يستمر الجدل الأكاديمي حول مفهومي المصلحة والأخلاق في السياسة، فترى مجموعة من علماء السياسة والعلاقات الدولية أن المصلحة القومية تفرض على السياسي توجهه وتسيطر على بوصلته السياسية.
يرى هذا الفريق أن المصلحة تفرض نوعًا من اللا الأخلاق في السلوكيات السياسية للسياسي، ويبررون هذا بمفهوم أساسي هو أن السياسة غير معنية بالأخلاق Amoral بمفهومها الفردي، بينما يرى آخرون ضرورة أن يكون للسياسة ركن أخلاقي في إدارة وظائفهم أو مصالح دولهم مهما يكن الأمر، ويظل هذا التيار على رأيه ويظل الواقع السياسي يفرض قواعده. ولكن في ما بين المدرستين فإن هناك كثيرا من النماذج السياسية التي تجعلنا نتحير عند الحكم عليها لقدرتها على مزج المصلحة القومية مع المصلحة الشخصية وتغليف هذا السلوك بالحس الوطني، ولعل من أغرب هذه النماذج على الإطلاق شخصية السياسي والجنرال المكسيكي أنتونيو لوبيز دي سانتا آنا، الذي قلما ينكب التاريخ دولة أو ينصفها بأمثاله وفقًا للزمان والمكان!
قلما يأتي التاريخ بشخصية يحالفها الحظ، رغم تعدد فشلها، ليصبح رئيسًا لبلاده إحدى عشرة مرة، فهو شخصية التناقض الأخلاقي والتسلق السياسي والذمة الخربة والوطنية المتفانية في آن واحد! فهو في حقيقة الأمر نتاج طبيعي للظروف التاريخية التي مرت بها المكسيك خلال العقود السبعة الأولي من القرن التاسع عشر.
ينحدر هذا الرجل من سلالة إسبانية استوطنت المكسيك لعقود طويلة، وهو ما منحه ميزة نسبية في ظل النظام الطبقي المكسيكي تحت حكم الاحتلال الإسباني، وعلى الرغم من أن والده أراد له مستقبلاً في مجال التجارة، فإنه آثر دخول الكلية العسكرية فانفتحت له وسائل الترقي السريع ولكن غير المستحق بسبب الظروف السياسية المضطربة التي كانت تمر بها المكسيك، إذ بدأ حياته بالولاء لإسبانيا التي كانت بلاد المكسيك ضمن ممتلكاتها منذ القرن السادس عشر، فحارب في شبابه الحركات التحريرية في بلاده، وهو ما منحه الترقي السريع. ولكن لوبيز دي سانتا آنا أدرك مع مرور الوقت أن إسبانيا لن تكون قادرة على الاستمرار في حكم المكسيك لضعفها ولعنفوان الحركة القومية. وبالتالي انقلب ولاؤه لصالح الثوار، وعقد تحالفًا مع الزعيم المكسيكي آغوستين دي إيتوربيدي ضد إسبانيا، وهو ما منحه مزيدًا من الترقي حتى أصبح جنرالاً في الجيش المكسيكي، ولكنّ ولاءه لإيتوربيدي سرعان ما تبدل فانضم إلى صفوف معارضيه بعدما أدرك أنه عاجز عن السيطرة على الأمور طويلاً في المكسيك. وفعلاً منحت هذه الخطوة الرجل شعبية كبيرة في المكسيك حيث عينته الحكومة الجديدة واليًا على إقليم يوكاتان بأقصى شرق المكسيك، وقد استمر لوبيز دي سانتا آنا في لعب دوره السياسي الرائد في المكسيك، إذ انضم إلى معارضي الحكم القائم مرة أخرى في محاولة للترقي السريع. وعند هذا الحد لعب الحظ دورًا كبيرًا في توفير الفرصة لهذا الرجل الطامح، فلقد أرسلت إسبانيا تجريدة عسكرية محدودة لاستعادة المكسيك، غير أن لوبيز دي سانتا آنا استطاع هزيمتها بتكليف من الحكومة، وهو ما رفع من شعبيته لأقصى درجة، وفتح له المجال أمام الاستيلاء على السلطة في أقرب فرصة محمولاً على أكتاف المكسيكيين، وهو ما أوصله إلى سدة الحكم في 1833م.
واقع الأمر أن الظروف السياسية في المكسيك لم تكن لتسمح بالاستقرار بأي حال من الأحوال، فهي دولة كبيرة مترامية الأطراف مزقتها القطبية الفكرية والسياسية بين القوى المحافظة والرافضة للأفكار الليبرالية من جهة، وبين الثوار المقتنعين بضرورة التغيير والانفتاح ومحاربة المؤسسات التقليدية في البلاد وعلى رأسها الكنيسة الكاثوليكية من جهة ثانية، ناهيك من الحركات الاستقلالية في كثير من الولايات المكسيكية. وسط هذا الصراع مال لوبيز دي سانتا آنا في البداية إلى التيار المحافظ، إلا أنه سرعان من انقلب عليه خوفًا من تقليم سلطاته كرئيس للبلاد، وأقدم على حل البرلمان وقبض على السلطة بشكل مطلق. هذا الخيار أثار ضده حركة معارضة واسعة النطاق في الولايات المكسيكية المختلفة، ما اضطره للمواجهة العسكرية معهم ودحرهم بشكل عنيف للغاية مستخدمًا وسائل قمعية. ولكن ولاية تكساس المكسيكية استعصت عليه بسبب وجود كثير من المستوطنين الأميركيين والدعم الأميركي لهم، وهو ما أدى إلى هزيمته عسكريًا في نهاية المطاف في معركة سان خاسينتو عام 1836 على أيدي القائد الأميركي سام هيوستن، الذي تحمل كبرى مدن ولاية تكساس الأميركية اسمه.
لم يسعف الوقت لوبيز دي سانتا آنا للانسحاب من تلك المعركة فتم أسره من قبل القوات الأميركية، وبناءً عليه اضطر الرجل إلى القبول باستقلال تكساس عن المكسيك مقابل إطلاق سراحه. هذا الواقع رفضه الشعب المكسيكي تمامًا، خصوصا الحكومة الجديدة التي أطاحت به، والتي رفضت كذلك التصديق على المعاهدة التي أقرت استقلال تكساس ومن ثم انضمامها إلى الولايات المتحدة وأعلنته خائنًا، فجرى نفيه خارج البلاد إلى جزيرة كوبا.
لكن لوبيز دي سانتا آنا سرعان ما عاد من جديد إلى المكسيك حيث لعب القدر لصالحه مرة أخرى، وذلك بعدما قررت فرنسا إرسال قوة عسكرية تفرض على المكسيك دفع التعويضات لصالح رعاياها. وهنا لجأت الحكومة مرة أخرى إليه للوقوف في وجه هذه القوة في عام 1838. وبالفعل تولى الرجل قيادة الجيش، إلا أنه لم يكن قادرًا على مواجهة الجيش الفرنسي فهزم، لكن التسوية السياسية أنقذت مستقبله السياسي مرة أخرى بعد بتر ساقه أثناء القتال، ويقال إن الرجل قام بدفن ساقه المبتورة في جنازة عسكرية مهيبة!
في كل الأحوال فإن الظروف منحت لوبيز دي سانتا آنا الفرصة مجددًا للقبض على زمام السلطة المركزية في البلاد، فهزم معارضين عسكريًا لكن البرلمان المنتخب حديثًا رفض القبول بحكمه فأطاح به بعدما انفرط عقد الأمة. وهنا ألقي عليه مرة أخرى وأدخل السجن قبل أن ينفى في عام 1845. وتكرر مسلسل العودة بعدما أتيح له المجال مرة أخرى للعودة للحياة السياسية بعد اندلاع الحرب المكسيكية - الأميركية بسبب أطماع الولايات المتحدة بمزيد من أراضي المكسيك. وحقًا، قاد الرجل الجيوش المكسيكية ضد الأميركيين ولكنه هزم في نهاية المطاف وجرى اعتقاله ثم نفيه إلى جامايكا ثم كولومبيا، وهذا قبل أن تعيد الاضطرابات الداخلية في المكسيك أمامه المجال مرة أخرى للعودة في 1853 لتولى السلطة السياسية فيها. ولكن هذه المرة لم يبقَ في السلطة إلا لمدة سنة، إذ أقدم قام القائد الوطني الثوري بنيتو خواريز وزملاؤه على نفيه من جديد أخرى كما أحالوه إلى المحاكمة بتهمة الخيانة، فأمضى الرجل سنواته التالية يسعى لاستعادة السلطة في المكسيك دون جدوى. فلقد أقام في نيويورك لمدة طويلة لكن كبر السن وفقدانه الشعبية والقدرة البدنية كانت عوامل حاسمة حالت دون عودته للساحة السياسية، وولّى زمن أمثاله مع التطورات الداخلية في المكسيك، فمات لوبيز دي سانتا آنا في المنفي في عام 1876.
واقع الأمر أن نموذج لوبيز دي سانتا آنا يعد نموذجًا للتأمل في علوم السياسة والتاريخ والدراسات الإنسانية بصفة عامة، فهذا الرجل من خلال تاريخه الحافل حمل النقيضين، الوطنية المفرطة والمصلحة الشخصية المطلقة. الأولى كانت دائمًا وسيلة الثانية وخاضعة لها، وهو كثيرًا ما يحدث لبعض الشخصيات التاريخية مع مرور الوقت، فتختلط عندهم المصلحة الشخصية بالمصلحة الوطنية، ولكن المستغرب له حقيقة هو أن الرجل على الرغم من كل ما تقدم كان يمثل في مناسبات كثيرة رمز الوطنية لبلاده والتي حارب لها كثيرًا أيضًا.
من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية
من التاريخ : لوبيز دي سانتا آنا.. ونموذج المصلحة والوطنية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة