جان دورميسون: هدف «داعش» تحريض الغرب ضد المسلمين

بلغ التسعين ولا يزال فاعلاً في المحافل الثقافية الفرنسية

جان دورميسون
جان دورميسون
TT

جان دورميسون: هدف «داعش» تحريض الغرب ضد المسلمين

جان دورميسون
جان دورميسون

إنه أحد آخر الحكماء في فرنسا. هو عضو الأكاديمية الفرنسية ومن عائلة أرستقراطية عريقة. وقد بلغ التسعين أخيرًا، فقد ولد في سنة 1925. ومع ذلك فلا يزال يكتب وينشر ويظهر على التلفزيون من وقت لآخر. لا تكاد تمل من سماعه، وهو يتحدث لك عن تاريخ الأدب الفرنسي، قديمه والحديث. إنه يعرفه عن ظهر قلب من أوله إلى آخره، وعندما تسأله: هل تفضل أن تكون رئيسا للجمهورية أم مارسيل بروست؟ يجيبك فورا: «بروست، بروست. أبيع الدنيا كلها برواية (بحثا عن الزمن الضائع). السياسة عابرة، وحده الأدب يبقى. إنها لمتعة حقيقية أن تستمع له، وهو يتحدث لك عن شاتو بريان وكتابه الضخم (مذكرات ما وراء القبر). وهو يعتبر نفسه صغيرا جدا بالقياس إلى هؤلاء العمالقة. فوجئت أخيرا بأنه مهموم بقصة (داعش) أكثر من سواه، على الرغم من شواغله الكثيرة وكبر سنه. فلنستمع إليه لكي نرى كيف ينظر إلى هذه الظاهرة المقلقة في تاريخنا وفي تاريخ العالم كله. فنظرة الغريب البعيد قد تكون لها مزاياها أيضًا».
ما رأي هذا الكاتب الديغولي الشهير فيما يحصل حاليا؟ إنه يقول إننا دخلنا في حرب غريبة مريبة لا تشبه كل الحروب. إنها حرب دون جيوش ولا ساحات قتال ولا ألوية ولا أعلام. صحيح أن ضحاياها لا تزال قليلة العدد عندنا في أوروبا، وصحيح أن الطائرات لا تقصف مدننا وقرانا كما كان يحصل إبان الحرب العالمية الثانية. ولكن هناك جو من الخوف والفزع يخيم على الجميع لأنها حرب تستهدف المدنيين العزل بالمصادفة كيفما اتفق. فقد يدهسك شخص في الشارع أو يضربك بسكين أو يفجر قنبلة في السوبر ماركت فيحصد العشرات بشكل عشوائي، إلخ. إنها حرب نزلت إلى الشارع وقد تصيبك وأنت جالس في مقهى، أو في مكتبة، أو مدرج رياضي أو في قاعات السينما والمسرح.. إلخ. أنت وحظك! إنها حرب فجائية مباغتة لا تستطيع توقع ضرباتها وبالتالي لا تستطيع تحاشيها. إذ كيف يمكن أن تتحاشى شيئا شبحيا غير موجود بشكل محدد. إنها حرب داعشية لا تستهدف الجيوش وإنما الناس العاديين. إنها حرب رهائن وكمائن ومصائد. صحيح أنها ليست حربا كلاسيكية تهدد الجيوش الغربية الجرارة. ولكنها حرب حقيقية على الرغم من كل شيء. إنها حرب ممتدة من بروكسيل إلى تولوز، ومن نيويورك إلى باريس، ومن الجزائر إلى ليبيا إلى اليمن إلى أفريقيا الوسطى والغربية، ومن سوريا إلى العراق إلى باكستان إلى مدينة ديجون الفرنسية وحتى مدينة سيدني العاصمة الأسترالية. باختصار فإنها حرب كونية منبثة في كل مكان. ذلك أن «داعش» أصبح مثل «فانتوماس»! هل رأيتم فيلم «فانتوماس» الذي بث أخيرا على التلفزيون الفرنسي؟ هل استمتعتم برؤية الممثل الفكاهي الشهير لويس دو فونيس؟ هل انقلبتم على قفاكم من الضحك؟ الفرق الوحيد هو أن «داعش» لا يضحك على الإطلاق. هذا أقل ما يمكن أن يقال..
ثم يقول لنا جان دورميسون ما معناه: أنا شخصيا كنت دائما أعتقد ولا أزال بأن الإسلام دين كبير وعظيم. لقد أثر بشكل هائل على التاريخ البشري. لقد أسس واحدة من أجمل الحضارات. وقد لامني الكثيرون في الغرب على هذا الاعتقاد، على هذا التمجيد والإعجاب بالإسلام. ففي رأيهم هو دين قتال وعنف، وسيف وضرب، ليس إلا. ولكني أخالفهم الرأي تماما. فالحضارة الإسلامية حققت بعضا من أجمل الإنجازات للعبقرية البشرية إبان العصر الذهبي. وبالتالي فإن «داعش» يدنس شرف الإسلام ويمرغ سمعته في الحضيض. وينبغي العلم بأن المسلمين عندنا هنا في فرنسا وفي أماكن أخرى هم أول من يدين «داعش» ويتبرأ منه. ولذا ينبغي أن نشكرهم، أن نحترمهم، أن نساندهم. أما «داعش» ذاته فينبغي أن نواجهه بالطريقة المناسبة.
لماذا يقول جان دورميسون هذا الكلام؟ لأنه يخشى أن تؤدي فظائع «داعش» إلى حصول ردود فعل هائجة لدى الشعب الفرنسي ذاته ضد كل عربي أو مسلم يعيش على أراضيه. إنه يخشى أن يتعرض المسلمون في شوارع الغرب للاعتداءات من طرف البعض كرد فعل. وعندئذ تتحقق أمنية «داعش» الكبرى. وبالتالي فهو أحد حكماء فرنسا المعدودين، ولكن لحسن الحظ فإن الشعب الفرنسي ناضج حضاريا ولا يستسلم للانفعالات الغرائزية بسهولة. وقل الأمر ذاته عن بقية الشعوب الأوروبية المتحضرة والمستنيرة.
إن جان دورميسون يريد توعية الجماهير الفرنسية لكيلا تستسلم لغرائزها الانتقامية، ويحصل ما لا تحمد عقباه. وهذا مقصد نبيل يشكر عليه الكاتب الكبير؛ فماذا كان سيحصل (لا سمح الله) لو هاجت الجماهير الفرنسية والأوروبية عموما ضد جالياتنا ومهاجرينا في بلاد الغرب؟ ينبغي ألا ننسى أن عددهم في فرنسا وحدها يبلغ 5 ملايين نسمة. فما بالك بأوروبا كلها؟ يقال إن العدد يصل إلى 15 مليون نسمة وربما أكثر. فما بالك بالغرب كله أي حتى أميركا وكندا وأستراليا؟ بل فما بالك بالعالم كله لأن الشرق الأقصى أيضًا هائج ضدنا بسبب «داعش» و«القاعدة» و«النصرة»، وكل حركات التطرف التي تكفر الصينيين واليابانيين والهنود وتعتبرهم مشركين؟ فالديانات الكنفوشيوسية أو البوذية والهندوسية تعتبر رجسا من عمل الشيطان بالنسبة لطالبان. ألم يدمروا تماثيل بوذا الرائعة في باميان؟ وبالتالي فالقصة الداعشية أصبحت كونية. وأنا شخصيا أعتبر ذلك شيئا مفيدا جدا ويمشي باتجاه حركة التاريخ. ربما أدهش كلامي هذا جان دورميسون لأول وهلة. ولكنه قادر على تفهمه تماما. فهو مطلع على فلسفة هيغل ويعرف أنه «إذا ما كبرت ما تصغر». كانت القصة الداعشية مضمرة، مكبوتة، مسكوتًا عنها. كانت كامنة أو نائمة في أحشاء أحشائنا. والآن انفتحت على مصراعيها. وهذا بحد ذاته تقدم هائل ضمن مسار حركة التاريخ. كانت كقنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة لأن مبرراتها الموضوعية مسجلة في أعماق التراث وأحشاء الواقع والتاريخ. بل إنها مسجلة في برامج التعليم المدرسية ناهيك بخطب الكثير من شيوخ التطرف والظلام. ناهيك بالثقافة الدينية القروسطية المنبثة في العائلة والمجتمع ككل. وبالتالي فلا يمكن حلها قبل حل المشكلة التراثية ذاتها. وإذن فالمواجهة ليست فقط عسكرية وإنما فكرية بالدرجة الأولى. وسوف تنفجر في وجوهنا مئات الدواعش لا حقا إن لم نحلّها فكريا وجذريا من أساساتها. من الواضح أن العالم الإسلامي يتهيب حتى الآن خوض هذه المعركة الفكرية العسيرة جدا، لأنها ستضعنا في مواجهة مباشرة مع أنفسنا، مع أعماق أعماقنا. لكن لا بد مما ليس منه بُدّ.
أخيرًا، فإن جان دورميسون يحمل بشدة على إردوغان المتواطئ ضمنيا مع داعش لأسباب انتهازية، وربما حتى آيديولوجية، كما يعتقد «فالرجل كان في شبابه الأول داعشيا حقيقيا، ثم تظاهر تكتيكيا بأنه تطور وتغير. ولذا ينصح جان دورميسون الحكومات الغربية بمساعدة الفئات التي تقف حاليا في مواجهة داعش وتحقق عليها الانتصارات، وفي طليعتها الشعب الكردي البطل الذي يصب إردوغان جام غضبه وحقده عليه فقط، على الأقل حتى الآن. ثم يتظاهر بأنه يحارب «داعش» والإرهاب! وهو وإياه من أرومة واحدة. الجميع إخوان مسلمون باعتراف القرضاوي نفسه. من هنا حقده أيضًا على الرئيس النهضوي المستنير عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح بالحكم المتخلف للجماعة وأحبط كل مخططات السلطان إردوغان في السيطرة مجددا على العرب من خلال الأممية الإخوانية الأخطبوطية التي لا تقل توتاليتارية عن الأممية الشيوعية سابقا. ولكن إردوغان مخطئ فعقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء. ومصر وراءها مائتا سنة من النهضة والتنوير وكذلك تركيا ذاتها. ولذا فمن مصلحته التخلي عن هذا الحلم الإخواني الظلامي الرجعي. وكفاه شدا لتركيا إلى الوراء. كفاه معاندة لحركة التاريخ. المستقبل ليس للإخوان المسلمين! المستقبل لفهم آخر للإسلام، فهم مضاد تماما. المستقبل سيكون لتفسير عقلاني مشرق، لعصر ذهبي جديد يتجاوز العقلية القروسطية الانغلاقية لحسن البنا وكل هذه الجماعة الإرهابية التي أسسها. ثم من مصلحته أيضًا فك الارتباط مع «داعش» والإرهاب. فهل سيفعلها ولو مرغمًا؟ على أي حال هذا ما نصحه به زميله السابق في النضال الرجل الحصيف المتزن عبد الله غل. بل واصطدم معه علنيا أخيرا في أحد الاجتماعات أو في سهرة إفطار. فكان أن رد عليه بعنف واصفا إياه بأنه خائن وجبان لأن غل دعاه إلى تغيير سياسته الخاطئة تجاه العرب وبالأخص مصر. إنه يركب رأسه مثل صدام حسين، ويرفض التراجع عن الخطأ. فهل هو مصاب بجنون العظمة أيضًا يا ترى؟ البعض يؤكد ذلك. على أي حال فإن مصر السيسي سائرة في الاتجاه الصحيح على طريق التقدم والعمران. وأكبر شاهد على ذلك تدشين قناة السويس الجديدة التي لا تقل عظمة عن معجزات مصر السابقة، كأهرامات الفراعنة أو السد العالي أو إشعال التنوير النهضوي العربي أو بقية الإنجازات التاريخية».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!