موجات الحر تقتل سكان منطقة الشرق الأوسط

العلماء يحذّرون: آثار التراخي مع التغير المناخي أكبر من الوفيات والحرائق والشائعات

موجات الحر تقتل سكان منطقة الشرق الأوسط
TT

موجات الحر تقتل سكان منطقة الشرق الأوسط

موجات الحر تقتل سكان منطقة الشرق الأوسط

رغم ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط من مشكلات أمنية واقتصادية وسياسية، أبى شهر أغسطس (آب) الحالي أن يمضي في هدوء دون أن يضيف مزيدًا من المتاعب إلى قاطني دول المنطقة، فاستعرت أجواء المنطقة بموجة لافحة وغير مسبوقة من الحر، أسفرت عن مقتل العشرات من السكان في عدد من الدول واندلاع الكثير من الحرائق، إضافة إلى مخاوف من تفشّي أمراض وبائية، وسط تحذيرات دولية متوالية بخطورة أثر التغيّر المناخي على مستقبل العالم أجمع، بما يتخطى مجرد وفاة العشرات أو المئات من البشر.

خلال الأيام الماضية، أسفرت حصيلة رسمية لوزارة الصحة المصرية عن وفاة أكثر من مائة من المواطنين في مصر جراء ما يعرف باسم «ضربة الحرّ» أو «ضربة الشمس» Heat stroke، بينما بلغ عدد المصابين بما يعرف باسم «الإجهاد الحراري» نحو 2000 شخص. وبينما يشير أطباء إلى أن عدد الضحايا قد يفوق ذلك العدد كثيرا، تؤكد مصادر رسمية مصرية لـ«الشرق الأوسط» أن «تلك الأرقام دقيقة بالفعل، لكنها تقتصر على الحالات التي دخلت إلى مستشفيات وجرى تشخصيها بالإصابة أو الوفاة جراء الإصابة، أما الحالات التي تقضي نحبها خارج تلك المنظومة، فلا يمكن حصرها لأن تشخيص سبب الوفاة ربما لا يكون مباشرًا».
ويقول الأطباء إن «حالات الوفاة في كبار السن أو أولئك الذين يعانون أمراضا مزمنة قد يجري تشخيص سبب وفاتهم على أنها نتيجة لعللهم وليس نتيجة للحرارة، موضّحين أن الوفاة في هذه الحالة لا تحتسب غالبا على أنها نتيجة أولية لضربة شمس، بل نتيجة تفاقم المرض الأساسي.
إضافة إلى حالات الوفاة والمرض، تعدّدت حوادث الحرائق في عدة دول عربية خلال الأيام الماضية، ورغم أن التحقيقات الأولية في أغلب هذه الحرائق تشير إلى أن سببها الرئيس هو «ماس كهربائي» أو اشتعال مواد ملتهبة أو غيرها من الأسباب، إلا أن رجال الدفاع المدني المسؤولين عن مكافحة الحرائق يقولون إن ارتفاع درجات الحرارة الشديد هو اليد الخفية التي تؤجج حدوثها في أغلب الأحوال، حيث تسهم في اشتعال المواد البتروكيماوية أو البلاستيكية أو الخشبية، كما أنها تسهم في إذابة المواد العازلة حول أسلاك الكهرباء مما يتسبب في اشتعال الحرائق.
وأطلقت المنظومات الصحية في مختلف دول منطقة الشرق الأوسط تحذيرات متتابعة من مغبة التعرض للحرارة العالية خلال الأسبوعين الماضيين، ووصل الأمر إلى إصدار السلطات السودانية أوامر بإغلاق مدارس في بعض الولايات لمدة أسبوع وتقليص ساعات العمل، وذلك بعد وفاة نحو 20 شخصا.
كما حذرت وزارة الصحة المصرية المواطنين، وخصوصا كبار السن (أكثر من 65 عاما) والأطفال والرضع، وأصحاب الأمراض المزمنة، كارتفاع ضغط الدم والسكر وأمراض القلب والمرضى المعرضون للتشنجات العصبية، باتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة في ضوء الارتفاع المسجل في درجات الحرارة، وعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خاصة في أوقات الظهيرة، وعدم الخروج من المنزل إلا في حالات الضرورة القصوى، مع الإكثار من شرب السوائل والعصائر الطبيعية الغنية بالأملاح المعدنية والفيتامينات والعناصر الحيوية.
وعن أعراض الإصابة بضربات الشمس، يقول الأطباء المتخصّصون لـ«الشرق الأوسط» إنها تظهر في شكلها النمطي في صورة ارتفاع في درجة حرارة الجسم وجفاف في الجلد وسوائل الجسم، وإجهاد عام مع شعور بالدوار والغثيان أو القيء، إضافة إلى سرعة معدلات ضربات القلب وعدم انتظام في التنفس.
لكن الأطباء يحذرون من أن الأعراض قد لا تظهر بهذا الشكل النمطي الذي يساعد على تشخيص الحالات، فقد يحدث فقدان مفاجئ للوعي أو قلة التعرق بشكل كبير نتيجة فقدان كم كبير من السوائل ودخول الجسم مرحلة الجفاف، مشددين على ضرورة نقل حالات الاشتباه إلى أقرب مستشفى على الفور في حالة الشك في الإصابة.
ويوصي خبراء الصحة بتجنب التعرض لأشعة الشمس المباشرة لفترات طويلة في تلك الموجة الحارة، إلا أنهم يؤكدون أن التعرّض للحرارة فقط داخل أماكن مغلقة وسيئة التهوية على غرار السيارات المغلقة قد يؤدي إلى الإصابة أيضا، مذكرين أن الاسم العلمي الأجنبي الصحيح للمرض هو «ضربة الحرّ» Heat stroke وليس «ضربة الشمس» Sun stoke، كونه من الممكن أن يحدث نتيجة للحرارة وحدها، وأن ذلك يحدث كثيرا مثلا في حالات العاملين بمصانع تحتوي على أفران وغيرها.

* تفشّي الأمراض الوبائية

ضربات الحر تسببت أيضا على مدار الأسبوع الماضي في انتشار شائعات حول تفشي عدد من الأمراض الوبائية في مصر، مثل الالتهاب السحائي الميكروبي (الحمى الشوكية) أو الكورونا، إلا أن السلطات المصرية نفت ذلك، مؤكدة أن أغلب حالات الوفاة التي شهدتها مصر خلال الأسابيع الماضية تعود إلى مضاعفات الإصابة بضربات الشمس، بينما أشار أطباء إلى أن التهاب السحايا لا يقتصر على العدوى الميكروبية، وأنه قد يحدث نتيجة حالات مرضية أخرى لا علاقة لها بالعدوى، ولا تقتضي محاذير وبائية.
آثار الموجة الحارة لم تقتصر على منطقة الشرق الأوسط وحدها، لكنها امتدت إلى دول أخرى مثل فرنسا وباكستان وأميركا التي يكافح رجال الإطفاء منذ أيام لإخماد حريق هائل في غابات ولاية كاليفورنيا التهم مئات الهكتارات، كما لم يسلم الانفجاران الغامضان اللذان ضربا مدينة تيانغين الصينية الساحلية من إشارة إلى ضلوع ارتفاع درجات الحرارة في الانفجارات التي أودت بحياة العشرات وتسببت في خسائر مادية فادحة.
وبحسب خبراء مناخ تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، فإن الموجة الحارة في منطقة الشرق الأوسط ستشهد انكسارا حادا خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد أن وصلت ذروتها في مطلع الأسبوع الحالي، ويتوقع انتهاؤها تماما مع نهاية شهر أغسطس الحالي. لكن دراسات علمية دولية رصينة تؤكد أن آثار التغيرات المناخية لا تقتصر على وفيات البشر بصورة مباشرة فقط، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، وتؤثر على مستقبل الإنسانية بأكملها، بل وقد تهدد وجود كوكب الأرض من الأساس.
ومع تفاقم الموجة الحارة، ارتفعت أصوات خبراء المناخ التحذيرية من مغبة التهاون مع ظواهر التغير المناخي والاحتباس الحراري. وأشارت تقارير علمية متخصصة الأسبوع الماضي إلى أن صور الأقمار الصناعية أظهرت انحسارا حادا، وبشكل فائق السرعة خلال العام الأخير، للأنهار الجليدية في عدد من مناطق العالم الباردة، مثل جبال الهيمالايا في آسيا، والإنديز في أميركا الجنوبية، والألب في أوروبا، وروكي في أميركا الشمالية. وتؤكد تلك التقارير أن ذوبان الأنهار الجليدية بتلك السرعة قد يؤدي إلى غرق جوانب كبرى من الكتلة الصلبة في الأرض مع ارتفاع خطر ومتواصل في مستوى سطح البحر، وهو ما قد يتبعه عصر جليدي جديد.

* مخاطر غذائية واجتماعية وأمنية

كما أطلق تقرير لبرنامج الأمن الغذائي العالمي قبل أيام قليلة تحذيرا شديد اللهجة من حدوث أزمة نقص غذاء طاحنة في غضون 25 عاما بسبب التغير المناخي الذي يؤدي إلى موجات متتالية من الجفاف والفيضانات حول العالم، إذا لم يتم التعامل بجدية كافية مع الأمر.
ويقول تيم بينتون، الخبير في برنامج للأمن الغذائي العالمي في بريطانيا، إنه «من المرجح أن الشعور بتأثير التغير المناخي بشكل قوي يكون عبر الأحداث المناخية القاسية، مثل الجفاف والموجات الحارة والفيضانات، وتأثيرها على إنتاج وتوزيع الغذاء». داعيا إلى تحرك عاجل لإدراك المخاطر بشكل أفضل وتحسين تأثر النظام الغذائي العالمي بالتغير المناخي، والتخفيف من تأثير ذلك على الناس.
كذلك حذرت الأمم المتحدة من أن ازدياد الانحباس الحراري سيرفع من أسعار الغذاء، ومعها مناطق الجوع حول لدى أفقر شعوب العالم، بينما قالت دراسات علمية أخرى إن «انبعاث الغازات الدفيئة الناتجة في معظمها من حرق الوقود الحفري ستقلص من توافر بعض الخضراوات والفواكه والكائنات البحرية».
مخاوف أخرى أطلقها علماء مرموقون تتصل بجوانب إنسانية أخرى. حيث حذرت دراسة أميركية حديثة، أعدها باحثون من جامعة كولومبيا الأميركية بالتعاون مع جامعة واشنطن، من أن التغيرات المناخية تشكل تهديدا كبيرا ليس فقط على الصحة البدنية والعقلية، بل قد تسهم في خلق الاضطرابات الاجتماعية والصراعات والعنف.
وقالت الدراسة إن «التقلبات والتغيرات المناخية قد تؤدي إلى موجات هجرة على نطاق واسع بعيدا عن المناطق التي لم تعد قادرة على توفير ما يكفي من الغذاء والماء والمأوى للسكان الحاليين».
ولاحظ الباحثون أن المناطق الساحلية معرضة بشكل خاص لتأثير تغيرات مناخية بسبب المخاطر، مثل تغيير أنماط استخدام المياه وتآكل الشواطئ وارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف. ويشير البروفسور إيروين ريدلنر، الباحث بجامعة كولومبيا الأميركية العريقة، إلى أن علم تغير المناخ وتهديداته على صحة الإنسان والسكان هي أمور لا يمكن دحضها، محذرا من أن التهديد يتطور بسرعة، ولسوء الحظ نحن الآن في نقطة تباطؤ في تغيرات المناخ، في حين أننا بحاجة إلى تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن التغيرات المناخية والتكيف معها.
ويشدد الباحثون على أن تأثير التغيرات المناخية على الصحة العامة في الساحل الأميركي على وجه الخصوص قد يكون شديدا، إذ إنه من المتوقع أن تشهد درجات الحرارة القصوى زيادة، وارتفاع مستوى سطح البحر. كما حذروا ربما بشكل أقل، من تزايد كثافة الأعاصير في المنطقة. كما حذر الباحثون من أن تغير المناخ قد يؤدى إلى تضخيم الآثار الصحية العامة القائمة، مثل الإصابة بالأمراض المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع الوفيات، وسوء التغذية الناجمة عن الجفاف.
دراسة أخرى على موقع CLIMATE CENTRAL المتخصص في شؤون المناخ، حذرت قبل أيام من ارتباط بين الانحباس الحراري وبين ارتفاع مخاطر تفاقم الإصابة بميكروب السالمونيلا القاتل. مشيرة إلى أن قاطني المدن بالقرب من السواحل هم الأكثر عرضة للإصابة بتسمم السالمونيلا نتيجة التغير الشديد في درجات الحرارة. وتؤكد كريستي شو، الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة ميريلاند الأميركية، أن النظر إلى حالات التفشي الوبائي للتسمم بالسالمونيلا تؤكد وجود ارتباط بارتفاع درجات الحرارة.
ولا تتوقف نداءات خبراء الطقس التحذيرية من مغبة آثار الاحتباس الحراري والتغير المناخي. ويؤكد هؤلاء أن العالم يشهد تغيرات مناخية كبيرة خلال الأعوام القليلة الماضية، مما أسفر عن ذروة غير مسبوقة ومتزايدة في ارتفاع درجات الحرارة منذ مطلع الألفية الجديدة، بحسب الخرائط المناخية لموقع «ناسا» (وكالة الفضاء الأميركية)، وهي ظاهرة تشي بتفاقم الخطورة على الإنسانية جمعاء.

* ما يتهدد عالمنا العربي

وكان تقرير مهم، أطلقه المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) في مؤتمره السنوي الذي أقيم في العاصمة اللبنانية بيروت قبل نحو ستة أعوام، تحت اسم «البيئة العربية: تغير المناخ»، قد حذر من أن البلدان العربية هي في طليعة المناطق المهددة بتأثيرات تغير المناخ. مشددا على أن الوضع الحرج أصلاً لشح المياه في العالم العربي سيصل إلى مستويات خطيرة بحلول سنة 2025. وارتفاع مستويات البحار بمقدار متر واحد سيؤثر مباشرة على 41.500 كيلومتر مربع من الأراضي الساحلية العربية، وعلى 3.2 في المائة من سكان البلدان العربية، بالمقارنة مع نسبة عالمية تبلغ 1.28 في المائة.
وتابع التقرير أن «صحة البشر سوف تتأثر بارتفاع درجات الحرارة، ويزداد تفشي الأمراض المعدية مثل الملاريا والبلهارسيا، وتزداد حالات الحساسية والأمراض الرئوية مع ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون واشتداد العواصف الرملية وتكرارها. ومع ازدياد قسوة الجفاف وتوسعه، وتغير امتدادات الفصول، قد تنخفض المحاصيل الزراعية إلى النصف، ما لم يتم تطوير واعتماد محاصيل تحتاج إلى مياه أقل وتتحمل ارتفاع مستويات الملوحة».
وفي كلمته خلال افتتاح المؤتمر، ألقى وزير البيئة اللبناني - آنذاك - محمد رحّال كلمة حاسمة قال فيها: «ما يهمني أن أسلط الضوء عليه في هذا السياق، هو ما ندركُه جميعًا كأخصائيين في عالم السياسة والاقتصاد والتنمية، من أن انعكاسات التدهور البيئي تنطوي على تهديدات جدية ومتعاظمة للسلام في منطقتنا العربية والعالم، نتيجة ازدياد حدة الصراع حول موارد المياه، وازدياد مشكلات الأمن الغذائي المتأتية عن انخفاض الإنتاج الزراعي، وتباطؤ عجلة النمو الاقتصادي وما يخلّفُه من اتساع معدلات الفقر، وتقويض موارد المعيشة وزعزعة الاستقرار الاجتماعي».
وتابع رحال محذرا: «تدركون جيدًا أن هذه الصورةَ الكارثيّة ليست مبالغةً كلاميّةً هدفُها تحفيزُ الهِمم للعمل الجِدي، بل هي واقعٌ يزحفُ بثبات على مجتمعاتنا. ولا شكّ أنّ التحدي الكبير الذي يواجهُ لقاءً دوليًا بهذا المستوى، هو اصطدامُ توصياته العلميّة، بمصالحِ الدول التي ما زالت إلى اليوم تحولُ دون اتخاذ إجراءات واسعة وجذريّة للحدّ من التدهور البيئي، ومعالجة ظاهرة الانحباس الحراري وآثارها المدمّرة»، مشيرا إلى تطلعه إلى «رفع مستوى الوعي بشأن مخاطر التغيّر المناخي، ونشرِ ثقافة الترشيد في استخدام الموارد الطبيعيّة، ابتداءً من العائلات والمدارس، مرورًا بوسائل الإعلام، ووصولاً إلى صناعة القرار.. لكن ما نأملُ به حقيقةً، وما نسعى إليه، هو التوصّل إلى وضع استراتيجياتٍ محليّة ودوليّة مشتركة وشاملة، تحِّددُ الأهداف البيئيّة التي نطمحُ إليها، وترسمُ خطواتِ التنفيذ كضرورة ملحّة وإنسانية، لإنقاذ أرضنا من الاختناق والحروب، وإرساء قواعد طبيعيّة للتنمية والسلام».
لكن فيما يبدو من تغيرات مستمرة شهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الستة الماضية، أن كلمات رحال وغيره من العلماء لم تجد من يصغي لها بصورة ذات أثر، رغم التزايد المستمر للخطر إلى أقصى درجاته.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟