضح فيما بعد، حيث اختتم حياته، عقب إحالته للتقاعد الإجباري، بتأسيس شركة مدنية تعمل في هذا الغرض عقب تسوية القضية التي كان مطلوبا فيها في الولايات المتحدة، بخصوص الشبكة. لقد حكم عليه القضاء الأميركي هو ومن معه من المصريين بالسجن لأكثر من مائة سنة.
كان لدى حسام خيرت منذ سنوات تصورات عما ينبغي عمله للحصول على الجديد من العالم، وعدم الاكتفاء بالاستيراد أو الاكتفاء بالمعدات المعلبة جاهزة التصنيع. كان يريد أن تكون مراحل التصنيع محلية لكن بتقنيات متقدمة. وقدم مشروع تأسيس شركة في الخارج لهذا الغرض لعدد من القادة المصريين في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لكنه لم يحصل على موافقة، بحسب ما يتذكره الدكتور خالد، قائلا إن والده كان يؤمن بأن الجيوش لا يمكن أن تحقق ميزة في الحرب دون صواريخ قادرة على الوصول إلى الأهداف المطلوبة ولو على مسافات بعيدة.
وكانت مصر قد خرجت من تجارب خاضت فيها عدة حروب مع إسرائيل في سيناء. وكانت المشكلة دائما، كما تقول المصادر الأمنية، في تفوق السلاح الإسرائيلي النوعي، أمام مصر، خاصة فيما يتعلق بترسانة تل أبيب النووية. ولهذا كانت مشاريع العميد خيرت تبحث عن سلاح للردع. أي سلاح قادر على الوصول إلى العمق الإسرائيلي. وهذا كان يتلخص في أمر واحد: صواريخ لديها الإمكانية على الانطلاق إلى هناك أولا، ويمكنها التخفي عن أنظمة الرادار ثانيا، ولديها القدرة على حمل رؤوس تدميرية كبيرة ثالثا.
ظل يعمل على هذا ليلا ونهارا.. يقول الدكتور خالد: «حين كنت أدخل عليه المكتب ليلا وقت أن كنا ما زلنا في منزلنا بالقاهرة كنت أجده منكبا على قراءة الأبحاث والكتب.. هو يتميز بالمثابرة وعدم اليأس، ولذلك حين جاء أبو غزالة وزيرا للدفاع، بادر بتقديم المشروع إليه، لأن أبو غزالة كان يشبهه في الشكل وفي الشخصية. كان كل منهما جريئا في اقتحام المجهول».
لكن يبدو أن أبو غزالة درس الموضوع جيدا قبل الموافقة عليه، حيث لم تبدأ خطوات التنفيذ الأولى إلا بعد توليه موقعه الوزاري بنحو عامين أو يزيد. وخلال تلك الفترة بدأ التواصل مع العراقيين حول تمويل المشروع. وسافر العميد خيرت إلى بغداد، وجرت مناقشة الأمر، لدرجة أن الجانب العسكري العراقي، ومن بينه تقنيو صناعة سلاح متخصصون، طرح عليه نحو 80 سؤالا، لكي يتأكد من فرص نجاح الفكرة، وأن الأموال لن تذهب هباء.
ويضيف الدكتور خالد أنه أدرك أبعاد المشروع فيما بعد. لأنه، وحتى اللحظة التي سمع فيها في الراديو اسم والده كمطلوب للولايات المتحدة في قضية الشبكة في أواخر الثمانينات، لم يكن يعلم أن المشروع كبير إلى هذا الحد. يقول «إن مشروع تطوير الصواريخ كان اسمه (كندور2) وعرفت أيضا أنه يطلق عليه اسم (الكربون الأسود).. عرفت الاسم في وقت لاحق. أنا وقتها، أي قبل السفر مع والدي والأسرة إلى فرنسا للعمل من هناك، كنت صغيرا أدرس في مدرسة سان جورج في ضاحية مصر الجديدة. كل ما كنت أدركه أننا سوف نسافر مع والدي إلى الخارج في مهمة تتعلق بعمله».
ويقول إنه في يوم من الأيام حين رجع للبيت، وجد والده سعيدا وكأنه حقق مراده أخيرا. قال لنا، أنا وأختي ووالدتي: «سنسافر إلى فرنسا». وأخبرني أنه سينقل أوراق مدرستنا إلى هناك. ومنذ ذلك الوقت، أي في صيف عام 1984 بدأت إجراءات تحويلي لاستكمال الدراسة في فرنسا، وعليه تيقنت أن والدي حوَّل عمله بالفعل. لكن أنا كنت سعيدا بالانتقال إلى فرنسا، لأنها كانت بمثابة عالم مثير، خاصة أنني أعرفها منذ صغري حيث كنت أسافر إليها مع الأسرة لقضاء الإجازات الصيفية.
في بيتنا في القاهرة، وقبل أن ننتقل إلى مونتي كارلو أصبحت أعلم، من خلال ما كان يدور من حديث بين جدران منزل الأسرة، أن أبي على معرفة جيدة بالمشير أبو غزالة، لأنه كان رئيسا لوالدي من قبل في سلاح المدفعية، وكنت أسمع سيرته مرارا وتكرارا في البيت، سواء حين كنا في مصر الجديدة، أو حين أقمنا في فرنسا. أدركت أنه من أسباب قرار والدي بالسفر.. «كان والدي قد عرض فكرة المشروع على عدة وزراء ورؤساء أركان في السابق، لكن المشير أبو غزالة هو الذي رحب بالفكرة. وتبناها بعد أن أصبح وزيرا للدفاع. كان والدي يقول لي عن أبو غزالة: إنه رجل وطني جدا، وسريع في اتخاذ القرار الصحيح، عسكري نادر، وجريء ويتبنى الأفكار الجديدة».
حتى بعد أن انكشفت عملية «الكربون الأسود» ظل الرجلان يلتقيان في نادي هليوبوليس في شرق القاهرة. وحين أصيب أبو غزالة بالمرض ذهب العميد خيرت لزيارته. المهم.. يعود الدكتور خالد للقصة من البداية، أي عند التحضير للسفر إلى الخارج، قائلا: «حين أمسكت بجواز سفري الجديد للمرة الأولى وجدت أن اسمي قد تغير من خالد أحمد حسام الدين خيرت، إلى خالد أحمد يوسف.. كنت أتعجب من أن أسماءنا قد تبدلت لكنني أصبحت أدرك أن هذه مهمة رسمية».
توجهنا إلى مونتي كارلو، وأقمنا في فندق اللوفز هوتيل على الريفيرا، لمدة شهر، إلى أن وجدنا شقة مناسبة. كان معنا أشخاص آخرون من مصر عددهم أربعة يعملون على المشروع السري، أو الشبكة، لكن خلال فترة إقامتنا في اللوفز هوتيل كانوا هم يقيمون في مكان آخر انتظارا لانتهاء الترتيبات من تجهيز الشقق التي سنسكن فيها وفرش المكاتب وغيرها.
حين بدأ دولاب العمل يتحرك انضم للعمل أشخاص من جنسيات أخرى، ألمان وأرجنتينيون وفرنسيون، إضافة للطاقم الذي كان معه. أصبح يتحرك بسيارة مميزة.. مقر الشركة كان في عمارة اسمها «مونتي كارلو صن». والمقر كان في نفس العمارة التي سكنا فيها. العمارة جزء من مجمع يضم مباني إدارية وأخرى سكنية وهو مبنى شهير في مونتي كارلو.
في ذلك الوقت كان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ما زال في بداية عهده الذي استمر حتى عام 2011، كانت مرحلة منتصف الثمانينات تعج بمشاكل كبرى في منطقة الشرق الأوسط. من جانب كانت جراح الاجتياح الإسرائيلي للبنان ما زالت تنزف، ومن جانب آخر كان دوي مدافع الحرب العراقية الإيرانية ما زال يتردد في الأرجاء، بينما مصر كانت تترقب المماطلات الإسرائيلية بشأن انسحابها من طابا التي كانت تحتلها في شبه جزيرة سيناء.
وعلى هذه الخلفية المعقدة في المنطقة كانت أسفار العميد خيرت لا تتوقف، ويبدو أن هذا أثَّر بالسلب على معنويات زوجته وعلى الأسرة الصغيرة التي وجدت نفسها وقد هجرت شمس القاهرة وانتهى بها المطاف تحت سحب مونتي كارلو.
يقول الدكتور خالد: لدي أخت أكبر مني اسمها داليا، كما قلت كانت معنا هناك. إلا أن أبي كان قد أصبح يسافر كثيرا في تلك الفترة.. ثم حدثت مشاكل بينه وبين والدتي. مكثنا ستة أشهر معه في فرنسا، ثم رجعنا إلى القاهرة، بينما هو ظل يتابع عمله في مونتي كارلو. حين بدأ والدي نشاطه في الخارج، بدا أنه أصبح تحت ضغط عصبي ونفسي أكبر مما كان عليه في مصر. نتج عن هذه الضغوط الكثير من المتغيرات التي انعكست على حياة الأسرة.. مثل الغضب والانشغال الكثير خارج المنزل وحتى داخله حيث يجلس لساعات في مكتبه ما بين الأوراق ورنين الهواتف والفاكسات. أعتقد أن هذا كان من أسباب الانفصال بينه وبين والدتي في نهاية المطاف.
ولم يكن العميد حسام خيرت يدخن، ولم يكن مدمنا لأي نوع من أنواع المكيفات. الإدمان الوحيد كان للعمل.. «طبيعته أنه مدمن على عمله، سواء حين كان في مصر أو حين أصبح في الخارج. حتى وهو في الخدمة في الجيش كان يدمن على العمل وعلى مواصلة الدراسة لمعرفة كل جديد.. يجهز للحصول على درجة الماجستير في الجامعة. ظل يدرس حتى حصل على الدكتوراه بالفعل عام 1982، ما أتذكره عنه أنه كان نشيطا بشكل مستمر. حين سافرنا إلى أوروبا استمر على هذا الوضع، لكن الضغط كان أكبر من السابق».
وعما إذا كان لوالدته علم مسبق بالمهمة التي كان والده منخرطا فيها، يؤكد الدكتور خالد أنها كانت تدرك أنه في مهمة رسمية لكن مع مرور الأيام أصبح من الصعب عليها تحمل طبيعة هذا العمل الذي يستحوذ على كل وقته.. «لم تكن والدتي معترضة، ولكن لم تكن على ما يبدو قادرة على الاستمرار في تحمل الضغط الذي كان واقعا عليه في تلك الأيام، حيث إنها، مثل أي سيدة، تحب أن يعود زوجها للبيت في أوقات محددة».
لم يكن العمل فقط هو الذي يستغرق كل تفاصيل الحياة اليومية، ولكن حتى الحفلات وحتى الأعياد والمناسبات المختلفة، كانت قد أصبحت تتحول إلى حلقات للتعارف من أجل مزيد من العمل أيضا.. «كان والدي كأنه يريد أن يسابق الزمن.. يستقبل شخصيات مختلفة سواء في مكتبه أو في البيت، أو حتى في أماكن التريض والترفيه. كان يتردد على الشركة شخصيات مختلفة. حين نخرج أحيانا كنا نرى خبراء موجودين في انتظار والدي للتحدث والتباحث.. في البيت، عندما نرتب عزومة، فإنها تكون عادة لترسيخ العلاقات العامة مع أشخاص بأعينهم. وكانت بشائر الإنتاج وثمار العمل، أي المعدات المطلوبة، تصل إلى مصر بالمراكب وبالطائرات. وعرفت هذا منه فيما بعد».
أعتقد أن هذه المثابرة في العمل هي التي مكنته ومجموعته من النجاح في نقل الأجزاء وخطوط التصنيع التي كانوا يسعون وراءها.. كانت متابعة أمور العمل بمن فيه من شخوص مبعثرين في هذا العالم المتشعب، من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها، يستنزف ساعات الزمن القليلة.. و«بسبب فروق التوقيت ما بين فرنسا والعالم، خاصة الأرجنتين كان حتى آخر الليل، وحتى في الفجر، يدخل غرفة مكتبه لإجراء اتصال هاتفي أو استقبال مكالمة أو استقبال فاكس أو إرسال فاكس، وفي الصباح الباكر كان عليه أن يكون في مكتب الشركة أيضا».
ولم تستمر إقامة الدكتور خالد هناك كثيرا، رغم أنه كان قد بدأ يعيش الحياة الفرنسية، ويتدرب على التنس في أحد الأندية المجاورة بالمدينة. لقد تغيرت مجريات الأحداث وأثرت على الأسرة، وكان لا بد من الانفصال بين الوالدين، وعليه رجع للقاهرة معها ومع شقيقته.. «عدنا لمصر أنا ووالدتي وشقيقتي. كان والدي يأتي لزيارتنا حيث إنه كان يتردد على مصر كثيرا بحكم طبيعة عمله. بالإضافة إلى أننا كنا نذهب لزيارته ونمضي معه أشهر الصيف الثلاثة في أوروبا.. هو من جانبه كان يحاول أن يعوض أيام الفراق بيننا، فيرتب لنا رحلات ترفيهية».
استمر عمل المقر الرئيسي للشركة في مونتي كارلو لمدة عامين. وبعد هذه المدة، أي في سنة 1986 بدأت تظهر تعليمات جديدة بضرورة تغيير المكان، ووقع الاختيار على مدينة سالزبورغ في النمسا، حتى لا ينكشف الأمر.
يقول الدكتور خالد: كانت عملية الانتقال مهمة أمنية بالأساس من أجل التمويه، وهذا ما علمته لاحقا، لكن كنت حزينا لأنني ربما كنت قد اعتدت على منزل مونتي كارلو والأجواء المحيطة به. أو ربما لأن المنزل ومقر الشركة الجديدين في سالزبورغ ستكون فيهما نهاية العملية برمتها، حيث تردد صدى القضية وانكشافها فيما بعد، عبر المحيط من أميركا إلى القاهرة والعكس.



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم