الموصل في مذكّرات الرّحالة الأجانب

زارها زينفون وابن جبير وابن بطوطة وبنيامين التطيلي وماركوبولو وريكاردو بنيني

مشهد جانبي من مدينة الموصل
مشهد جانبي من مدينة الموصل
TT

الموصل في مذكّرات الرّحالة الأجانب

مشهد جانبي من مدينة الموصل
مشهد جانبي من مدينة الموصل

الأب سهيل قاشا عالم تراث بارع، ومنتج ثري له أكثر من عشرين كتابًا قيمًا، آخرها «المسيحيون في العصر الأموي»، و«التّنوير في العهد الجليلي في الموصل»، وهذا الكتاب «الموصل في مذكرات الرحالة الأجانب خلال الحكم العثماني». وله عشر مخطوطات، ربما سترى النّور قريبًا. وقد ولد الباحث في قراقوش بالقرب من الموصل، واشتغل في التّعليم.
منذ احتلال «2003» وحتى الآن، شغلت الموصل وبضع مدن أخرى في العراق الأخبار إذ تركزت فيها وعليها مؤامرات الميليشيات المنفلتة التي تتلاعب بها إيران، وشقيقتها المتعصّبة الفاشستية التي تحركها القاعدة وما يسمى الدّولة الإسلامية في العراق والشّام. تعرضت المدينة العريقة لاضطهاد الحكام الطّائفيّين مدة تزيد على عشر سنين، وكانت آخر مؤامرة وكارثة أصابتها حينما تركها الحكم المهزوز غنيمة باردة لعصابة «داعش».
موقع الموصل الجغرافي جعلها مركزًا تجاريًا وثقافيًا شديد الأهمية، منذ إنشائها حتى الآن، فهي كبغداد والبصرة وحلب ودمشق تقع على طريق الحرير المشهور، بشقيه البري والبحري، وقد ازدهرت كبغداد في العصور القديمة، ونالها من الخراب ما نالته جميع مدن الشرق الأوسط بعد سقوط الدّولة العباسية.
جذبت الموصل رحالة كثيرون منهم زينفون الذّي وصلها في سنة 409 ق.م، وابن جبير الذّي زارها سنة 580ه - 1184م، وابن بطوطة. ثم بنيامين التطيلي عام 1173م، وماركوبولو عام 1272م، وريكاردو بنيني عام 1290م.. إلخ (ص7)».
ركز الأب المحترم قاشا من خلال هذه الدّراسة على أحوال مدينة الموصل في فترة العصر العثماني الممتدة بين سنة 1534 - 1918. إذ زارها عشرات الرّحالة بدءا من راوولف الهولندي الذّي قصد المدينة سنة 1556م، وتافرنييه 1791، وجاكسون 1797، ونيرزا أبو طالب 1864، وبدج 1889، وويكرام 1898، والميجر سون 1907، وغيرهم.
اختلف الرّحالة في تقدير عدد سكان الموصل فيدعي نيبور أن العدد يتجاوز ثلاثمائة ألف نسمة، إلا أنه يعترف بصعوبة الإحصاء.. (ص28)، بينما ينزل جرانت وآخرين العدد إلى العشر، 30 ألف نسمة في سنة 1840، ويعود ذلك في ظنّي إلى تقديرات شخصيّة، لا إلى إحصاءات دقيقة كالتي تجري الآن.
ويذكر الجميع أن أغلب السّكان عرب سنة، وهناك أكراد، ومسيحيّون، وصابئة، أما اليزيديّة والشّبك فيقطنون خارج الموصل. حسب ما يذكره الميجر سون «يتمتّع النّصارى فيها بحرية وهم بمنجاة من الاضطهاد» ويرجع ذلك إلى كون الجميع عربا في الإحساس والّلغة. وكان لتولّي عائلة الجليلي مقاليد الحكم لأكثر من قرن تأثير في هذه النّاحية لأنّهم كانوا متسامحين مع الجميع، أما نيبور فيؤكد «حالة النّصارى في الموصل أحسن بكثير من النّصارى في بقية بلدان الإمبراطورية العثمانيّة، فإنهم يعيشون سعداء وعلى وئام تام مع المسلمين، ولهم الحقّ في أن يلبسوا كما يلبس المسلمون.. (ص31) ولعل هذا التّآخي ظهر بشكل جلي في حصار نادر شاه للموصل، إذ دافع المسيحيّون واليزيديّة والأكراد عن المدينة إلى جانب المسلمين، فكافأهم حسين باشا (الحاكم) بترميم جميع الكنائس في الموصل وخارجها على حساب الدّولة.
وفيما يخص الزراعة، يشيد لانزا بخصوبة أرض الموصل، ويذكر أن غلتها تفيض عن حاجة الولاية، وأن المدينة تتعرّض بين آونة وأخرى لغزو الجراد. يقول: «إن المواد الغذائيّة أرخص قيمة من سائر الولايات وبخاصة الخبز، والعنب، والخوخ والقطن.. إلخ». ويؤكد فنشنسو: «استمتعنا كثيرًا بأكل البطيخ وخاصة الرّقي، ولم أشاهد في حياتي نظير الرّقي الموصلي فهو كبير الحجم يتجاوز طول بعضه أكثر من ذراع».. (ص46). ويذكر أولفييه: «تعطي بساتين الموصل الليمون الحلو والنّارنج والفستق والتين والرّمان والخوخ والمشمش والأجاص وثمار أخرى».. «وعنبهم فاخر، ويعمل الموصليّون من الزّبيب الشّربت، ويعملون منه بالتخمير والاستقطار عرقًا فاخرًا.. (ص47).
أما بالنسبة للصناعة، فيشيد كثير من الرّحالة أوليفيه، ودوبريه، وبكنغهام، وباجر بالصّناعة في الموصل. فحسب ما نقله جاكسون فإنّ سكان الموصل أكثر اهتماما بالصّناعة من أي قوم آخرين مرّ بهم منذ مغادرته الهند: «هناك عدة مصانع لها مصنوعات تتفوق على نظيرتها الأوروبيّة، فسروج الخيل، وأحزمتها تظهر جدًا أنيقة بوجه خاص، وهم يصنعون سجاد الحرير، ويطرّزونه بالأزهار فيظهر أحسن وأمتن من السّجاد الذّي نصنعه نحن، وهم مبرزون في صنع المطرزات الثّمينة المدهشة للرجال والنّساء معا، ولديهم الكثير من مصانع النّحاس والحديد، وكميات كبيرة من مختلف المواد التي تصنع من هذه المعادن يتم إرسالها عبر نهر دجلة نحو الجنوب حتى البصرة». ويضيف نيبور: «مصنع كثير للنسيج والحياكة والصّباغة وصياغة النّقوش على المنسوجات، والمهنتان الأخيرتان بيد النّصارى».
ويعزو أوليفيه ازدهار الموصل إلى سيطرة السّلطة على الأسواق، وإرسال الجند لحمايتها، من قطاع الطّرق، واللصوص، فقد «كان الباشا لا يتوانى في جعل كل التجار يقصدون مدينته، بحاصلات أراضيهم، ومصانعهم، وكان يمنع أن يصيبهم عسف من أحد، أو يمسّهم، ظلم، ويخفض رسوم الوارد عن المأكولات».
* الطّرق والبيوت والحمامات
ويصف الأب دومنيكو البيوت بأنّها قويّة، مبنيّة بالحجارة، والنّاس ينامون صيفًا بالأسطح، وفي كلّ بيت سرداب لحفظ الحنطة، خوفًا من سني الجدب أو قطع الطّرق، ويصف ويكرام البيوت بأنّ لديها باحات لطيفة وطرازها أثريّ، يطابق ما وجد في المنازل الأشوريّة، ومداخلها تمنع المار من رؤية ما في الدّاخل، وقد توجد حديقة صغيرة في الباحة. ويصف بنديه غرفة يدعونها الدّيوان (وفي الدّارجة العراقيّة الدّيوانيّة)، ويقول إنها «موجودة في كل البيوت المريحة في الموصل. رفة كبيرة مربعة، له سقف على شكل العقدة (القبّة) وتقع في الطّابق الأرضيّ، وهي عالية بعلوّ طابقين، يجتمعون فيها لتدخين الغليون أو النّرجيلة وللحديث والاستقبال».
في القسم الثّاني من الكتاب مقتطفات شيّقة من رحلة بنديه الفرنسي عام مع جيروم الإيطالي ورجلي دين آخرين. وفيه يصف الكنائس في الموصل، ومسكني قنصلي فرنسا وبريطانيا، ومحاولة قنصل الأخيرة التجسّس عليهم بطريقة ذكيّة، ويصف أسواق الموصل: «الصّفارون، حي الخفافين، وتجار الأقمشة، والخزّافون الفخاريون، والقصّابون، والأخير فظيع بسبب كثرة الذّباب ورائحة الّلحم المتفسّخ، إذ يتعفّن بسرعة بسبب الحرارة». لكن الرحالة ورفاقه يستمتعون بالحلوى المعروفة «بمنّ السّما» وتصنع من تجميع مادّة المنّ التي تفرزها بعض الحشرات على أوراق الأشجار، ثم تغلى وتقصر لتبيضّ، ويضاف إليها السّكر، وبياض البيض، مع الفستق، والجوز والّلوز.
سدّ هذا الكتاب ثغرة مهمّة في تاريخ المنطقة، لكنّ تأثيره الأكبر الآن يتجاوز التّراث والتّاريخ لأنه يصفع المتشدّدين الذّين يعيثون في الموصل تخريبًا، وتدميرًا، ووحشيّة، ويفضح بعدهم النّاشز عن طبيعة وحياة وتاريخ الموصل التي كانت تعيش في تسامح وإخاء ومودّة طيلة تاريخها العريق لأنّها محيط تتعايش فيه أقوام وأديان ومذاهب شتى.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.