إذا كان الطفل السوري الغريق إيلان كردي قد هز ضمائر العالم، وبالذات في أوروبا، فذكرها ببلاغة بالمأساة الإنسانية الناجمة عن الحرب في سوريا، فإن رئيس وزراء المجر اليميني فيكتور أوربان شكّل الوجه الآخر لتلك المأساة. إذ جاءت تصريحات أوربان، الذي يعد أحد أكثر القادة الأوروبيين «يمينية»، غاية في السلبية ولا سيما، قوله إن بلاده لا ترحّب باللاجئين المسلمين، ناهيك من تشدد الأجهزة الأمنية التابعة لحكومته في إجراءاتها الهادفة إلى وقف سيل اللاجئين الفارين من جحيم حرب النظام السوري على شعبه.
محنة اللاجئين السوريين تثير في هذه الساعات أزمة سياسية على امتداد القارة الأوروبية، ولا سيما، بعد فتور حماسة عدة دول أوروبية لجهة تقبل اللاجئين الذين تزايدت أعدادهم بشكل كبير خلال الأسابيع الأخيرة.
كانت مأساة الطفل إيلان كردي قد صدمت الرأي العام، فاضطرت الحكومات للتحرك بعدما تجاهلت الأزمة لأشهر وسنوات. وكانت ألمانيا في طليعة الدول التي بادرت إلى إعلانها الترحيب باللاجئين. غير أن المشكلة أخذت تتعقد عندما تداخلت فيها اعتبارات عدة:
الاعتبار الأول: هو تحديد الفارق بين مفهوم اللاجئ ومفهوم المهاجر، والواضح أنه بالإضافة إلى اللاجئين السوريين هناك آخرون لم يأتوا من دول خطرة لدرجة تفرض على الدول الأوروبية قبول من يفر إلى دولها منها. والاعتبار الثاني: هو أن في أوروبا «دول عبور» يصل إليها اللاجئون بهدف الانتقال منها إلى دول أخرى، و«دول المقصد» (أو دول اللجوء) التي يحلمون بأن تكون وجهتهم النهائية. والإشكالية أن «دول العبور» التي يصل إليها اللاجئون أولاً تقع في شرق أوروبا وجنوبها وهي الأقل ثراء، وكذلك الأقل رغبة في قبولهم، بالمقارنة مع «دول المقصد» في شمال القارة وغربها ومعظمها دول ثرية. ثم الاعتبار الثالث، أن في أوروبا أنظمة وقوانين تحكم حرية الحركة بين دولها، وقوانين تحدد أسس اللجوء. وأخيرًا، الاعتبار الرابع، أن ثمة أحزابا يمينية متشددة وعنصرية جعلت من قضية مناهضة الهجرة «آيديولوجيا» لها وهي ترفض الترحيب بمهاجرين ترى أنهم سيرهقونها اقتصاديًا، ويسببون لها مشكلات لجهة استعصاء اندماجهم في مجتمعاتها اجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا.
خلاصة هذه الاعتبارات برزت في حالة المجر، الدولة الشيوعية سابقًا، التي باتت معبرًا للاجئين، ومن معهم من مهاجرين. وإحدى أعنف ردات الفعل جاءت من القيادة المجرية اليمينية، عندما تصدت الشرطة وقوى الجيش والأمن لمحاولة منع آلاف اللاجئين من دخول البلاد، وأطلق رئيس وزرائها فيكتور أوربان تصريحًا تطرق فيه إلى هوية بلاده المسيحية التي يهدد أمنها ونسيجها اللاجئون والمهاجرون المسلمون.
من هو فيكتور أوربان
ولد فيكتور ميهاي أوربان يوم 31 مايو (أيار) عام 1963 في بلدة أولتشودوبوز الصغيرة القريبة من مدينة سيكيشفيهفار، بشمال غربي وسط المجر. ونشأ في عائلة بروتستانتية كلفينية واستقر مع عائلته في سيكيشفيهفار عام 1977. وبعدما أنهى تعليمه الثانوي عام 1981 أدى الخدمة العسكرية ثم التحق بجامعة أوتفوش لوران، أعرق جامعات المجر، في العاصمة بودابست، حيث درس الحقوق. ومن ثم حصل على شهادة الماجستير حول حركة «تضامن» البولندية المناهضة للحكم الشيوعي.
وبعد التخرج عام 1987، عمل أوربان في بلدة سولنوك، ثم تولى وظيفة في معهد الإعداد الإداري التابع لوزارة الزراعة والأطعمة المجرية في العاصمة. ثم خلال سنتين، عام 1989، حصل على منحة من «مؤسسة سوروس» (التي أسسها الثري اليهودي المجري - الأميركي) للدراسة لمدة أربعة أشهر في جامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة.
مشوار السياسة
وفي مطلع 1990 غادر أوربان جامعة أكسفورد، وعاد إلى بودابست لخوض أول انتخابات بعد العهد الشيوعي، وكان قد عرف في تلك الفترة كسياسي شاب متحمّس ويميني متشدد معاد للشيوعية والاشتراكية، وفاز في تلك الانتخابات ودخل البرلمان وله من العمر 27 سنة.
المفارقة في هذا، ان أوربان عندما كان في الربعة عشرة من عمره اختير أمينًا لوحدة تنظيم الشبيبة الشيوعية في مدرسته الثانوية، ما يدل على طموحه السياسي في سن مبكرة. غير أنه تحوّل إلى اليمين وأسس مع بعض أترابه حزب «فيديس» (الأحرف الأولى من كلمات «تحالف الديمقراطيين الشباب» في عام 1988، وذلك مع بدء الزعيم السوفياتي السابق (والأخير) ميخائيل غورباتشوف قيادته سياسة «المكاشفة وإعادة البناء» التي هزّت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ومن ثم أسقطتها وأسقطت النظام السوفياتي نفسه.
كان معظم قادة «فيديس» في تلك المرحلة التأسيسية من الطلاب المناهضين للحكم الشيوعي. ويوم 16 يونيو (حزيران) 1989 أتيحت الفرصة للشاب أوربان أن يلقي كلمة أمام الجموع المحتشدة في «ميدان الأبطال» ببودابست في ذكرى إعادة دفن جثمان الزعيم المجري الراحل إيمري ناج الرئيس الإصلاحي الذي أسقطه التدخل السوفياتي في المجر عام 1956، وجثامين قتلى ذلك التدخل. وطالب أوربان في كلمته تلك بانتخابات حرة وانسحاب القوات السوفياتية من البلاد.
وهكذا، وبين ليلة وضحاها صار الشاب الوسيم الآتي من سيكيشفيهفار شخصية سياسية مرموقة على المستوى الوطني. ومن ثم في وقت لاحق من العام نفسه شارك في مباحثات «الطاولة المستديرة» لبحث مستقبل المجر. وخلال ثلاث سنوات، عام 1992، أصبح أوربان زعيمًا لحزب «فيديس»، وتحت قيادته الديناميكية أشرف على تحويل ما كان منظمة طلابية راديكالية إلى حزب سياسي يميني كبير.
مكانة أوربان على مستوى المجر، امتدت لاحقًا إلى بيئة الأحزاب المحافظة واليمينية الأوروبية، إذ ترأس التجمع الليبرالي الدولي بين عامي 1992 و2000، قبل أن ينسحب منه حزبه، وينضم لتجمع الأحزاب الشعبية (اليمينية) الأوروبية، وفيه تولّى منصب نائب رئيس هذا التجمع بين عامي 2002 و2012.
رئيسًا للحكومة لأول مرة
تولى أوربان رئاسة الحكومة المجرية لأول مرة عام 1998، وكان عمره يومذاك 35 سنة (ما جعله ثاني أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد)، ولقد شكل حكومة ائتلافية ضمت حزبين آخرين من اليمين وظل في السلطة حتى عام 2002. وأشرفت تلك الحكومة على إقرار سياسات راديكالية في شتى المجالات، داخليًا وخارجيًا. غير أن بعض التوتر بدأ يظهر بين أحزاب الائتلاف الحاكم. كذلك تدهورت علاقات أوربان مع الأحزاب المعارضة بسبب تشدده ونهجه الصدامي الذي لا يرتاح للمساومة. وهزّت صورة الحكومة بعض الفضائح، منها محاولتها التأثير على الإعلام، ثم ضربت الفضائح أحد أحزاب الائتلاف الذي انهار بعدها، وأنهى حكم الائتلاف.
وبعد حملة انتخابية حامية خسر «فيديس» المعركة وتمكن غريمه المباشر الحزب الاشتراكي من تشكيل الحكومة البديلة بالتحالف مع الليبراليين. غير أن «فيديس» حافظ على شعبيته وسط تشتت القوى السياسية المجرية.
حقًا في انتخابات عام 2010 حصل على أكثر من 52 في المائة من الأصوات، وانتزع غالبية برلمانية ضخمة بلغت الثلثين. وهكذا تولى فيكتور أوربان رئاسة الحكومة للمرة الثانية، وأتاح التفويض الشعبي الكبير للزعيم اليميني إجراء تعديلين دستوريين؛ الأول يتعلق بإضافة فقرة في الدستور لدعم الزواج التقليدي، والثاني لخفض عدد مقاعد البرلمان من 386 مقعدًا إلى 199 مقعدًا. وكرر أوربان وحزبه الفوز في الانتخابات العامة الأخيرة في العام الماضي 2014. ومرة أخرى بفارق كبير منحه غالبية الثلثين قبل أن يخسرها خلال العام الحالي في انتخاب فرعي.
حياته الشخصية
أوربان البروتستانتي متزوج من سيدة كاثوليكية هي آنيكو ليفاي، وهي ذات خلفية مهنية قانونية مثله، ولهما أربع بنات وولد. وبين هوايات أوربان المعروفة على مستوى المجر شغفه بكرة القدم، وكان قد مارس اللعبة كلاعب محترف في نادي فيلتشوت لكرة القدم، في بلدة فيلتشوت القريبة من مسقط رأسه والتي أمضى فيها بعض سني صباه. وبعد اعتزاله اللعب واظب على دعم كرة القدم في المجر التي كانت ذات يوم من أهم القوى الكروية في العالم. وولده الوحيد يلعب اليوم في النادي الذي لعب له أبوه، بعدما تغير اسمه فبات نادي أكاديمية بوشكاش، نسبه لنجم الكرة المجري العالمي الأشهر الراحل فيرنس بوشكاش.