رغم الظروف التي تحيط بالعالم من حروب واقتتال وثورات وعمليات إرهاب، وانتهاك صارخ لحرمة الأديان، وأعمال التطرف والعنف، ورغم أن السعودية تحديدًا مشغولة الآن بقضايا كبرى، لم ينسَ الملك سلمان بن عبد العزيز، القضية الفلسطينية وضرورة إعطاء الشعب الفلسطيني كافة حقوقه المشروع، فقد بقيت القضية هي هاجسه ومن أولوياته، وظل المشهد الفلسطيني حاضرًا لديه، فهو من أكثر الداعمين للقضية منذ أن كان أميرًا للرياض، وحتى تسلمه مقاليد السلطة في بلاده ملكًا سابعًا للبلاد التي ظلت طوال العقود الماضية، رغم تعاقب الأحداث، وتبدل الظروف والتوجهات، المؤيد والمناصر للشعب الفلسطيني، بل عُدت القضية الفلسطينية الأساسية في سياسته الخارجية منذ عهد التأسيس والنشأة على يد الملك عبد العزيز إلى عهد ملك العزم والحزم، الملك سلمان بن عبد العزيز.
وقاد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، الأسبوع الماضي، تحركًا دوليًا لحماية الفلسطينيين والمسجد الأقصى، إثر التصعيد الإسرائيلي في المسجد والاعتداء السافر على المصلين، من خلال اتصالات أجراها الملك مع الأمين العام للأمم المتحدة، وعدد من قادة العالم، وشدد فيها على ضرورة بذل جهود جادة وسريعة، وتدخل مجلس الأمن لاتخاذ التدابير العاجلة لوقف الانتهاكات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وحماية الشعب الفلسطيني والمقدسات الدينية، وإعطاء الشعب الفلسطيني كافة حقوقه المشروعة، واصفًا التصعيد الأخير بالخطير، وأنه سيسهم في تغذية التطرف والعنف في العالم أجمع، في حين كشف صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أبلغه بقرار اتخذه الملك سلمان بإعطاء المسجد الأقصى والقدس والقضية الفلسطينية، الأولوية على باقي القضايا الأخرى الكبيرة التي تنشغل بها السعودية الآن.
وأوضح الدكتور ناصر الجهيمي، نائب الأمين العام السابق في دارة الملك عبد العزيز، في رصده لدور الملك عبد العزيز في دعم ومساندة القضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى، أن السعودية وقفت وهي في طور التأسيس والنشأة بقيادة مليكها المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود موقف المؤيد والمناصر للشعب الفلسطيني حينما جاءت قضية فلسطين على محك المفاوضات الحالية بين الملك عبد العزيز والحكومة البريطانية في الاجتماعات التي سبقت اتفاقية جدة في ذي القعدة من عام 1345ه/ 1926م، بشأن إلغاء معاهدة القطيف الموقعة عام 1334ه/ 1915م واستبدالها بمعاهدة جديدة تحقق طموحات الملك عبد العزيز في وجود علاقات تربطه مع بريطانيا على أساس المعاملة بالمثل. وأراد البريطانيون أن يعترف الملك عبد العزيز آل سعود مقابل ذلك بمركز خاص لهم في فلسطين، أو بوجود خاص لهم في فلسطين، يعترف الملك بموجبه بالانتداب البريطاني على فلسطين، ويعترف بوعد بلفور المضمن في صك الانتداب، ويكونون بذلك قد كسبوا حليفًا قويًا لهم، لأنه أقوى حكام الجزيرة العربية بلا منازع، ومن أقوى وأهم الحكام العرب خارجها، ويكونون كذلك قد أضعفوا قوى المعارضة العربية. لكن الملك عبد العزيز رفض المساومة على حقوق أمته ومقدراتها الدينية والوطنية، فأرض فلسطين أرض عربية إسلامية رواها الأجداد العرب والمسلمون بدمائهم، وحافظوا عليها رغم ما حل بها من نكبات واعتداءات من الصليبيين ومن قبل اليهود الذين ما فتئوا يخططون لانتزاعها من أهلها بالظلم والقوة.
وعن مشروع التقسيم أوضح الجهيمي أن الملك عبد العزيز أعلن عن رفضه للمشروع وبذل جهودًا كبيرة على المستوى العربي والدولي لمنع هذا المشروع. وكلف الملك عبد العزيز ابنه الأمير فيصل لتكوين لجان شعبية في أنحاء السعودية لجمع التبرعات لإنقاذ فلسطين وشعبها وخاطب أمراء المناطق ليحثوا أبناء السعودية على الاحتجاج ضد قرار التقسيم. وأصبحت وزارة الخارجية السعودية بمثابة الهيئة الدبلوماسية لفلسطين تتابع المحاولات السياسية لحل القضية الفلسطينية وتتصل بالحكومات وتوضح الحقائق.
وقد وصف ونستون تشرشل، الملك عبد العزيز بأنه «أصلب وأعند حليف لنا يعارضنا بالنسبة للقضية الفلسطينية». وقال الملك عبد العزيز مخاطبًا الساسة البريطانيين: «أنا لا أستطيع أن أنصح العرب والفلسطينيين بأن يكونوا هادئين بعد هذا كله». وفي اجتماع تم بين الملك عبد العزيز واللورد بلهافين وستنتون والسير ريدر بولارد في الثالث عشر من ذي القعدة سنة 1356ه/ 1938م قال الملك عبد العزيز: «إن مشروع تقسيم فلسطين يحسب بحق نكبة عظيمة على العرب والمسلمين، ولذلك يجب أن يصرف عنه النظر بتاتا وأن يسار إلى خطة أخرى».
وفي ما يتعلق بالهجرة اليهودية وجهود الملك عبد العزيز في مكافحتها يوضح الجهيمي أن القلق الذي أحدثته هجرة اليهود إلى فلسطين والمواقف الصلبة التي اتخذها لوقف هذه الهجرة جعلت بن غوريون يعرض على سينت جون فلبي عام 1355ه/ 1937م اقتراحًا لعرضه على الملك عبد العزيز مفاده إنهاء حكم الانتداب البريطاني على فلسطين وإقامة وحدة بين فلسطين وشرق الأردن والسعودية شريطة أن تفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وشرق الأردن، لكن الملك عبد العزيز رفض هذا المقترح رفضًا قاطعًا.
ويشير الجهيمي في هذا الصدد إلى أن فلبي في كتابه اليوبيل العربي يروي أنه في عام 1358ه/ 1939م قابل الزعيم الصهيوني الدكتور حاييم وايزمن الذي طلب مساعدته في توسط فلبى لدى الملك عبد العزيز أن تعطى فلسطين لليهود وأن يجلى العرب منها ويوطنوا في مكان آخر ويضع اليهود مقابل ذلك عشرين مليون جنيه إسترليني تحت تصرف الملك ابن سعود لهذه الغاية (وللقارئ الكريم أن يتصور هذا الرقم المالي في عام 1358ه/ 1939م والظروف المالية التي تمر بها السعودية آنذاك). وفي ما يتعلق باستمرار الهجرة اليهودية قال الجهيمي: «ركز الملك عبد العزيز رحمه الله على موضوع الهجرة اليهودية عند اجتماعه بكل من روزفلت الرئيس الأميركي، وتشرشل رئيس الوزراء البريطاني»، معتقدًا أن استمرار الهجرة اليهودية سيخلق وضعًا جديدًا في فلسطين تكون نتائجه سيئة عليهم وممهدة لقيام دولة يهودية على التراب الفلسطيني. وقال الملك عبد العزيز لتشرشل عندما رفض طلب وقف الهجرة اليهودية: «على بريطانيا والحلفاء أن يختاروا أحد أمرين: إما صداقة العرب أو مقاومة عربية حتى الموت. وعندما طلب منه تشرشل المساعدة في كبح جماح العرب الفلسطينيين المتطرفين - كما وصفهم – لكي يقبلوا بتسوية مع الصهاينة»، أجاب الملك رحمه الله بقوله: «لا أستطيع أن أخون ضميري وشرفي كمسلم بقبول تسوية مع الصهيونية».
وخلال ذلك التاريخ كلف الملك عبد العزيز ممثله خالد القرقني بشراء أسلحة للفلسطينيين وإرسالها إليهم رغم الظروف السياسية والاقتصادية آنذاك وكان مما ورد في رسالته الموجه إلى وزير ماليته عبد الله السليمان بتاريخ 6/ 7/ 1358ه الموافق 21/ 8/ 1939م ونصها: «.. ابن سليمان.. الطائف.. خالد أمضى الاتفاقية الخاصة بالسلاح الذي كان أهل فلسطين اشتروه من ألمانيا ومقداره (ألف بندقية) ومليون خرطوشة وخمسين رشاشًا مقابل تعهدنا بأن ندفع قيمتها عبارة عن تسعة آلاف وخمسمائة جنيه إسترليني فيها سبعة آلاف كان سلمها أهل فلسطين للشركة ونحن الآن سندفعها لأهل فلسطين والباقي وهو ألفان وخمسمائة ستدفعونها للشركة البائعة فاستعدوا وبالمبلغ المذكور حتى إذا جاءنا علم شحنها كان المبلغ حاضرًا وأرسلتموه إلى الجهتين. عبد العزيز».
ولقد عبر عدد من الصهاينة عن شعورهم بتأثير السياسة السعودية ونجاحها في دعم القضية الفلسطينية. فهاهو ديفيد بن غوريون يكتب لزوجته رسالة في عام 1358ه/ 1939م ويقول فيها: «إن ابن سعود يعارض قيام دولة يهودية، ففلسطين بلد عربي وهو لا يستطيع أن يرى شعبًا يحتل قطعة أرض عربية».
وقد استمر الملك عبد العزيز يبذل قصارى جهده من خلال الطرق الأكثر نفعًا وفائدة، مع تأييده الكامل لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة، ومما قاله رحمه الله: «أما الحقيقة الواقعة فإن أهل فلسطين بعد أن رأوا من الحكومة البريطانية إصرارها على تقسيم بلادهم، ثم ما آلت إليه الحالة من الإجراءات الأخيرة اعتقدوا أن الحكومة البريطانية تريد إفناءهم عن آخرهم، لتحل اليهود محلهم في بلادهم، وهم بعد هذا الاعتقاد لم يتركوا بابًا للمقاومة إلا طرقوه، ولا سبيلاً لنيل المساعدات إلا سلكوه».
ونتيجة لمواقف السعودية الداعمة للقضية الفلسطينية حاول الملك عبد العزيز توسيع دائرة الاتصال بدول أوروبية أخرى تقدم العون والمساندة للقضية. ويذكر شرودر في دراسة له عن موازين القوى بين دول المحور والعالم العربي أن الملك عبد العزيز اتصل بألمانيا بعد أن يئس من بريطانيا التي لم تغير من مواقفها الداعمة لإسرائيل. ويقول شرودر إن الملك عبد العزيز اثبت بذلك أنه لم يكن أداة طيعة في أيدي البريطانيين بل كان يهدف إلى تحصين بلاده للدفاع عن نفسها أمام التهديدات البريطانية لها. ولا شك أن اتصالات السعودية الخارجية كانت تتأثر برغبة السعوديين في دعم الفلسطينيين والحصول على أسلحة لهم مهما كان الأمر لمواجهة أعدائهم.
وفي عام 1362ه/ 1943م أسست السعودية قنصلية عامة لها في مدينة القدس بفلسطين لتسهيل الاتصالات مع الشعب الفلسطيني وتيسير الدعم لقضيته العادلة.
والمطلع على المراسلات التاريخية بين الملك عبد العزيز ورئيسي الولايات المتحدة الأميركية فرانكلين روزفلت وهاري ترومان وملك بريطانيا جورج الخامس ورئيسي الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين وونستون تشرشل، يتضح لديه قوة الموقف السعودي وصلابته مع تلك الدول الكبرى لدعم الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية. وتعد الرسالة الأولى الموجهة من الملك عبد العزيز إلى روزفلت من المصادر المهمة لشرح تاريخ فلسطين ودحض المزاعم اليهودية في الأراضي العربية. كما أن تلك الرسالة تعد أكثر رسالة عربية جرأة وصراحة تحدثت عن الحق الفلسطيني بكل شمولية وعدل ولا يوجد لها مثيل في المواقف العربية الأخرى في ذلك الوقت المبكر.
ويعد اللقاء التاريخي الذي جمع بين الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ثم برئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في عام 1364ه/ 1945م من المحطات التاريخية المهمة في الموقف السعودي تجاه القضية الفلسطينية. ويكفي أن مثل هذا الموقف جعل الرئيس الأميركي يعلن عدم اتخاذه قرارًا لا يأخذ في الاعتبار الجانبين العربي والإسرائيلي.
وعن حقيقة الموقف السعودي من حرب عام 1948م، يوضح الجهيمي بالقول: «كان الملك عبد العزيز يرى أن يزود العرب الفلسطينيين بكل ما يلزمهم في معركتهم ضد اليهود في فلسطين، دون أن تتدخل الدول العربية مباشرة في هذه الحرب، لأنه ليس لليهود كيان دولة، وحروبهم ضد الفلسطينيين قائمة أساسًا على حرب العصابات. فكان الملك عبد العزيز يرى أن تبقى الأمور الحربية في فلسطين بأيدي أهلها، حتى لا يعطي العرب مجالا لتدخل أجنبي إلى جانب اليهود أو لتدخل دولي لصالحهم. وكان الملك يميل إلى تشكيل جماعات فلسطينية تحارب اليهود حرب عصابات كما هو حال قتالهم ضد العرب الفلسطينيين، وكان الملك عبد العزيز يركز على مسألة مهمة وهي أن الدول العربية دول أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وأن دخولها أرض فلسطين لتحارب اليهود فيها إلى جانب الفلسطينيين العرب سيجر موقفًا دوليًا ضدهم، وأن هذا الموقف الدولي الممثل في قرارات هيئة الأمم المحابية لليهود سيجبر الدول العربية على الانصياع لتلك القرارات، ومن ثم الانسحاب من المعركة بأمر دولي دون أن تكون قد حققت نصرًا أكيدًا على اليهود».
وقد أثبتت التجربة الفعلية لدخول الدول العربية بشكل مباشر في الحرب صحة موقف الملك عبد العزيز من هذه المسألة، فخرج العرب من هذه الحرب بهزيمة كبيرة على الرغم من كل الاعتبارات المحيطة بالقضية من جانبيها العسكري والسياسي والعملي والتنسيقي والتكتيكي أمام العالم، وفي اعتقادي أن هذا الفشل أصبح مقدمة لفشل لاحق، وبخاصة أن عالمنا العربي لم يستفد من تجربة حرب فلسطين عام 1367ه/ 1948م. وقد أورد أحمد عبد الغفور عطار موقف الملك عبد العزيز من هذه القضية المطروحة، وهي أن ينفرد أهل فلسطين بالدفاع عنها فيقول: «رأي الملك عبد العزيز الذي عرف عنه وسمعناه منه غير مرة: أن ينفرد أهل فلسطين بالدفاع عنها، وألا يشترك العرب رسميًا في الحرب، بل تقوم الدول العربية بمساعدة أهل فلسطين بالسلاح والمال والرجال المتطوعين». ويستطرد العطار قائلاً: «رأى عبد العزيز أن تقوم حكومة فلسطينية بمجرد ترك الإنجليز للسلطة في الوقت الذي حددوه».
وبضغوط من الدول العربية قرر الملك عبد العزيز اشتراك الجيش السعودي الرسمي مع جيوش الدول العربية في حرب فلسطين عام 1367ه/ 1948م رغم عدم قناعته بفائدة ذلك مقابل دعم الفلسطينيين للمواجهة، وجاء قراره ذلك من أجل وحدة الصف العربي.
خطاب تكليف من الملك عبد العزيز لشراء أسلحة من ألمانيا لدعم الفلسطينيين