من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية

من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية
TT

من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية

من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية

يستمر الجدل الأكاديمي حول مفهومي المصلحة والأخلاق في السياسة، فترى مجموعة من علماء السياسة والعلاقات الدولية أن المصلحة القومية تفرض على السياسي توجهه وتسيطر على بوصلته السياسية.
يرى هذا الفريق أن المصلحة تفرض نوعًا من اللا الأخلاق في السلوكيات السياسية للسياسي، ويبررون هذا بمفهوم أساسي هو أن السياسة غير معنية بالأخلاق Amoral بمفهومها الفردي، بينما يرى آخرون ضرورة أن يكون للسياسة ركن أخلاقي في إدارة وظائفهم أو مصالح دولهم مهما يكن الأمر، ويظل هذا التيار على رأيه ويظل الواقع السياسي يفرض قواعده. ولكن في ما بين المدرستين فإن هناك كثيرا من النماذج السياسية التي تجعلنا نتحير عند الحكم عليها لقدرتها على مزج المصلحة القومية مع المصلحة الشخصية وتغليف هذا السلوك بالحس الوطني، ولعل من أغرب هذه النماذج على الإطلاق شخصية السياسي والجنرال المكسيكي أنتونيو لوبيز دي سانتا آنا، الذي قلما ينكب التاريخ دولة أو ينصفها بأمثاله وفقًا للزمان والمكان!
قلما يأتي التاريخ بشخصية يحالفها الحظ، رغم تعدد فشلها، ليصبح رئيسًا لبلاده إحدى عشرة مرة، فهو شخصية التناقض الأخلاقي والتسلق السياسي والذمة الخربة والوطنية المتفانية في آن واحد! فهو في حقيقة الأمر نتاج طبيعي للظروف التاريخية التي مرت بها المكسيك خلال العقود السبعة الأولي من القرن التاسع عشر.
ينحدر هذا الرجل من سلالة إسبانية استوطنت المكسيك لعقود طويلة، وهو ما منحه ميزة نسبية في ظل النظام الطبقي المكسيكي تحت حكم الاحتلال الإسباني، وعلى الرغم من أن والده أراد له مستقبلاً في مجال التجارة، فإنه آثر دخول الكلية العسكرية فانفتحت له وسائل الترقي السريع ولكن غير المستحق بسبب الظروف السياسية المضطربة التي كانت تمر بها المكسيك، إذ بدأ حياته بالولاء لإسبانيا التي كانت بلاد المكسيك ضمن ممتلكاتها منذ القرن السادس عشر، فحارب في شبابه الحركات التحريرية في بلاده، وهو ما منحه الترقي السريع. ولكن لوبيز دي سانتا آنا أدرك مع مرور الوقت أن إسبانيا لن تكون قادرة على الاستمرار في حكم المكسيك لضعفها ولعنفوان الحركة القومية. وبالتالي انقلب ولاؤه لصالح الثوار، وعقد تحالفًا مع الزعيم المكسيكي آغوستين دي إيتوربيدي ضد إسبانيا، وهو ما منحه مزيدًا من الترقي حتى أصبح جنرالاً في الجيش المكسيكي، ولكنّ ولاءه لإيتوربيدي سرعان ما تبدل فانضم إلى صفوف معارضيه بعدما أدرك أنه عاجز عن السيطرة على الأمور طويلاً في المكسيك. وفعلاً منحت هذه الخطوة الرجل شعبية كبيرة في المكسيك حيث عينته الحكومة الجديدة واليًا على إقليم يوكاتان بأقصى شرق المكسيك، وقد استمر لوبيز دي سانتا آنا في لعب دوره السياسي الرائد في المكسيك، إذ انضم إلى معارضي الحكم القائم مرة أخرى في محاولة للترقي السريع. وعند هذا الحد لعب الحظ دورًا كبيرًا في توفير الفرصة لهذا الرجل الطامح، فلقد أرسلت إسبانيا تجريدة عسكرية محدودة لاستعادة المكسيك، غير أن لوبيز دي سانتا آنا استطاع هزيمتها بتكليف من الحكومة، وهو ما رفع من شعبيته لأقصى درجة، وفتح له المجال أمام الاستيلاء على السلطة في أقرب فرصة محمولاً على أكتاف المكسيكيين، وهو ما أوصله إلى سدة الحكم في 1833م.
واقع الأمر أن الظروف السياسية في المكسيك لم تكن لتسمح بالاستقرار بأي حال من الأحوال، فهي دولة كبيرة مترامية الأطراف مزقتها القطبية الفكرية والسياسية بين القوى المحافظة والرافضة للأفكار الليبرالية من جهة، وبين الثوار المقتنعين بضرورة التغيير والانفتاح ومحاربة المؤسسات التقليدية في البلاد وعلى رأسها الكنيسة الكاثوليكية من جهة ثانية، ناهيك من الحركات الاستقلالية في كثير من الولايات المكسيكية. وسط هذا الصراع مال لوبيز دي سانتا آنا في البداية إلى التيار المحافظ، إلا أنه سرعان من انقلب عليه خوفًا من تقليم سلطاته كرئيس للبلاد، وأقدم على حل البرلمان وقبض على السلطة بشكل مطلق. هذا الخيار أثار ضده حركة معارضة واسعة النطاق في الولايات المكسيكية المختلفة، ما اضطره للمواجهة العسكرية معهم ودحرهم بشكل عنيف للغاية مستخدمًا وسائل قمعية. ولكن ولاية تكساس المكسيكية استعصت عليه بسبب وجود كثير من المستوطنين الأميركيين والدعم الأميركي لهم، وهو ما أدى إلى هزيمته عسكريًا في نهاية المطاف في معركة سان خاسينتو عام 1836 على أيدي القائد الأميركي سام هيوستن، الذي تحمل كبرى مدن ولاية تكساس الأميركية اسمه.
لم يسعف الوقت لوبيز دي سانتا آنا للانسحاب من تلك المعركة فتم أسره من قبل القوات الأميركية، وبناءً عليه اضطر الرجل إلى القبول باستقلال تكساس عن المكسيك مقابل إطلاق سراحه. هذا الواقع رفضه الشعب المكسيكي تمامًا، خصوصا الحكومة الجديدة التي أطاحت به، والتي رفضت كذلك التصديق على المعاهدة التي أقرت استقلال تكساس ومن ثم انضمامها إلى الولايات المتحدة وأعلنته خائنًا، فجرى نفيه خارج البلاد إلى جزيرة كوبا.
لكن لوبيز دي سانتا آنا سرعان ما عاد من جديد إلى المكسيك حيث لعب القدر لصالحه مرة أخرى، وذلك بعدما قررت فرنسا إرسال قوة عسكرية تفرض على المكسيك دفع التعويضات لصالح رعاياها. وهنا لجأت الحكومة مرة أخرى إليه للوقوف في وجه هذه القوة في عام 1838. وبالفعل تولى الرجل قيادة الجيش، إلا أنه لم يكن قادرًا على مواجهة الجيش الفرنسي فهزم، لكن التسوية السياسية أنقذت مستقبله السياسي مرة أخرى بعد بتر ساقه أثناء القتال، ويقال إن الرجل قام بدفن ساقه المبتورة في جنازة عسكرية مهيبة!
في كل الأحوال فإن الظروف منحت لوبيز دي سانتا آنا الفرصة مجددًا للقبض على زمام السلطة المركزية في البلاد، فهزم معارضين عسكريًا لكن البرلمان المنتخب حديثًا رفض القبول بحكمه فأطاح به بعدما انفرط عقد الأمة. وهنا ألقي عليه مرة أخرى وأدخل السجن قبل أن ينفى في عام 1845. وتكرر مسلسل العودة بعدما أتيح له المجال مرة أخرى للعودة للحياة السياسية بعد اندلاع الحرب المكسيكية - الأميركية بسبب أطماع الولايات المتحدة بمزيد من أراضي المكسيك. وحقًا، قاد الرجل الجيوش المكسيكية ضد الأميركيين ولكنه هزم في نهاية المطاف وجرى اعتقاله ثم نفيه إلى جامايكا ثم كولومبيا، وهذا قبل أن تعيد الاضطرابات الداخلية في المكسيك أمامه المجال مرة أخرى للعودة في 1853 لتولى السلطة السياسية فيها. ولكن هذه المرة لم يبقَ في السلطة إلا لمدة سنة، إذ أقدم قام القائد الوطني الثوري بنيتو خواريز وزملاؤه على نفيه من جديد أخرى كما أحالوه إلى المحاكمة بتهمة الخيانة، فأمضى الرجل سنواته التالية يسعى لاستعادة السلطة في المكسيك دون جدوى. فلقد أقام في نيويورك لمدة طويلة لكن كبر السن وفقدانه الشعبية والقدرة البدنية كانت عوامل حاسمة حالت دون عودته للساحة السياسية، وولّى زمن أمثاله مع التطورات الداخلية في المكسيك، فمات لوبيز دي سانتا آنا في المنفي في عام 1876.
واقع الأمر أن نموذج لوبيز دي سانتا آنا يعد نموذجًا للتأمل في علوم السياسة والتاريخ والدراسات الإنسانية بصفة عامة، فهذا الرجل من خلال تاريخه الحافل حمل النقيضين، الوطنية المفرطة والمصلحة الشخصية المطلقة. الأولى كانت دائمًا وسيلة الثانية وخاضعة لها، وهو كثيرًا ما يحدث لبعض الشخصيات التاريخية مع مرور الوقت، فتختلط عندهم المصلحة الشخصية بالمصلحة الوطنية، ولكن المستغرب له حقيقة هو أن الرجل على الرغم من كل ما تقدم كان يمثل في مناسبات كثيرة رمز الوطنية لبلاده والتي حارب لها كثيرًا أيضًا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.