رغم ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط من مشكلات أمنية واقتصادية وسياسية، أبى شهر أغسطس (آب) الحالي أن يمضي في هدوء دون أن يضيف مزيدًا من المتاعب إلى قاطني دول المنطقة، فاستعرت أجواء المنطقة بموجة لافحة وغير مسبوقة من الحر، أسفرت عن مقتل العشرات من السكان في عدد من الدول واندلاع الكثير من الحرائق، إضافة إلى مخاوف من تفشّي أمراض وبائية، وسط تحذيرات دولية متوالية بخطورة أثر التغيّر المناخي على مستقبل العالم أجمع، بما يتخطى مجرد وفاة العشرات أو المئات من البشر.
خلال الأيام الماضية، أسفرت حصيلة رسمية لوزارة الصحة المصرية عن وفاة أكثر من مائة من المواطنين في مصر جراء ما يعرف باسم «ضربة الحرّ» أو «ضربة الشمس» Heat stroke، بينما بلغ عدد المصابين بما يعرف باسم «الإجهاد الحراري» نحو 2000 شخص. وبينما يشير أطباء إلى أن عدد الضحايا قد يفوق ذلك العدد كثيرا، تؤكد مصادر رسمية مصرية لـ«الشرق الأوسط» أن «تلك الأرقام دقيقة بالفعل، لكنها تقتصر على الحالات التي دخلت إلى مستشفيات وجرى تشخصيها بالإصابة أو الوفاة جراء الإصابة، أما الحالات التي تقضي نحبها خارج تلك المنظومة، فلا يمكن حصرها لأن تشخيص سبب الوفاة ربما لا يكون مباشرًا».
ويقول الأطباء إن «حالات الوفاة في كبار السن أو أولئك الذين يعانون أمراضا مزمنة قد يجري تشخيص سبب وفاتهم على أنها نتيجة لعللهم وليس نتيجة للحرارة، موضّحين أن الوفاة في هذه الحالة لا تحتسب غالبا على أنها نتيجة أولية لضربة شمس، بل نتيجة تفاقم المرض الأساسي.
إضافة إلى حالات الوفاة والمرض، تعدّدت حوادث الحرائق في عدة دول عربية خلال الأيام الماضية، ورغم أن التحقيقات الأولية في أغلب هذه الحرائق تشير إلى أن سببها الرئيس هو «ماس كهربائي» أو اشتعال مواد ملتهبة أو غيرها من الأسباب، إلا أن رجال الدفاع المدني المسؤولين عن مكافحة الحرائق يقولون إن ارتفاع درجات الحرارة الشديد هو اليد الخفية التي تؤجج حدوثها في أغلب الأحوال، حيث تسهم في اشتعال المواد البتروكيماوية أو البلاستيكية أو الخشبية، كما أنها تسهم في إذابة المواد العازلة حول أسلاك الكهرباء مما يتسبب في اشتعال الحرائق.
وأطلقت المنظومات الصحية في مختلف دول منطقة الشرق الأوسط تحذيرات متتابعة من مغبة التعرض للحرارة العالية خلال الأسبوعين الماضيين، ووصل الأمر إلى إصدار السلطات السودانية أوامر بإغلاق مدارس في بعض الولايات لمدة أسبوع وتقليص ساعات العمل، وذلك بعد وفاة نحو 20 شخصا.
كما حذرت وزارة الصحة المصرية المواطنين، وخصوصا كبار السن (أكثر من 65 عاما) والأطفال والرضع، وأصحاب الأمراض المزمنة، كارتفاع ضغط الدم والسكر وأمراض القلب والمرضى المعرضون للتشنجات العصبية، باتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة في ضوء الارتفاع المسجل في درجات الحرارة، وعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خاصة في أوقات الظهيرة، وعدم الخروج من المنزل إلا في حالات الضرورة القصوى، مع الإكثار من شرب السوائل والعصائر الطبيعية الغنية بالأملاح المعدنية والفيتامينات والعناصر الحيوية.
وعن أعراض الإصابة بضربات الشمس، يقول الأطباء المتخصّصون لـ«الشرق الأوسط» إنها تظهر في شكلها النمطي في صورة ارتفاع في درجة حرارة الجسم وجفاف في الجلد وسوائل الجسم، وإجهاد عام مع شعور بالدوار والغثيان أو القيء، إضافة إلى سرعة معدلات ضربات القلب وعدم انتظام في التنفس.
لكن الأطباء يحذرون من أن الأعراض قد لا تظهر بهذا الشكل النمطي الذي يساعد على تشخيص الحالات، فقد يحدث فقدان مفاجئ للوعي أو قلة التعرق بشكل كبير نتيجة فقدان كم كبير من السوائل ودخول الجسم مرحلة الجفاف، مشددين على ضرورة نقل حالات الاشتباه إلى أقرب مستشفى على الفور في حالة الشك في الإصابة.
ويوصي خبراء الصحة بتجنب التعرض لأشعة الشمس المباشرة لفترات طويلة في تلك الموجة الحارة، إلا أنهم يؤكدون أن التعرّض للحرارة فقط داخل أماكن مغلقة وسيئة التهوية على غرار السيارات المغلقة قد يؤدي إلى الإصابة أيضا، مذكرين أن الاسم العلمي الأجنبي الصحيح للمرض هو «ضربة الحرّ» Heat stroke وليس «ضربة الشمس» Sun stoke، كونه من الممكن أن يحدث نتيجة للحرارة وحدها، وأن ذلك يحدث كثيرا مثلا في حالات العاملين بمصانع تحتوي على أفران وغيرها.
* تفشّي الأمراض الوبائية
ضربات الحر تسببت أيضا على مدار الأسبوع الماضي في انتشار شائعات حول تفشي عدد من الأمراض الوبائية في مصر، مثل الالتهاب السحائي الميكروبي (الحمى الشوكية) أو الكورونا، إلا أن السلطات المصرية نفت ذلك، مؤكدة أن أغلب حالات الوفاة التي شهدتها مصر خلال الأسابيع الماضية تعود إلى مضاعفات الإصابة بضربات الشمس، بينما أشار أطباء إلى أن التهاب السحايا لا يقتصر على العدوى الميكروبية، وأنه قد يحدث نتيجة حالات مرضية أخرى لا علاقة لها بالعدوى، ولا تقتضي محاذير وبائية.
آثار الموجة الحارة لم تقتصر على منطقة الشرق الأوسط وحدها، لكنها امتدت إلى دول أخرى مثل فرنسا وباكستان وأميركا التي يكافح رجال الإطفاء منذ أيام لإخماد حريق هائل في غابات ولاية كاليفورنيا التهم مئات الهكتارات، كما لم يسلم الانفجاران الغامضان اللذان ضربا مدينة تيانغين الصينية الساحلية من إشارة إلى ضلوع ارتفاع درجات الحرارة في الانفجارات التي أودت بحياة العشرات وتسببت في خسائر مادية فادحة.
وبحسب خبراء مناخ تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، فإن الموجة الحارة في منطقة الشرق الأوسط ستشهد انكسارا حادا خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد أن وصلت ذروتها في مطلع الأسبوع الحالي، ويتوقع انتهاؤها تماما مع نهاية شهر أغسطس الحالي. لكن دراسات علمية دولية رصينة تؤكد أن آثار التغيرات المناخية لا تقتصر على وفيات البشر بصورة مباشرة فقط، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، وتؤثر على مستقبل الإنسانية بأكملها، بل وقد تهدد وجود كوكب الأرض من الأساس.
ومع تفاقم الموجة الحارة، ارتفعت أصوات خبراء المناخ التحذيرية من مغبة التهاون مع ظواهر التغير المناخي والاحتباس الحراري. وأشارت تقارير علمية متخصصة الأسبوع الماضي إلى أن صور الأقمار الصناعية أظهرت انحسارا حادا، وبشكل فائق السرعة خلال العام الأخير، للأنهار الجليدية في عدد من مناطق العالم الباردة، مثل جبال الهيمالايا في آسيا، والإنديز في أميركا الجنوبية، والألب في أوروبا، وروكي في أميركا الشمالية. وتؤكد تلك التقارير أن ذوبان الأنهار الجليدية بتلك السرعة قد يؤدي إلى غرق جوانب كبرى من الكتلة الصلبة في الأرض مع ارتفاع خطر ومتواصل في مستوى سطح البحر، وهو ما قد يتبعه عصر جليدي جديد.
* مخاطر غذائية واجتماعية وأمنية
كما أطلق تقرير لبرنامج الأمن الغذائي العالمي قبل أيام قليلة تحذيرا شديد اللهجة من حدوث أزمة نقص غذاء طاحنة في غضون 25 عاما بسبب التغير المناخي الذي يؤدي إلى موجات متتالية من الجفاف والفيضانات حول العالم، إذا لم يتم التعامل بجدية كافية مع الأمر.
ويقول تيم بينتون، الخبير في برنامج للأمن الغذائي العالمي في بريطانيا، إنه «من المرجح أن الشعور بتأثير التغير المناخي بشكل قوي يكون عبر الأحداث المناخية القاسية، مثل الجفاف والموجات الحارة والفيضانات، وتأثيرها على إنتاج وتوزيع الغذاء». داعيا إلى تحرك عاجل لإدراك المخاطر بشكل أفضل وتحسين تأثر النظام الغذائي العالمي بالتغير المناخي، والتخفيف من تأثير ذلك على الناس.
كذلك حذرت الأمم المتحدة من أن ازدياد الانحباس الحراري سيرفع من أسعار الغذاء، ومعها مناطق الجوع حول لدى أفقر شعوب العالم، بينما قالت دراسات علمية أخرى إن «انبعاث الغازات الدفيئة الناتجة في معظمها من حرق الوقود الحفري ستقلص من توافر بعض الخضراوات والفواكه والكائنات البحرية».
مخاوف أخرى أطلقها علماء مرموقون تتصل بجوانب إنسانية أخرى. حيث حذرت دراسة أميركية حديثة، أعدها باحثون من جامعة كولومبيا الأميركية بالتعاون مع جامعة واشنطن، من أن التغيرات المناخية تشكل تهديدا كبيرا ليس فقط على الصحة البدنية والعقلية، بل قد تسهم في خلق الاضطرابات الاجتماعية والصراعات والعنف.
وقالت الدراسة إن «التقلبات والتغيرات المناخية قد تؤدي إلى موجات هجرة على نطاق واسع بعيدا عن المناطق التي لم تعد قادرة على توفير ما يكفي من الغذاء والماء والمأوى للسكان الحاليين».
ولاحظ الباحثون أن المناطق الساحلية معرضة بشكل خاص لتأثير تغيرات مناخية بسبب المخاطر، مثل تغيير أنماط استخدام المياه وتآكل الشواطئ وارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف. ويشير البروفسور إيروين ريدلنر، الباحث بجامعة كولومبيا الأميركية العريقة، إلى أن علم تغير المناخ وتهديداته على صحة الإنسان والسكان هي أمور لا يمكن دحضها، محذرا من أن التهديد يتطور بسرعة، ولسوء الحظ نحن الآن في نقطة تباطؤ في تغيرات المناخ، في حين أننا بحاجة إلى تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن التغيرات المناخية والتكيف معها.
ويشدد الباحثون على أن تأثير التغيرات المناخية على الصحة العامة في الساحل الأميركي على وجه الخصوص قد يكون شديدا، إذ إنه من المتوقع أن تشهد درجات الحرارة القصوى زيادة، وارتفاع مستوى سطح البحر. كما حذروا ربما بشكل أقل، من تزايد كثافة الأعاصير في المنطقة. كما حذر الباحثون من أن تغير المناخ قد يؤدى إلى تضخيم الآثار الصحية العامة القائمة، مثل الإصابة بالأمراض المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع الوفيات، وسوء التغذية الناجمة عن الجفاف.
دراسة أخرى على موقع CLIMATE CENTRAL المتخصص في شؤون المناخ، حذرت قبل أيام من ارتباط بين الانحباس الحراري وبين ارتفاع مخاطر تفاقم الإصابة بميكروب السالمونيلا القاتل. مشيرة إلى أن قاطني المدن بالقرب من السواحل هم الأكثر عرضة للإصابة بتسمم السالمونيلا نتيجة التغير الشديد في درجات الحرارة. وتؤكد كريستي شو، الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة ميريلاند الأميركية، أن النظر إلى حالات التفشي الوبائي للتسمم بالسالمونيلا تؤكد وجود ارتباط بارتفاع درجات الحرارة.
ولا تتوقف نداءات خبراء الطقس التحذيرية من مغبة آثار الاحتباس الحراري والتغير المناخي. ويؤكد هؤلاء أن العالم يشهد تغيرات مناخية كبيرة خلال الأعوام القليلة الماضية، مما أسفر عن ذروة غير مسبوقة ومتزايدة في ارتفاع درجات الحرارة منذ مطلع الألفية الجديدة، بحسب الخرائط المناخية لموقع «ناسا» (وكالة الفضاء الأميركية)، وهي ظاهرة تشي بتفاقم الخطورة على الإنسانية جمعاء.
* ما يتهدد عالمنا العربي
وكان تقرير مهم، أطلقه المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) في مؤتمره السنوي الذي أقيم في العاصمة اللبنانية بيروت قبل نحو ستة أعوام، تحت اسم «البيئة العربية: تغير المناخ»، قد حذر من أن البلدان العربية هي في طليعة المناطق المهددة بتأثيرات تغير المناخ. مشددا على أن الوضع الحرج أصلاً لشح المياه في العالم العربي سيصل إلى مستويات خطيرة بحلول سنة 2025. وارتفاع مستويات البحار بمقدار متر واحد سيؤثر مباشرة على 41.500 كيلومتر مربع من الأراضي الساحلية العربية، وعلى 3.2 في المائة من سكان البلدان العربية، بالمقارنة مع نسبة عالمية تبلغ 1.28 في المائة.
وتابع التقرير أن «صحة البشر سوف تتأثر بارتفاع درجات الحرارة، ويزداد تفشي الأمراض المعدية مثل الملاريا والبلهارسيا، وتزداد حالات الحساسية والأمراض الرئوية مع ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون واشتداد العواصف الرملية وتكرارها. ومع ازدياد قسوة الجفاف وتوسعه، وتغير امتدادات الفصول، قد تنخفض المحاصيل الزراعية إلى النصف، ما لم يتم تطوير واعتماد محاصيل تحتاج إلى مياه أقل وتتحمل ارتفاع مستويات الملوحة».
وفي كلمته خلال افتتاح المؤتمر، ألقى وزير البيئة اللبناني - آنذاك - محمد رحّال كلمة حاسمة قال فيها: «ما يهمني أن أسلط الضوء عليه في هذا السياق، هو ما ندركُه جميعًا كأخصائيين في عالم السياسة والاقتصاد والتنمية، من أن انعكاسات التدهور البيئي تنطوي على تهديدات جدية ومتعاظمة للسلام في منطقتنا العربية والعالم، نتيجة ازدياد حدة الصراع حول موارد المياه، وازدياد مشكلات الأمن الغذائي المتأتية عن انخفاض الإنتاج الزراعي، وتباطؤ عجلة النمو الاقتصادي وما يخلّفُه من اتساع معدلات الفقر، وتقويض موارد المعيشة وزعزعة الاستقرار الاجتماعي».
وتابع رحال محذرا: «تدركون جيدًا أن هذه الصورةَ الكارثيّة ليست مبالغةً كلاميّةً هدفُها تحفيزُ الهِمم للعمل الجِدي، بل هي واقعٌ يزحفُ بثبات على مجتمعاتنا. ولا شكّ أنّ التحدي الكبير الذي يواجهُ لقاءً دوليًا بهذا المستوى، هو اصطدامُ توصياته العلميّة، بمصالحِ الدول التي ما زالت إلى اليوم تحولُ دون اتخاذ إجراءات واسعة وجذريّة للحدّ من التدهور البيئي، ومعالجة ظاهرة الانحباس الحراري وآثارها المدمّرة»، مشيرا إلى تطلعه إلى «رفع مستوى الوعي بشأن مخاطر التغيّر المناخي، ونشرِ ثقافة الترشيد في استخدام الموارد الطبيعيّة، ابتداءً من العائلات والمدارس، مرورًا بوسائل الإعلام، ووصولاً إلى صناعة القرار.. لكن ما نأملُ به حقيقةً، وما نسعى إليه، هو التوصّل إلى وضع استراتيجياتٍ محليّة ودوليّة مشتركة وشاملة، تحِّددُ الأهداف البيئيّة التي نطمحُ إليها، وترسمُ خطواتِ التنفيذ كضرورة ملحّة وإنسانية، لإنقاذ أرضنا من الاختناق والحروب، وإرساء قواعد طبيعيّة للتنمية والسلام».
لكن فيما يبدو من تغيرات مستمرة شهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الستة الماضية، أن كلمات رحال وغيره من العلماء لم تجد من يصغي لها بصورة ذات أثر، رغم التزايد المستمر للخطر إلى أقصى درجاته.