سينما الكوارث تعددت أسبابها وأفضلها من بطولات جماعية

رحيل المخرج البريطاني جون غيلرمين صاحب «البرج الجهنمي»

لقطة من «البرج الجهنمي»، و تحدي المستحيل في «إيفرست»
لقطة من «البرج الجهنمي»، و تحدي المستحيل في «إيفرست»
TT

سينما الكوارث تعددت أسبابها وأفضلها من بطولات جماعية

لقطة من «البرج الجهنمي»، و تحدي المستحيل في «إيفرست»
لقطة من «البرج الجهنمي»، و تحدي المستحيل في «إيفرست»

بيت.. سلّم داكن الإضاءة. النيران تشتعل في الجانب البعيد المقابل. خمسة رجال إطفاء يحاولون إخمادها. فجأة يقع انفجار وتنتشر نيران جديدة على جوانب المكان وينهار السقف فوق أربعة من رجال الإطفاء. الخامس يستنجد بأن الوضع خطير. لقطة ليلية من الخارج: النار تشتعل في واحد من الأدوار العليا في ناطحة سحاب. الطابق كله يحترق. لقطة أخرى إلى المكان الأول: رجال إطفاء يصلون ويبدأوا بإزالة السقف المهدم فوق زملائهم.
هذا هو واحد من مشاهد الذروة في «برج الجحيم» The Towering Inferno وهو المشهد الذي ينص السيناريو الذي وضعه الكاتب المرموق سترلينغ سيلفانت (نقلاً عن ثلاثة كتب لثلاثة مؤلفين) أنه وقع في الدور 81، لاحقًا ما ستنتقل النيران إلى أدوار أخرى مهددة ليس رجال الإطفاء وحدهم، بل كذلك رهط كبير من الساكنين في الطوابق العليا حيث لا مهرب سوى مصاعد المباني التي قد تنقطع بمن تحملهم وتهوي أو مصاعد الإطفاء المعلّقة التي يتأخر وصولها إلى ما قبل نهاية الفيلم، أو في مشاهد سابقة لحالات انتحار شوهدت في كارثة 2001 - بإلقاء البعض لأنفسهم من علٍ.

* حواس عاطفية
مخرج الفيلم هو البريطاني جون غيلرمين الذي توفي في اليوم الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي. أيامها لم يكن هناك أي تقنية ديجيتال والسقف المنهار، وإن لم يكن من «الباطون المسلّح»، فإنه انهار فعلاً فوق الممثلين والنيران التي كانوا يواجهونها حقيقية.
الفيلم، الذي تم تحقيقه سنة 1974 من بطولة ستيف ماكوين وبول نيومان وويليام هولدن وفاي داناواي وفرد استير ومجموعة كبيرة من الممثلين المساندين، كان أحد النجاحات الكبيرة في هوليوود في ذلك العام. تكلّف 14 مليون دولار فقط (شيء كهذا يكلف اليوم 150 مليون دولار) وبلغت إيراداته الأميركية فقط 116 مليون دولار عندما كان سعر التذكرة لا يتجاوز الخمس دولارات أو أقل.
هناك 47 سنة بين هذا الفيلم (من بين أبرز الأفلام الـ38 التي حققها غيلرمين ما بين بريطانيا والولايات المتحدة) وبين الفيلم الكوارثي الحالي «إيفرست» حيث الخوف من الأعالي يطل من جديد ممثلاً هذه المرّة بفريق من متسلّقي الجبال يتحدّون «إيفرست» ويدفعون ثمن تحديهم أرواحًا وعاهات. على عكس هذا الفيلم، أحداث «إيفرست»، كما أخرجها بالتازار كورماكور من بطولة جاسون كلارك وجوش برولين وكايرا نايتلي وروبن رايت وإميلي واتسون من بين آخرين.
في الواقع سينما الكوارث كانت دائمًا قادرة على اللعب على الحواس العاطفية. لقد تعلّم الإنسان أن الأرض ليست طيّعة لما يريد. الأجواء لا يمكن التحكم بها. الزلازل لا يمكن رصدها مسبقًا. الفيضانات قد تحدث خلال ساعة واحدة من هطول مطر شديد. الحرائق قد تشتعل والتسونامي قد يقع وفي أسوأ الأحوال النيازك قد تقع.
السينما قدّمت كل احتمال ممكن أكثر من مرّة. أول مرّة في فيلم تسجيلي تم تصويره من قبل مجهول سنة 1906 إثر الزلزال الكبير الذي ضرب سان فرانسيسكو. لربع ساعة تجول الكاميرا في المدينة المضروبة. تلتقط مشاهد الحياة في الأماكن الكثيرة المتضررة، وبعد تلك التي لم تتضرر كثيرًا.
المسافة بعيدة جدًّا بين ذلك الفيلم وذلك الذي شوهد في ربيع هذا العام بعنوان «سان أندرياس» حيث الزلزال يعاود ضرب سان فرانسيسكو، هذه المرّة بكل ما لدى خيال صانعيه من عجز على تصوير الواقع. ما يحدث هو ابتهاج بالدمار وببطولة فرد واحد (دواين جونسون) على إنقاذ عائلته الأولى بالمعروف في هذه الحالة. الحقائق البسيطة (مثل أنه لا أحد يستطيع المشي خلال الزلزال فما البال بالركض؟) أُهملت، والبطولة الفردية غطّت على التراجيديا الأكبر.
هذا لم يكن شأن فيلم كوارثي آخر من حقبة أعمال الثمانينات وهو «زلزال» الذي حققه مارك روبسون في عام 1974 أيضًا عن سيناريو شارك في كتابته ماريو بوزو الذي كان نجمًا جديدًا في الكتابة بعد نجاح «العراب» لفرنسيس فورد كوبولا قبل عامين.
الكارثة اجتماعية كاملة في «زلزال» الذي قاد بطولته كل من جورج كندي وشارلتون هستون وآفا غاردنر وجنفييف بوجولد من بين آخرين. وهي شاملة لا بطولة فيها، فالكل ضحية والجميع يضع الآخر في سعيه لإنقاذه من براثن الموت باستثناء شخصية واحدة كان لا بد أن تلعب دور الشرير منتهز الفرص.

* بحرًا وجوًا
على غراره، وقبل عامين من إنجازه، ضربت الكارثة باخرة سياحية ضخمة في «مغامرة بوسايدون». سترلينغ سوليفانت وضع السيناريو بالمشاركة مع آخرين وأخرجه إنجليزي آخر هو رونالد نيم مع جين هاكمن وارنست بورغنين وشيلي ونترز في البطولة.
الباخرة الضخمة تغرق والماء يدخلها وتنقلب رأسًا على عقب. سريعًا ما يتبدّى معسكران واحد بقيادة هاكمن والآخر بقيادة بورغنين وكل منهما يعتقد أنه يعرف سبيل النجاة من هذا المأزق.
رونالد نيم مسؤول أيضًا عن فيلم كوارثي آخر هو «نيزك»، حيث يتوجه نيزك كبير يبلغ عرضه نحو ثماني كيلومترات صوب الأرض. العالم شون كونيري أمامه مهمّة كبيرة وخطرة يؤازره فيها هنري فوندا وكارل مالدن ونتالي وود.
وما بين السماء والأرض، وعلى النحو الجماعي ذاته من تعدد المصائر، شاهدنا «مطار» (1970) لجورج سيتون وهنري هاذاواي وبطولة بيرت لانكاستر ودين مارتن وجورج كندي، والمجال هنا جوي إذ إن الطائرة التي أقلعت من الشرق وستحط في الغرب مهددة بنهاية وخيمة.
‪منذ «تايتانك» لجيمس كاميرون (1997) وأفلام الكوارث صارت أكبر حجمًا لجمهور ما عاد يرضى بالتقنيات والخدع السابقة. هذا مفهوم في عصر بات يمكن لمشاهد في الثانية عشرة تأليف لعبته الكوارثية على الفيديو وإدارتها ليل نهار في الأعوام الثلاثة الأخيرة، مثلاً شاهدنا كل كارثة يمكن التفكير بها مترجمة على الشاشة بحكايات وصور مضخّمة من حوادث الطائرات («طائرة مخطوفة») إلى عواصف رملية عاتية («في العاصفة») ومن دمار «بومباي» إلى «في قلب البحر» وصولاً إلى «سان أندرياس» و«الباقون» حول وقوع يوم القيامة. فيلم غيلرمين ذاته «البرج الجهنمي» نال ثلاثة أوسكارات (في التصوير والمونتاج والموسيقى) و«تايتانك».. «قشّ» 11 أوسكارًا (من بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل تصوير وأفضل مونتاج) لكن هذا النوع من الأفلام عادة لا يحصد أوسكارات كثيرة، بل يبقى في متناول الترفيه الجماهيري وحده.
المخرج الذي رحل قبل يومين، جون غيلرمين، اشتغل على أفلام كبيرة أخرى ولو غالبًا مختلفة فأنجز «بلو ماكس» (1966) و«كينغ كونغ» (1976) و«شافت في أفريقيا»، لكن عمله على «البرج الجهنمي» ما زال من بين أفضل ما حققه ومن بين أفضل أفلام الكوارث للآن.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.