سلاح الجو السوري: يد النظام الطويلة

لا يزال قادرًا على تنفيذ 100 طلعة جوية يوميًا.. ومروحياته ترمي «سكود الفقراء»

سلاح الجو السوري: يد النظام الطويلة
TT

سلاح الجو السوري: يد النظام الطويلة

سلاح الجو السوري: يد النظام الطويلة

قبل عام 2011، كان سلاح الجو السوري واحدًا من أضعف أسلحة النظام الذي يئس من قدرة حلفائه على تطوير هذا القطاع بما يكفي لمواجهة سلاح الجو الإسرائيلي، فاختار أن يواجهه من على الأرض بواسطة أسلحة الدفاع الجوي التقليدية من صواريخ وبطاريات مدفعية ومنظومات رادار. أما اليوم، فقد بات هذا السلاح هو الأهم والأكثر فعالية لدى النظام السوري في مواجهة خصومه في الداخل، حتى بات يعرف بـ«ذراع النظام» الطويلة لقدرته على ضرب الأهداف في أي مكان في سوريا.
ويعتبر سلاح الجو السوري الأكبر بين الدول العربية لاحتوائه على نحو 900 طائرة، لكنه قد يكون الأقدم لاعتماده على طائرات معظمها قديم الصنع، فيما تواجه الطائرات الحديثة القليلة لديه مشكلة الذخيرة غير المتوافرة بكثرة والباهظة الثمن، ما يجبر النظام على استعمال الطائرات القديمة الصنع التي تضطر للهبوط إلى ارتفاعات منخفضة نسبيًا لضرب أهدافها، والهليكوبترات التي تلقي البراميل المتفجرة، وهذه البراميل تسمى بين الخبراء بـ«سكود الفقراء» لرخص ثمنها، مقارنة بالذخيرة الذكية للطائرات الحديثة.

يُعتقد اليوم أن سلاح الجو التابع للنظام السوري يحتوي على نحو 600 طائرة، أربعة أخماسها طائرات مقاتلة وقاذفة، والبقية مروحية (هليكوبترات)، بالإضافة إلى طائرات النقل. وتأتي صفقة طائرات الـ«ميغ 31» الستة التي يقال إن روسيا قد سلمتها إلى سوريا، لتزيد من قدرة النظام نوعيا، من غير أن تقدر على الزيادة الكمية. فسلاح الجو يواجه أعداء ضعفاء، بمعنى انعدام قدرتهم على إسقاط طائراته بما يكفي لردعه عن الطيران فوق مناطقهم. ويرى المراقبون أن هذه الصفقة - إن صحّت - تعد صفقة سياسية أكثر منها عسكرية، إذ إنها تأتي في وقت يتصاعد فيه الحديث عن تضاؤل الدعم الروسي وعدم التمسك الصارم ببقاء رئيس النظام بشار الأسد في السلطة.
يذكر أنه منذ اندلاع الثورة في سوريا تحول سلاح الجو إلى واحد من أعمدة بقاء نظام الأسد، وسببا رئيسا لبقاء هذا النظام ميدانيا، بسبب قدرته الواضحة على تحويل مسار المعارك في كثير من الأحيان، وهو القطاع نفسه الذي شهد خسارة 400 طائرة في مواجهة إسرائيل، منها نحو 80 طائرة في معركة واحدة حدثت فوق البقاع اللبناني مع الطيران إلإسرائيلي في عام 1982، انتهت بسقوط مائة طائرة سورية مقابل عشر طائرات إسرائيلية فقط سقطت جميعها بفضل صواريخ ومدفعية أرضية، لا بسلاح الطائرات الحربية المقابلة.
ولقد أكد تقرير نشرته مجلة «جينز» العسكرية المتخصصة العام الماضي أن قدرة الجيش السوري على ضرب عمق المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة المعارضة، وتقديم الدعم الجوي القريب للقوات البرية لم تتناقص على الرغم من فقدان كثير من الطائرات خلال أكثر من عامين على اندلاع الحرب. ونقلت عن مصادر عسكرية تركية أن سلاح الجو السوري قادر على تنفيذ 100 طلعة جوية مؤثرة في اليوم بما فيها طائرات الهليكوبتر والطائرات الحربية، وفي المتوسط 50 في المائة منها طلعة قتالية. فيما يتم تقسيم الطلعات الأخرى بالتساوي تقريبًا بين طائرات النقل ورحلات التدريب.
ويرى الخبير الاستراتيجي اللبناني العميد المتقاعد هشام جابر «أن طائرات الميغ 31 تعتبر فخر الصناعة الروسية الحالية، وهي ما زالت تعتبر من السلاح الاستراتيجي في القوات الجوية الروسية». ويقول جابر لـ«الشرق الوسط» إنه «تم تصميم المقاتلة ميغ - 31 وخصص استخدامها ضمن نظام الدفاع الجوي بغية اعتراض وتدمير الأهداف، فهي مقاتلة وقاذفة على حد سواء، يستطيع سلاح الجو السوري الاستفادة منها في زيادة فعالية سلاحه الجوي الذي فقد الكثير من فاعليته خلال السنوات الماضية».
ورجح جابر أن تكون قدرات سلاح الجو السوري وصلت إلى ما بين 70 و75 في المائة مما كانت عليه من قبل، بعد أن دمّرت بعض طائراته العسكرية في المطارات والبعض الآخر يحتاج إلى ورشة صيانة، موضحًا أن الجيش السوري النظامي يملك جميع الأجيال السابقة لطراز ميغ 31 وهو يستخدم حاليًا 9 مطارات عسكرية من أصل 18، وهي مجهّزة ومعدّة بشكل جيد ويستخدمها بحسب ترتيبات الوضع الأمني. وشدد على أن جيش النظام «ليس بوارد الاصطدام بالطائرات العسكرية الأميركية، ولا أميركا تنوي في أن تقوم بأي اعتداء على الطائرات السورية إذا ما أقيم حظر جوي في المنطقة الآمنة».
واعتبر جابر أن «ما تكشف عن تسليم موسكو طائرات ميغ 31 المتطورة لدمشق ينبئ باستمرار الدعم الروسي للقيادة السورية، في رسالة واضحة من روسيا لكل المعنيين بالملف السوري حول العالم». وأردف: «هو دعم يأتي بعد تزايد التكهنات مؤخرًا عن حصول تغير في الموقف الروسي، وصولاً إلى حد الحديث عن موافقة موسكو على التخلي عن حليفها الرئيس الأسد لمصالح لها مع أميركا ودول أخرى، كما يروج البعض». وأكد جابر أن« طائرات الميغ 31 مدفوع ثمنها من قبل سوريا، وأن روسيا ليست جمعية خيرية بل لها مصالح في سوريا، ومع أن روسيا ليست متمسكة بشخص بشار الأسد، إلا أنها تجد في النظام السوري ومؤسساته وجيشه حاميًا لمصالحها». وأضاف: «كل هذا يفتح أفق التساؤل والاستنتاج عن أبعاد الرسالة الروسية، وما إذا كانت تتجاوز الميدان السوري إلى الدول المنغمسة بالحرب على سوريا، مع ارتفاع وتيرة الحديث عن المنطقة العازلة، التي تسعى تركيا إلى إقامتها داخل الأراضي السورية».
من ناحية أخرى، يقول جيفري وايت، الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إنه «بعد أن أُنهك الجيش النظامي في حرب استنزاف، أصبحت القوات الجوية أكثر أهمية. وتشكل هذه القوات عنصرًا جوهريًّا في القوة النارية للنظام، وتمثل قدراتها إحدى أبرز نقاط عدم التكافؤ في الصراع. فالعمليات الجوية تشكل وسيلة رئيسية لاستنزاف قوات الثوار والتسبب بخسائر بين المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وليست أي منطقة في سوريا بمنأى من هجماتها». وتابع وايت أنها «قوة ذات مرونة واستجابة ولقد برهنت أنها قادرة على بذل جهد مستمر في العمليات الاستراتيجية وفي دعم العمليات الميدانية، الهجومية والدفاعية على حد سواء. وتحصل الضربات الجوية في ساحات معارك صعبة كالمدن أو الأرياف أو المناطق الجبلية أو الصحراوية. وتكون الأهداف قريبة من مناطق مأهولة أو ضمنها وغالبًا ما تكون قريبة من قوات النظام أو على اتصال بها. وعملت القوات الجوية السورية في كافة هذه البيئات، بكفاءة على الأقل، إن لم يكن بدقة».
وايت رأى أيضا أنه «بعد عامين ونصف العام من العمليات المستمرة في حرب لم يكن سلاح الجو السوري مستعدًا لها، ولكن أظهر هذا السلاح أيضًا مرونة مفاجئة، إذ فقد خمس قواعد من قواعده الجوية الخمسة والعشرين بينما يقع سبع أو ثمانٍ منها تحت الحصار أو هي هدف للهجمات الدورية». وواصل شرحه قائلا: «في بداية الحرب، كانت هذه القوات تملك أكثر من 500 طائرة حربية ثابتة الجناحين أو بجناحين متحركين تضم الأنواع التي تُستخدم بشكل أساسي في الحرب وهي طائرات (إل 39) و(ميغ 21) و(ميغ 23) و(ميغ 29) و(سوخوي سو 22) و(سوخوي سو 24)، بالإضافة إلى الهليكوبترات (مي 7 - 17) و(مي 24) لإلقاء البراميل المتفجرة والقصف. ومع أنه يصعب تعقب خسارات سلاح الجو السوري، لكن تشير تقديرات قائمة على تقارير المعارضة إلى أن أكثر من 200 طائرة مقاتلة قد تكون قد دُمرت، بالإضافة إلى عدد من أفراد الطاقم الجوي الذين قتلوا أو أسروا أو أصيبوا بجراح أو انشقوا عنها. وحتى مع أخذ المبالغة المتوقعة بعين الاعتبار، يبدو أن استنزافها كبير. وبغض النظر عن هذه الخسارات، يبدو أن القوات الجوية تجري نحو 50 طلعة جوية في اليوم استنادًا إلى تقارير محدودة من المعارضة ومصادر أخرى. ومن المرجح أن تكون روسيا وإيران قد قدمتا مساعدات حيوية للحفاظ على القوات الجوية بما في ذلك توفير قطع الغيار وعمليات تجديد وترميم وتحسين المعدات».
ووفقا لمعهد واشنطن، تنفذ القوات الجوية التابعة للنظام السوري مجموعة كبيرة من العمليات القتالية دعمًا لأهدافها عبر هجمات على مناطق مدنية، بما في ذلك المنازل والمرافق الطبية ومرافق المياه والمخابز والمحاصيل والثروة الحيوانية، يلعب فيها إلقاء البراميل المتفجرة من الهليكوبترات دورًا رئيسيًا. ودعم عمليات الحصار التي تهدف إلى تقويض المقاومة في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، تلعب فيها الهليكوبترات أيضًا دورًا رئيسيًا. وضربات على أهداف عسكرية بما فيها القيادة والقوات والمعدات والخدمات اللوجيستية والمنشآت التابعة للثوار. واعتراض الحركة التكتيكية والعملياتية بما في ذلك شن هجمات على السيارات المدنية وقوافل الثوار وعمليات دعم جوي تكتيكية عن قرب لمساندة القوات البرية. الهجمات الانتقامية بعد سقوط منطقة في يد الثوار. وتشمل المهام العسكرية الهامة الأخرى لقوات الأسد الجوية إعادة التزويد الجوي للقوات المعزولة وإعادة الانتشار الجوي والتعزيز الجوي وإجلاء القوات (على الأقل الضباط) من المعاقل المهددة.
هذا، ويرى مراقبون أن الضربات الجوية المركزة التي وجهها النظام السوري إلى مقرات تنظيم داعش في الرقة، شمال البلاد، أبرزت متغيرًا عسكريًا مفصليًا في تجربة سلاح الجو النظامي الذي عرف في السابق باستخدام طائرات قديمة الطرازات وهليكوبترات هجومية وطائرات تدريب. فقد استخدم الطيران النظامي، لأول مرة في أغسطس (آب) 2014، طائرات تحلق على ارتفاع شاهق، رمت قنابل أصابت الأهداف بدقة، مما دفع سكان المنطقة في سوريا إلى الترجيح بأن هذه الطائرات «أميركية وليست سورية»، على ضوء الضربات الجوية الأميركية لمواقع التنظيم في العراق. غير أن نفي واشنطن ودمشق على حدّ سواء، وتأكيد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن الطائرات أقلعت من مطارات في البادية السورية (شرق حمص في وسط البلاد)، حسم الجدل بشأن هوية الطائرات بأنها سورية.
من جهة أخرى، لطالما استخدم النظام السوري الهليكوبترات أو الطائرات المروحية لرمي براميل متفجرة استهدف بها مناطق سيطرة المعارضة في حلب ودرعا وحماه وريف اللاذقية وداريا في ريف دمشق، كما استخدم طائرات «ميغ 21» القديمة الطراز، إضافة إلى طائرات تدريب من طراز «L36»، التي طورها النظام لتصبح قاذفة ترمي القنابل من علاقات. وحسب ضابط منشق عن الجيش النظامي فإن «النظام يمتلك طرازًا حديثًا من عائلة الميغ بينها (ميغ 29) الروسية الصنع، كما يمتلك طائرات (سوخوي) حديثة لكن تلك الطائرات كانت متوقفة في حظائرها، قبل عامين ونصف العام، بسبب افتقارها لقطع الغيار بحسب ما كانوا يقولون لنا»، من غير أن يستبعد أن تكون روسيا «وفرت قطع الغيار لتلك الطائرات، وزودتها بالقنابل الذكية، بما يتيح استخدامها من جديد».
وأضاف: «طائرات السوخوي معروفة بأنها قاذفات تصيب أهدافها بدقّة، وتحلق على ارتفاع شاهق، لذلك من غير المستبعد أن تكون روسيا أمرت بإعادة تشغيلها من جديد لمواكبة العملية العسكرية في الرقة».
وفي هذا السياق، علّق اللواء الطيار المنشق محمد الفارس لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن عدد الطائرات السورية العاملة تقلص نتيجة سقوط عدد من الطائرات جراء المعارك، مشيرًا إلى أن عدد الطائرات في الخدمة، أساسًا، «يقل عن النصف، نظرًا لأن طائرات كثيرة تحتاج إلى قطع غيار، مما ألزمها البقاء في المطارات العسكرية من غير القدرة على التحليق».
وحسب الفارس، وهو ضابط طيار منشق، إن سلاح الجو السوري، «لا يمتلك القدرة على تحقيق إصابات دقيقة، إذا ما قورن بالطائرات الغربية التي يمتلكها التحالف، لأن ترسانته الجوية، هي من الجيل القديم العائد إلى عقد السبعينات، وهي طائرات قديمة تعمل بأنظمة التوجيه البدائية» كلها طائرات روسية الصنع.
وأردف: «الروس لا يزوّدون النظام بأسلحة تتمتع بدقة عالية في تحقيق الإصابة، فالطائرات الموجودة لا تستطيع إصابة أهدافها عن بعد يتخطى العشرة كيلومترات، بينما طائرات التحالف تستطيع أن تحقق إصابات عن بعد يتخطى الـ40 كيلومترًا»، مشيرًا إلى أن الذخيرة الذكية «موجودة بكميات قليلة، وغير متوفرة لكل الطائرات، وتكلف النظام تكلفة عالية، لذلك لا يستطيع استخدامها».
ولفت الفارس إلى أن النظام «لا يحتاج أساسًا إلى أسلحة ذكية لأن هدفه القتل والتدمير وتهجير السكان وإرغام مقاتلي المعارضة على الاستسلام، لذلك يعتمد على البراميل المتفجرة التي تضرب الأهداف المدنية، وهي سلاح غبي لا يحتاج إلى دقة بالإصابة، نظرًا لأن الغاية منه هي ترهيب السكان وليس قتال قوات المعارضة المتغلغلة بكامل مساحة سوريا».
وفي هذا المجال تستخدم هليكوبترات روسية الصنع في الحرب السورية منذ بدء الاعتماد على سلاح الجو، وهي من طرازات «مي 8» و«مي 14» و«مي 25» القادرة على حمل نحو ثلاثة أطنان من الذخيرة، وتحلق على مسافات مرتفعة ورغم إخراج طائرات عن الخدمة نتيجة سيطرة قوات المعارضة على مطارات عسكرية، وإسقاط عدد من الطائرات الحربية والمروحية، ناهزت بمجملها خلال 4 سنوات، الـ40 طائرة، بحسب مصادر المعارضة، إلا أن القدرة على القصف الجوي، لا تزال فاعلة.
ووفق الفارس فإن احتفاظ سلاح الجو بقدرته على القصف، يعود إلى أنه «لا يلقى مقاومة تذكر، فمن الممكن أن تقلع طائرة من حمص لتضرب أهدافها في حلب، من غير رادع أو معترض، وهو ما مكّن النظام من الاعتماد على سلاح الجو بشكل أساسي»، مشيرًا إلى أن المضادات الأرضية التي تمتلكها المعارضة «بإمكانها أن تبعد طائرة، أو تضعها في دائرة الخطر لحظة انقضاضها لرمي حمولتها، لكنها لا تمنعها من التحليق، ذلك أن المقاتلين لا يمتلكون إلا الأسلحة الخفيفة».
وللعلم، برزت في شهر يونيو (حزيران) الماضي قدرة لدى المعارضة على إصابة الطائرات بصواريخ حرارية في درعا، فجرى تحييد هليكوبترات سلاح الجو الهجومية إلى حد كبير، وألزم الهليكوبترات على التحليق على مسافات شاهقة، قبل رمي حمولتها كما ساهمت تلك الصواريخ التي أسقطت طائرتين منذ مارس (آذار) الماضي في ريف درعا الشرقي، بتقلص عدد الطلعات الجوية نهارًا للطائرات الحربية، واعتماد النظام على القاذفات ليلاً.

* الذئاب المنفردة
يعتمد سلاح الجو النظامي السوري في حربه ضد معارضيه على استراتيجية «الذئاب المنفردة»، أي أن الغارات تنفذ تقريبا من قبل طائرة واحدة في كل مرة تقوم بقصف هدف محدد أو تغير عليه عدة مرات، وذلك بسبب صعوبة التنسيق بين أسراب الطائرات المقاتلة، ولتخفيف الإصابات في صفوفها.
ويقول جيفري وايت إن القوات الجوية السورية لجأت إلى اتباع مجموعة من التكتيكات خلال عملياتها أبرزها الطلعات الفردية المؤلفة من طائرة واحدة تحلق مرة أو أكثر فوق الهدف. والهجمات التسلسلية المؤلفة من ضربات متتالية تقوم بها طائرة واحدة. والهجمات المتكررة ضد منطقة مستهدفة خلال فترة من الزمن بطائرة واحدة أو أكثر. بالإضافة إلى هجمات دقيقة بأسلحة موجهة، ربما بطائرات من طراز «ميغ 29» و«سوخوي سو 24» كما القصف بالبراميل المتفجرة بهليكوبترات نقل وطوافات مقاتلة ضد مناطق مستهدفة.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.