«اتفاق أوسلو».. الخنجر الذي بلعه الفلسطينيون

جرّ وراءه عشرات الاتفاقات من دون أن تقوم الدولة.. ولم تلتزم إسرائيل منه سوى «بالتنسيق الأمني»

«اتفاق أوسلو».. الخنجر الذي بلعه الفلسطينيون
TT

«اتفاق أوسلو».. الخنجر الذي بلعه الفلسطينيون

«اتفاق أوسلو».. الخنجر الذي بلعه الفلسطينيون

رُفع العلم الفلسطيني أخيرًا أمام منظمة الأمم المتحدة في الذكرى السنوية السبعين لتأسيسها، بحضور الرئيس محمود عباس (أبو مازن). وكانت لهذه الخطوة رمزيتها الكبيرة، لا سيما أنه أتيح لعباس أيضًا أن يتطرّق في كلمته أمام الجمعية العامة للمنظمة الدولية إلى المصاعب التي تعترض سبيل قيام الدولة الفلسطينية السيدة المستقلة، في ظل مواصلة اليمين الإسرائيلي الحاكم بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلغاء مفاعيل «اتفاق أوسلو»، ونسف أي إمكانية لتحقيق ما هدف إليه. ومعلوم أن نتنياهو، الذي تعتمد حكومته الائتلافية على دعم غلاة المستوطنين والجماعات التوراتية والتوسعية المتطرفة، لم يؤمن يومًا بمبدأ «الأرض مقابل السلام»، وهو يغض الطرف حاليًا عن انتهاكات المتطرفين للمسجد الأقصى، وتهديداتهم المعلنة بهدمه.

«لقد قلت لإسحق (رابين)، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إنه في حال كان متمسكا فعلا بالسلام فعليه أن يصافح (ياسر) عرفات (الرئيس الفلسطيني الراحل) لإثبات ذلك (...) تنهّد رابين وقال بصوته المتعب: (إننا لا نبرم اتفاقيات السلام مع أصدقائنا)، فسألته: (ستصافحه إذن؟)، فرد بلهجة جافة: (حسنًا، حسنًا، ولكن من دون عناق)».. هذا ما قاله الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في مذكّراته حول المصافحة التاريخية بين الرجلين في عام 1993. وأضاف كلينتون: «تحوّلت باتجاه إسحق رابين الواقف على يميني وصافحته بشدة ثم أمسكت بيد عرفات الواقف مبتسما إلى يساري، فانحنى قليلا في تلك اللحظة وتابع حركته مادًا يده بتردّد واضح باتجاه رابين. وبعد لحظات قصيرة من التردد أمسك رابين بيد عرفات الممدودة لمصافحته».
اليوم بعد مرور 23 سنة على المصافحة الباردة يتضح أن هذا التردد من «ثعلبي» السياسة «الفلسطينية» و«الإسرائيلية» كان له ما يبرره، إذ ظل الاتفاق الذي تصافحا معلنين ولادته للعالم، أي «اتفاق أوسلو»، مثل خنجر بلعه الطرفان، لم يجلب الأمن للإسرائيليين ولم يجلب الدولة للفلسطينيين.
كان يفترض أن يكون «اتفاق أوسلو» مؤقتا ينتهي بإقامة دولة فلسطينية بعد 5 سنوات من توقيعه، أي في عام 1998. لكن الاتفاق الأم بقي حيًا يقاوم الموت، وجرّ خلفه اتفاقات عديدة يراها غالبية الفلسطينيين مشؤومة وتكبل أيديهم، من دون أن تقربهم قيد أنملة من دولتهم المنشودة.
فما هو «اتفاق أوسلو»؟
إنه «اتفاق إعلان المبادئ - حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية»، وتم توقيعه في 1993/9/13. ولقد نص الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل من الضفة الغربية وقطاع غزة وإنشاء «سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة» لمرحلة انتقالية تستغرق خمس سنوات، على أن تُتوج بتسوية دائمة بناء على القرار رقم 242 والقرار رقم 338.
كذلك تحدث الاتفاق عن وضع «حد لعقود من المواجهة والنزاع»، وعن اعتراف كل جانب «بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة» للجانب الآخر.
وجاء في النصّ: «من أجل أن يتمكن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم نفسه وفقا لمبادئ ديمقراطية، ستجرى انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس تحت إشراف متفق عليه ومراقبة دولية متفق عليها، بينما تقوم الشرطة الفلسطينية بتأمين النظام العام. وسيتم عقد اتفاق حول الصيغة المحددة للانتخابات وشروطها وفقا للبروتوكول المرفق كملحق؛ بهدف إجراء الانتخابات في مدة لا تتجاوز تسعة أشهر من دخول إعلان المبادئ هذا حيز التنفيذ، على أن تشكل هذه الانتخابات خطوة تمهيدية انتقالية مهمة نحو تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة».
أما عن الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، فتم الاتفاق على:
أ - تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية عند الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا.
ب - سوف تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن، ولكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
ت - من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، واللاجئون، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك. وفي بنود لاحقة جاء أنه سيراجع الطرفان بشكل مشترك القوانين والأوامر العسكرية السارية المفعول في المجالات المتبقية.
وتمخض الاتفاق، كذلك، عن تشكيل لجنة الارتباط المشتركة الإسرائيلية - الفلسطينية من أجل معالجة القضايا التي تتطلب التنسيق وقضايا أخرى ذات اهتمام مشترك، والمُنازعات. وتطرق الاتفاق إلى التعاون الإسرائيلي - الفلسطيني في المجالات الاقتصادية كذلك.
ويتضح من النص أنه كان اتفاقا سياسيا وأمنيا واقتصاديا وينظم العلاقة بين الطرفين. ولكن ما الذي طُبّق منه على الأرض؟
بعد سنوات قليلة فقط توقفت إسرائيل عن استكمال عملية انسحاب قواتها المقررة من المناطق، وبدلا من ذلك زادت من نشاطاتها الاستيطانية في كل مكان، بل واستباحت المناطق المصنفة «أ» وهي الأراضي الواقعة تحت الولاية الأمنية الفلسطينية الكاملة.
وخلال السنوات اللاحقة رفضت إسرائيل مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية التي تتحكّم بقدرة الاقتصاد الفلسطيني على التطوّر والاستقلال، واتخذت إسرائيل إجراءات أدّت إلى تعطيل المرحلة الانتقالية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال.
لكن مسألة واحدة لم تخلّ بها إسرائيل أبدا، هي النقطة الأمنية، إذ استمرت في التنسيق الأمني مع السلطة. وهذا الوضع الذي يرفضه كثيرون من الفلسطينيين وضع الاتفاق محلّ جدل كبير. ويرى قسم من الفلسطينيين أن الاتفاق كان شرًا لا بد منه، ويصفه آخرون بـ«الخياني» و«المشؤوم».
إسرائيل تمسّكت بما يحلو لها من الاتفاق، وحاولت السلطة الفلسطينية تطبيقه بالكامل، بينما عملت مجموعات مثل «حماس» و«الجهاد» على إسقاطه بالقوة، لكنه ظل يحاصر الجميع. ولكن اليوم فقط وصل الفلسطينيون إلى قناعة تامة بأنهم تأخروا كثيرًا في لفظه.
لكن لماذا يريد الفلسطينيون الآن التخلص من «أوسلو»؟
صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يمكن استمرار الوضع الراهن أبدا. وأضاف: «إسرائيل تريد السلطة من دون سلطة، وتريد احتلالا من دون تكلفة، وتريد أن تجعل غزة خارج الفضاء الفلسطيني. نحن نقول إن السلطة ولدت لنقل الفلسطينيين من الاحتلال إلى الاستقلال ولن تكون لها وظيفة ثانية. وإذا اعتقد البعض أنه سيحول وظيفة السلطة إلى تنسيق مالي وأمني فهو مخطئ. السلطة مهمتها أن تنقل الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال، فإما تكون هكذا وإما لا تكون».
وكان عريقات قد كتب دراسة قبل 3 سنوات وقدّمها للقيادة، وجاء فيها: «إن هذه السلطة ولدت لنقل الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال. نتنياهو يحاول تغيير وظيفة السلطة. السلطة لن تستطيع الصمود، ستنهار. لدينا بدائل. اللجنة التنفيذية هي الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين، والمطلوب عمله في انتخابات مستقبلية هو انتخاب برلمان دولة فلسطين وقيام دولة فلسطين، وعلينا أن نكرّس الدولة، ولكن هذا يتطلب تطبيق المصالحة قبل أي عمل آخر، وتعزيز عمقنا العربي».
ويمكن القول إنه بعد كل هذه السنين تبنّى عباس الفكرة.
عباس قال في خطابه أمام الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي بشكل واضح: «ما دامت إسرائيل مصرّة على عدم الالتزام بالاتفاقيات الموقعة معنا، التي تحولنا إلى سلطة شكلية من دون سلطات حقيقية، وما دامت إسرائيل ترفض وقف الاستيطان والإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى وفق الاتفاقات معها، فإنها لا تترك لنا خيارا، سوى التأكيد على أننا لن نبقى الوحيدين الملتزمين في تنفيذ تلك الاتفاقيات، بينما تستمر إسرائيل في خرقها. وعليه فإننا نعلن أنه لا يمكننا الاستمرار في الالتزام بهذه الاتفاقيات، وعلى إسرائيل أن تتحمل مسؤولياتها كافة كسلطة احتلال، لأن الوضع القائم لا يمكن استمراره. وأذكّركم بقرار الجمعية العامة 19/67 لعام 2012، الذي أكد أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ستكون الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين، وأن المجلس الوطني الفلسطيني هو برلمان دولة فلسطين. مرة أخرى، إن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار».
كان الخطاب في نيويورك لكن الصدى كان في إسرائيل بطبيعة الحال.
وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تطبّق من «اتفاق أوسلو» شيئا، فإن بندا واحدا في الاتفاق وهو (التنسيق الأمني) جعلها تهدّد وتوعد. إذ قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون: «لا أظنهم قادرين على وقف التنسيق الأمني، فلولا جيشنا في الضفة الغربية لانهارت السلطة».
ولم يتوقف التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين مطلقا منذ «أوسلو»، لأن كلا الطرفين يعتقد أنه يشكل مصلحة عليا. والتنسيق الأمني يعني عمليًا التعاون بين أجهزة الأمن الفلسطينية والإسرائيلية لإحباط أي أعمال «عنف» في المنطقة. ويوازي هذا التنسيق تنسيق آخر مدني يعنى بشؤون السكان الفلسطينيين من تصاريح عمل وتحويلات طبية ولمّ شمل وتجديد وثائق.
وبسبب الخوف من وقف إسرائيل كل أشكال التعاون، بما في ذلك قطع الأموال وإغلاق الحدود، ووقف توريدات السولار والكهرباء للفلسطينيين، تبدو فكرة إلغاء «أوسلو» أو ما تبقى منه مرعبة لكثيرين.
وحول هذه النقطة قال جوناثان رينولد، من مركز «بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية» الإسرائيلي: «اتخاذ خطوة كإنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل قد يؤدي إلى فوضى في الضفة الغربية. وهناك أيضًا خطر أن يدفع ذلك إسرائيل إلى زيادة وجودها في الضفة الغربية، على الرغم من أن البعض يشك في استعدادها لتخصيص الأموال والقوى البشرية الضرورية لذلك».
جدير بالذكر أنه منذ 3 سنوات، على الأقل، تريد القيادة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني، لكن من دون أن تتخذ قرارا. وما زال الجدل في محيط عباس قائما حتى بعد إلقائه الخطاب في الأمم المتحدة. إذ قال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدكتور نبيل شعث إنه «من الصعب على السلطة إلغاء اتفاق أوسلو بالكامل، لأن هناك الكثير من العلاقات المتشابكة والمترابطة التي تحتاج إلى تفكيك». وأضاف: «نحن الآن مرتبطون بالاقتصاد الإسرائيلي والكهرباء والماء والطاقة، ولنتمكن من تفكيك هذه العلاقة نحن بحاجة لخطة عمل».
وتابع الدكتور شعث، في حديث مع «راديو أجيال» المحلي في رام الله، أن «إسرائيل تنفذ اتفاق أوسلو بشكل انتقائي، وأنه على السلطة العمل بالطريقة ذاتها»، موضحا: «لا يوجد شيء اسمه حل السلطة، وإن السلطة تدريجيا ستغير استراتيجيتها وطريقتها في العمل، وستصبح سلطة مقاومة وليست سلطة منفذة لـ(أوسلو) فقط».
لكن محمود الهبّاش، مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأحد المقربين منه، ذكر أن «الجانب الفلسطيني لا يتحدث عن إلغاء الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي وفق (أوسلو)، وإنما يطالب بتنفيذ متبادل لها».
أما واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فقال إن خطوات مهمة كبيرة ستتخذ في القريب العاجل، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن «أهم الخطوات التي سيعلن عنها الرئيس الفلسطيني محمود عباس كرئيس لدولة فلسطين، تنفيذا لخطابه في الأمم المتحدة، هي إعلان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية كحكومة مؤقتة للدولة الفلسطينية المحتلة، على أن يصبح المجلس الوطني الفلسطيني هو برلمان الدولة». وأكد أبو يوسف، أن هذا ما يعنيه «إعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال».
لكن أبو يوسف أوضح أن هذه القرارات لن تتخذ فورا، لكنها لن تتأخر إذا لم يستجب العالم لخطاب عباس. وأوضح أن «اتخاذ هذه الخطوات يعني بالضرورة انتهاء دور السلطة والإعلان عن الانتقال إلى دولة محتلة تقودها منظمة التحرير، تمهيدا لخطوات لاحقة». ثم شدد على أن الاتصالات بدأت مع الفصائل الفلسطينية بما فيها «حماس» و«الجهاد» لعقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية العام للنقاش واتخاذ قرارات حاسمة بهذا الصدد.
وكان عباس أعلن في خطابه في الأمم المتحدة أنه لن يلتزم بالاتفاقات مع إسرائيل إذا لم تلتزم هي. وحول هذا الجانب قالت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» شارحةً: «إن التحلل من الاتفاقات سيبدأ واحدا تلو الآخر وصولا إلى مواجهة سياسية شاملة تتوقعها السلطة ستؤدي في النهاية إلى انهيارها». وبحسب المصادر: «لا يوجد قرار بحل السلطة، وإنما إذا انهارت فستعلن السلطة أنها فشلت في نقل للشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، وستعلن دولة تحت الاحتلال تقودها المنظمة».
ولا يمكن للفلسطينيين الاحتفاظ بالسلطة في ظل إعلان الدولة، وذلك لأن السلطة «المؤقتة» إنما وُجدت لإقامة الدولة «الدائمة». وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، عقد الفلسطينيون اتفاقات أخرى مع إسرائيل يمكن وصفها بملاحق «أوسلو» أو «أولاد وبنات الاتفاق الأم».

* أبرز الاتفاقات الأخرى
* «اتفاق غزة – أريحا» (1994): أطلق عليه اسم «الاتفاق التنفيذي لأوسلو» الذي وُقع في 4 مايو (أيار) 1994، وتضمن الخطوة الأولى لانسحاب إسرائيل من غزة وأريحا وتشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وأتبع باتفاقين تنفيذيين:
* «اتفاق باريس الاقتصادي» (يوليو/ تموز، 1994): ينظم العمالة الفلسطينية والعلاقات المالية والاقتصادية بين الطرفين.
* «اتفاقية طابا أو أوسلو الثانية» (1995): وعُرفت بـ«اتفاقية المرحلة الثانية من انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية»، إذ تعهدت إسرائيل بالانسحاب من 6 مدن عربية رئيسية و400 قرية في بداية عام 1996، وانتخاب 82 عضوا للمجلس التشريعي، والإفراج عن معتقلين في السجون الإسرائيلية.
وقسّمت «اتفاقية طابا» المناطق الفلسطينية إلى «أ» و«ب» و«ج» لتحديد مناطق حكم السلطة والمناطق الخاضعة لإسرائيل وغير ذلك.
* «اتفاق واي ريفر الأول» (1998): وينص الاتفاق على مبدأ «الأرض مقابل الأمن»، وأن إسرائيل ستنفذ مرحلة جديدة من إعادة الانتشار في 13 في المائة من الضفة الغربية مقابل قيام السلطة الفلسطينية بتكثيف حملتها ضد «العنف».
* «اتفاق واي ريفر الثاني» (1999): وقع في منتجع شرم الشيخ المصري في 4 سبتمبر (أيلول) 1999، وتم فيه تعديل وتوضيح بعض نقاط «اتفاق واي ريفر الأول»، مثل إعادة الانتشار وإطلاق السجناء والممرّ الآمن وميناء غزة والترتيبات الأمنية وغير ذلك.
* ثم جاءت «خريطة الطريق»: وهي عبارة عن خطة سلام أعدتها عام 2002 اللجنة الرباعية التي تضمّ كلا من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. وتركّز هذه الخريطة على نقاط من بينها إقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية.. وعلى أن تتم التسوية النهائية بحلول عام 2005.
* «اتفاق أنابوليس» (2007): عقد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في الولاية الثانية من رئاسته مؤتمرا في القاعدة البحرية بمدينة أنابوليس، عاصمة ولاية ميريلاند الأميركية، في محاولة لاستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وصدر عن المؤتمر بيان مشترك بين القادة الإسرائيليين والفلسطينيين، دعا إلى الانخراط في مفاوضات يكون هدفها التوصل إلى اتفاق سلام كامل بحلول نهاية 2008.
* في 2010: أطلق الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، في 2 سبتمبر، محادثات مباشرة في البيت الأبيض جمعت بين محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكن انتهاء العمل في إسرائيل بالتجميد الجزئي للاستيطان في 26 سبتمبر أدى إلى انهيار المفاوضات.
* في 2011: رفض نتنياهو دعوة أوباما إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 تضم الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
* في 2012: أجرى المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون جولات مفاوضات جديدة من دون نتيجة.
* في 2013: أطلق وزير الخارجية الأميركي جون كيري مفاوضات (9 شهور) لإعلان اتفاق سلام، لكنها انهارت بعد اللقاء الخامس. ولم تتجدد المفاوضات.
لم يلتزم الإسرائيليون بأي اتفاق عقدوه، لا سياسي ولا اقتصادي ولا على الأرض. ولم ينسحبوا من الضفة، ولم يسلموا المناطق، ولم يسمحوا بإقامة الدولة، ورفضوا أي تطوير حتى على الاتفاق الاقتصادي، فقط التزموا بالتنسيق الأمني.
ولا يخفي مسؤولون فلسطينيون أنهم يفهمون أن إسرائيل أرادت منذ البداية «شرطيًا» على حدودها، لكنهم يقولون إنهم ليس بينهم «لحد» - في إشارة إلى أنطوان لحد قائد ميليشيا «جيش لبنان الجنوبي» العميلة لإسرائيل في جنوب لبنان - وإن دولة كل الفلسطينيين ستقوم في نهاية الأمر، على الرغم ممّا يعتقده «المارّون بين الكلمات العابرة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.