تشهد أسواق العقارات في قطاع غزة، منذ نحو عامين، حالة من الركود الشديد في ظل تراجع الأوضاع الاقتصادية العامة التي تتأثر بشكل مباشر بالوضع السياسي والأمني القائم وما يخلفه الحصار الإسرائيلي على واقع الحياة المرير، وما تنتجه الحروب العسكرية التي تُشن كل نحو 3 أعوام مرةً واحدة، لتحدث مزيدًا من الضرر في هذا المضمار.
وكثيرًا ما كان يشهد القطاع من عام إلى آخر حالة من الثورة العمرانية، وتشييد العشرات من المباني السكنية والتجارية على الرغم من تأثر الغزيين بعوامل الواقع السياسي والأمني الذي يعرقل عملية التطوير والبناء، التي يحتاجها السكان في ظل ارتفاع أعداد السكان وحاجتهم لمساكن جديدة.. إلا أنه منذ شهر مايو (أيار) من العام الماضي، بدأت الأوضاع تشهد مزيدًا من التعقيد الذي أثر سلبًا على الإعمار، وبالتالي شكّل حالة من الركود تصاعدت مع مرور الأيام.
ويرجع أبو حلمي الحلبي، وهو أحد أشهر السمسارة في غزة، حالة الركود الكبيرة في سوق العقارات إلى عدم الاستقرار سياسيًا وأمنيًا، وعدم توفر سيولة مالية لدى المستثمرين الذين تعرضوا لأزمة كبيرة بوضع رؤوس أموالهم في تشييد مبانٍ خاصة بهم، ولكنها تعطلت وتوقفت عن العمل منذ نحو عامين بسبب عدم توفر مواد البناء التي تحظر إسرائيل إدخالها وتوقف تهريبها عبر الأنفاق التي دمرتها السلطات المصرية ما ضاعف من الأزمة الحالية.
وأشار الحلبي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «لفترة زمنية معينة، ما بين عامي 2009 و2012، كان هناك طلب كبير على العقارات، وخصوصًا في ظل تحسن الوضع الاقتصادي بغزة، سواء على الصعيد الحكومي أو القطاع الخاص أو على مستوى الفرد»، لافتًا إلى أن غالبية موظفي «حكومة حماس» سابقًا كانت رواتبهم منتظمة ويبحثون عن عقارات سكنية للتمليك أو الإيجار بحكم واقعهم المعيشي وحاجتهم للاستقرار في منازل خاصة بعيدًا عن ذويهم.
ولفت الحلبي إلى أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والتي استمرت 51 يومًا، زادت من تعقيد الوضع وأصبحت أموال المستثمرين مجمدة في انتظار دخول مواد البناء التي تضع إسرائيل قيودًا مشددة على إدخالها منذ الحرب، مشيرًا إلى أن ذلك وضعهم تحت ضغط مطالب أصحاب الشقق الذين يضعون في العادة مبلغًا ماليًا صغيرًا يُعرف باسم «العربون» لحجزها قبيل إنهاء تجهيزها.
وتظهر إحصائيات حصلت عليها «الشرق الأوسط» من الأحوال المدنية في وزارة الداخلية، أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد السكان بغزة في السنوات الأخيرة، حيث بلغ عدد المواليد من يناير (كانون الثاني) عام 2012 إلى أغسطس (آب) عام 2015 أكثر من 176 ألف مولود، ما يعني أن هناك زيادة مطردة في أعداد الأسر الفلسطينية.
ويشير مختصون إلى أن هذا الارتفاع يؤثر بشكل أو بآخر على حاجة الفرد في إيجاد مسكن، إما للاستقلال به بعيدًا عن عائلته إلى جانب زوجته وأطفاله، أو أن يبحث عن مسكن كبير المساحة يستطيع العيش فيه دون أي مضايقات حياتية قد تواجهه مستقبلاً.
ويذكر الحلبي أنه قبيل الأزمة الحالية وحالة الركود الكبيرة، وصل سعر الشقق السكنية المفروشة إلى ألف دولار للشقة الواحدة، مشيرًا إلى أنه مع توفر مثل هذه الشقق وتراجع الطلب عليها في ظل الوضع القائم انخفض سعرها إلى 500 دولار.
وبين الحلبي أن إيجار الشقة السكنية غير المفروشة انخفض من 500 إلى 300 دولار، مشيرًا إلى أن هناك شققًا متوفرة في مواقع حساسة ومناطق جمالية وراقية، وخصوصًا تلك التي تطل على ساحل الأبيض المتوسط، ما زالت تحافظ على أسعار تأجيرها.
وأشار إلى انخفاض أسعار تأجير «الفيلات» من 24 إلى 15 ألف دولار في العام الواحد، مرجعًا ذلك إلى تراجع عمل المؤسسات والوفود الأجنبية خاصة منها، والتي تعتمد على استئجارها.
وعن أسعار التمليك، يشير السمسار الحلبي إلى أن الشقق «العظم» (غير المنتهية التشطيب) كان يصل سعرها إلى 70 ألف دولار، لكنها انخفضت ما بين 57 إلى 60 ألف دولار حسب موقعها الاستراتيجي ومساحتها. فيما انخفض سعر الشقة الجاهزة «المشطبة» من 100 ألف دولار إلى 90 أو 87 ألف دولار وفقا لمكانها ومساحتها.
ولفت إلى أن الأسعار تنخفض أكثر من الأرقام المذكورة في مناطق جنوب ووسط وشمال قطاع غزة، بحكم الموقع الجغرافي المهم لمدينة غزة، باعتبارها المركز الرئيسي للقطاع. ويشير السمسار إلى أن أسعار إيجار الشقق في الحالة الممتازة تصل في تلك المناطق إلى 250 دولارًا فقط، وأن هناك عمليات تأجير يمكن أن تصل إلى 150 دولارًا، بحكم أنها مناطق لا تشكل أهمية للمواطنين، وخصوصًا أنها تشكل أرضًا خصبة للجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملياته وهجماته العنيفة.
وذكر الحلبي أن أسعار إيجار الشقق ارتفعت قليلاً بنحو 50 إلى 70 دولارًا، بعد الحرب الأخيرة في ظل حاجة النازحين من منازلهم بعد تدميرها مثل سكان أحياء الشجاعية وخزاعة وغيرها، مبينًا أن مؤسسات دولية وحكومية تكفلت بدفع الإيجارات لهم ما أدى لارتفاع أسعارها لكنها عادت لتنخفض مجددًا مع بدء عملية الإعمار، وإن كانت بطيئة حتى الآن وليس بالمستوى المطلوب الذي يتناسب مع حجم المنازل المدمرة.
وتظهر إحصائيات حصلت عليها «الشرق الأوسط» من وزارة الأشغال العامة والإسكان، أن المنازل المدمرة بلغت نحو 12 ألفًا، فيما بلغ عدد المهدمة 160 ألفًا، يضاف إليها 6600 منزل غير صالح للسكن، حيث نزح غالبيتهم إلى المدارس، في حين أن بعضهم بات يبحث مكان آخر يؤويهم مثل منازل أقاربهم أو منازل للإيجار.
وأعلنت الوزارة مؤخرًا عن البدء الفعلي لإعمار غزة من خلال سماح السلطات الإسرائيلية بإدخال مواد بناء بهدف إعادة إعمار المنازل التي تم تدميرها كليا، وليس الاقتصار فقط على المنازل المتضررة جزئيًا.
ويقول المقاول يحيى الجمل لـ«الشرق الأوسط»، إن «السماح بإدخال مواد البناء لصالح تلك المنازل المدمرة سيتيح الفرصة لأصحابها والذين استأجروا شققًا سكنية للعودة إلى منازلهم مجددًا»، مبينًا أن ذلك سيؤثر إيجابًا على واقع حياة العمال من خلال كسب المال وتحسن وضعهم الاقتصادي، وعلى أصحاب المنازل من خلال قدرتهم على استعادة حياتهم الطبيعية دون المشكلات التي يواجهونها من قبل المؤسسات المانحة التي تدفع لهم الإيجارات.
وأوضح الجمل أن إسرائيل سمحت بإدخال مواد بناء أيضا للقطاع الخاص للسماح للمواطنين الذين لم يتضرروا من الحرب ببناء ما يحتاجون، مبينًا أن ذلك قد يحسن من واقع سوق العقارات والعودة لشراء الأراضي والبناء عليها، مشيرًا إلى أن «ذلك ليس كافيًا الآن، والسوق بحاجة لآلاف الأطنان من الإسمنت لاستعادته قوته من جديد».
ويرى أحمد أبو قمر، الصحافي المختص في الشأن الاقتصادي، أن إعادة إعمار المنازل المدمرة كليًا سيؤثر سلبًا على سوق العقارات وتتوقف عمليات إيجار الشقق السكنية التي تحركت قليلاً فترة ما بعد الحرب الأخيرة.
وأكد أبو قمر أن سوق العقارات حاليًا تشهد ركودًا كبيرًا بسبب الوضع المادي السيئ لدى الغزيين، مشيرًا إلى أنه على الرغم من انخفاض أسعار العقارات بالنسبة للسماسرة والمختصين فإن المواطن ما زال ينظر إليها بأنها مرتفعة بالنسبة للوضع المعيشي الحالي، ما أدى لعجز لديهم في التوجه نحو شرائها.
وأرجع أبو قمر السبب في ذلك إلى عدم توفر مواد البناء باستمرار منذ تسع سنوات بسبب الحصار المفروض على القطاع، والغلاء المعيشي وانقطاع رواتب أكثر من 45 ألف موظف من موظفي حكومة حماس سابقًا، وعدم وجود مساحات شاسعة وقلتها، مشيرًا إلى أن ذلك أثر على السماسرة والمقاولين الذين باتوا لا يستفيدون من سوق العقارات بسبب شحها.
ولفت أبو قمر إلى وجود انفجار سكاني في القطاع بات يؤثر على حياة المواطن وعائلته، حيث يبحث المواطن عن منزل يمكن أن يستقر فيه؛ إلا أن الظروف العامة تؤثر على إمكانية قدرته في تحقيق ذلك ليبقى رهينةً للواقع المعيشي الصعب بغزة.
العقارات في غزة.. موجة ركود غير اعتيادية يرافقها انخفاض في الأسعار
عدم توفر مواد البناء وشحّ السيولة لدى المستثمرين عطّلا المشروعات
العقارات في غزة.. موجة ركود غير اعتيادية يرافقها انخفاض في الأسعار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة