أثار تراجع عملة الصين، رينمنبي، أمام الدولار في 11 أغسطس (آب) حالة من الاضطراب.
وعلى وقع ذلك، اهتزت أسواق الأسهم والسلع بمختلف أرجاء العالم، وخشي الكثير من المتداولين أن تبدأ الصين في اتخاذ إجراءات حادة وخطيرة لتخفيض قيمة عملتها – وهو إجراء تلجأ إليه الدول في حرب العملات - حيث تسعى لنيل ميزة تنافسية عبر جعل سلعها أرخص في الأسواق العالمية.
بطبيعة الحال، ربما يثبت هذا الإجراء صحته، بالنظر إلى أن دولاً مثل كازاخستان وفيتنام خفضت قيمة عملاتها أيضًا، في وقت تتراجع فيه الكثير من عملات الأسواق الناشئة. ومع ذلك، تبقى هناك زاوية أخرى يمكن من خلالها تفسير ما جرى بالصين، ورغم أنها قد تبدو غير متوقعة، فإنها تظل صحيحة.
لم تلجأ الصين لخفض قيمة عملتها بصورة حادة، ولم تدخل في حرب عملات، على الأقل حتى الآن، وإنما ما فعلته لا يعدو إدخال تعديلات شديدة التواضع على كل من قيمة عملتها وأسلوب الاتجار. وتأتي هذه الإجراءات في إطار عملية شديدة البطء تجري منذ ما يزيد على 35 عامًا، وتشكل خطوة صغيرة لكنها مهمة على صعيد تحو الصين إلى دولة حديثة.
إلا أنه تكمن وراء اختيار توقيت هذه الخطوة الصينية الأخيرة أسباب محددة، يتعارض أحدها مع اعتقاد شائع داخل الولايات المتحدة، مفاده أن الصين ظلت تتعمد التلاعب بعملتها عبر جعلها تبدو رخيصة على خلاف الحقيقة. في الواقع، لقد ظلت الأسواق تبعث برسالة تؤكد أن العكس صحيح - أن رينمنبي كان، وما يزال، غير رخيص بما يكفي.
أما السبب وراء عدم تراجعه بصورة أكثر حدة فهو أن السلطات الصينية حالت دون حدوث ذلك. وعلى امتداد الأسبوع الماضي، تدخلت السلطات لكبح جماح الأسواق بهدف الحيلولة دون تراجع رينمنبي، المعروف كذلك باسم اليوان، على نحو أكثر حدة.
وتكشف الأرقام الحقيقة برمتها - وهي حقيقة لا تشير إلى تعمد خفض رينمنبي، على الأقل حتى الآن، بل على العكس، نجد أن رينمنبي تراجع أمام الدولار بنسبة أقل عن 3 في المائة منذ إغلاق التداول في 10 أغسطس (آب). وفي اليوم التالي، أعلنت الصين تغييرًا فنيًا في قواعدها، مشيرة إلى أن قوى سوقية ستبدأ في الاضطلاع بدور أكبر في تحديد سعر رينمنبي. إضافة لذلك، حددت سعر رينمنبي أقل بنسبة 2 في المائة أمام الدولار. وجاءت تراجعات العملة على امتداد اليومين التاليين أقل.
بحلول 14 أغسطس، أصبح عزم المصرف المركزي الصيني على تحقيق استقرار في رينمنبي أكثر وضوحًا، وبدأت العملة في الثبات أمام العملات الأجنبية. ومنذ ذلك الحين، لم تنخفض العملة، مثلما خشي الكثيرون، بل على العكس كان رينمنبي واحدًا من أفضل العملات من حيث الأداء من بين عملات الأسواق الناشئة، حيث ارتفع قليلاً أمام الدولار. وحتى مع النظر إلى الأيام الأولى للتراجع، جاء أداء رينمنبي متفوقًا على الكثير من العملات، بما فيها الروبل الروسي الذي انخفض بنسبة 9 في المائة، والبيسو الكولومبي، الذي تراجع أكثر من 6 في المائة، طبقًا للبيانات الصادرة عن «بلومبيرغ».
ورغم ذلك، يبقى سقوط رينمنبي في 11 أغسطس مهمًا، فرغم ضآلة حجم التراجع، فإنه أثار فزع الأسواق، الأمر الذي يعود في جزء منه إلى حقيقة أن ذلك كان التغيير الأكبر خلال يوم واحد طوال 20 عامًا من تاريخ العملة. وقد حققت الصين تغييرات كبيرة في منظومة الصرف الأجنبي لديها آنذاك - وهي تغييرات يتضاءل إلى جانبها ما حدث لتوه.
ودعونا نلقي نظرة على ما حدث عام 1994. عندما خفضت الصين فعليًا من قيمة رينمنبي بنسبة 33 في المائة - ومع ذلك لم يخلف هذا التراجع الحاد تأثيرا يذكر على الأسواق العالمية، ذلك أن الصين كانت غير ذات أهمية نسبيًا على الصعيد المالي العالمي، ولم يكن رينمنبي في مصاف العملات الكبرى.
وحتى إجراءات الإصلاح التي جرت عام 1994، كان لدى الصين نظامان رسميان للصرف الأجنبي يتبعان معدلات صرف مختلفة على نحو يثير الارتباك - أحدهما غير مفضل يخص الأجانب وآخر أفضل منه مخصص للمؤسسات الصينية المؤهلة. كما كان لدى الصين سوق سوداء والكثير من الفساد.
وقد عمدت الصين إلى توحيد النظامين الرسميين للصرف الأجنبي، وحددت معدلاً للأجانب يمثل ذات المستوى تقريبًا المستخدم محليًا من قبل مؤسسات صينية. وشكل هذا الإجراء خطوة بالغة الأهمية في مسار تطور الصين.
إلا أنها ظلت مجرد خطوات متوسطة. لذا، فإن الخطوات التي جرى اتخاذها هذا الشهر رغم ما سببته من اضطراب، قد تكون في مصلحة الأسواق الدولية. في الواقع إن الجلبة الأخيرة تمثل مؤشرًا على ضآلة الجهود التي بذلتها الصين حتى الآن وعلى مدار الأعوام الـ20 الأخيرة لتحرير عملتها.
من جهته، استجاب صندوق النقد الدولي بحذر حيال الإجراءات الصينية الأخيرة، مشيرًا إلى أنها تظل غير كافية لمنح رينمنبي المكانة التي تستحقها الصين، بمعنى أن يصبح عملة نخبوية تقف في مصاف الدولار واليورو والين. وأرجأ الصندوق الأسبوع الماضي منح مباركته للعملة الصينية من خلال قراره بعدم ضم رينمنبي إلى ما يسمى سلة «حقوق السحب الخاصة»، والتي كان من شأن الانضمام إليها تعزيز مكانة رينمنبي الدولية، حتى العام المقبل على الأقل. وبعيدًا عن هدفها طويل الأمد المتمثل في تحقيق مكانة دولية أكبر، يبقى لدى الصين أسباب داخلية دعتها لاتخاذ الإجراء الذي أقرته في 11 أغسطس، حيث تراجعت سوق الأسهم لديها، وتباطأت صادراتها، ويمر اقتصادها بإعادة هيكلة.
ويعيدنا هذا إلى مسألة توقيت قرار المصرف المركزي والذي ما يزال يمارس قدرا كبيرا من السيطرة على معدل الصرف في الصين. في الواقع، اتخذ المصرف لحظة مثيرة للغاية للتحرك، ولهذا نجد أنه على امتداد العام الماضي تكشف الأرقام أن رينمنبي شكل رفيقا للدولار، حيث تنامت قوته مع تحرك الدولار نحو الأعلى.
وقد أسهمت القواعد الصارمة للمصرف المركزي في تحقيق ذلك، حيث أقر المصرف استقرارًا في قيمة رينمنبي عبر تقييد حركته، وفرض نطاق تداول ضيق له أمام الدولار، وعليه فعل رينمنبي ما فعله الدولار. ومن ضمن نتائج ذلك أنه حتى مع الأخذ في الاعتبار تخفيض قيمة العملة مؤخرًا، يظل أداء رينمنبي أمام الدولار أفضل من أي عملة كبرى أخرى يجري التداول فيها بحرية.
وكان من شأن ذلك جعل السلع الصينية أغلى في الأسواق العالمية، ويساعد ذلك في شرح السبب وراء القلق الكبير الذي أثاره قرار الصين خفض قيمة عملتها. إلا أنه في الوقت الحاضر، يبدو أن الانخفاض في قيمة رينمنبي جرى حسابه بدقة، ذلك أنه ضئيل للغاية بدرجة لا تسمح له بمعاونة الصين كثيرًا فيما يخص صادراتها، وفي الوقت ذاته ليس ضخمًا بالدرجة التي تجعله يتسبب في هروب رؤوس الأموال من جانب الأشخاص الخائفين من تراجع قيمة أصولهم من رينمنبي مع انخفاض قيمته.
ومع ذلك، ربما تساعد هذه الخطوة من جانب المصرف المركزي في إنهاء الضغوط السياسية الداخلية وتحسين مكانة الصين لدى مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي. ونظرًا لأن الأسواق كانت تدفع رينمنبي بوضوح نحو الانخفاض، فإن التوقيت مفيد للتعاملات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والتي ستجد صعوبة الآن في الشكوى من أن سعر رينمنبي محدد عند مستوى شديد الانخفاض. في ظل الظروف الراهنة، إذا ما توقف المصرف المركزي الصيني عن التدخل، ربما يتراجع رينمنبي بحدة.
في هذا الصدد، أعرب إسوار إس. براساد، الرئيس السابق لقسم الشؤون الصينية لدى صندوق النقد الدولي ويعمل حاليًا خبيرًا اقتصاديا لدى «كورنيل» و«معهد بروكنغز»، عن اعتقاده بأن: «ما فعلته الصين ذكي للغاية. لقد نجح مسؤولو المصرف المركزي في إقرار إصلاح مهم لهم وفعلوه على نحو يمكنهم من تهدئة أصوات النقد الداخلية وتجنب التعرض لانتقادات من المستثمرين الدوليين».
باختصار، لقد حققت الصين تقدمًا محدودًا وكسبت بعض الوقت لإدخال مزيد من لتغييرات في منظومتها الاقتصادية والمالية. ورغم الشوط الكبير الذي قطعته، ما يزال أمامها طويلا للغاية.
* خدمة «نيويورك تايمز»