من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان جاكوب فوغر بالفعل «أغنى رجل في التاريخ»، مثلما يشير عنوان كتاب السيرة الذاتية الجديد الذي وضعه غريغ ستاينمتز. ومع ذلك، فإن المؤكد أنه بنى ثروة هائلة تفوق أيا من كبار مليارديرات عصرنا الحالي.
في الواقع، قليلون سمعوا باسم جاكوب فوغر. الواضح أن كبار الأثرياء الآن تتركز حولهم مشاعر متضاربة، ما بين النفور إزاء ما يمثل تناميًا مستمرًا في التفاوت بين الدخول ومشاعر الاحترام والتوقير من قبل الرأي العام تجاه أحدث أنماط المليارديرات العاملين بحقل التكنولوجيا. وعليه، يبدو الوقت مناسبًا تمامًا لاستكشاف الدروس المستفادة من حياة إحدى شخصيات عصر النهضة التي طواها النسيان، والذي تجاوزت ثروته بفارق كبير ثروة بيل غيتس الذي ما يزال يتربع على قمة قائمة «فوربس» لأغنى أغنياء العالم بثروة تقدر بـ79.2 مليار يورو.
بالتأكيد تبدو تلك فكرة جيدة تمهد الطريق أمام كتاب مثير، لكن جاءت النتيجة، على خلاف الحال مع ثروة فوغر، متواضعة نسبيًا. وتحمل الإشكالية التي واجهها ستاينمتز وجهين.
أولاً: أن فوغر، المصرفي الألماني الذي عاش بداية القرن السادس عشر، لم يخلف وراءه الكثير من الوثائق التي يمكن أن تمدنا بمعلومات عن حقيقته كإنسان، ذلك أنه لم يترك رسائل حب ملتهبة أو مذكرات كاشفة، أو حتى وصفا من معاصريه لمواقف انفعالية مر بها. ورغم أنه من المسلي قراءة خطاباته للإمبراطور الروماني المقدس، تشارلز الخامس، التي يطالبه فيها برد القروض الضخمة التي يدين بها وفوائدها «من دون تأخير»، فإنها لا تسلط الضوء على الرجل ذاته، بخلاف توضيح مقدار ثقته بنفسه ونفوذه الهائل. وعليه، يجد الكاتب نفسه مرارًا مضطرًا للتكهن بما كان يفكر فيه أو يشعر به فوغر في الكثير من المواقف المحورية من حياته.
ثانيًا: من غير الواضح ماهية الدروس التي تحملها قصة فوغر لأي من الطامحين إلى الثراء الفاحش أو الباحثين عن قصة أخلاقية تكشف أخطار التفاوت المفرط للدخول. إلا أن البيئة الاقتصادية والسياسية لأوروبا خلال عصر النهضة تختلف تمامًا عن عصرنا الراهن، ما يجعل من الصعب العثور على تشابهات وعقد مقارنات بينهما.
وقد حاول ستاينمتز بجد، ولكن من دون أن يفلح في إقناعنا، بأن لقصته أهمية معاصرة تتمثل في أن فوغر «كان أول رجل أعمال بالمعنى الحديث لأنه كان أول من سعى وراء بناء الثروة كهدف في حد ذاته».
بيد أن الانشغال المشروع في الوقت الحاضر بالتفاوت المتنامي بين الدخول قد يدفع المرء أحيانًا لنسيان أنه حتى النصف الثاني من القرن الـ19 عاش غالبية الناس في فقر مدقع. إن ما يذكرنا به كتاب «أغنى رجل في التاريخ» أنه قبل عصرنا، كان الفقراء أكثر عددًا وأشد فقرًا، بينما كان الأثرياء أقل عددًا وأكثر ثراءً. ومن أجل تفهم السبب وراء ذلك، لا يتعين علينا النظر في شخصية فوغر أو مشاعره الداخلية، وإنما للكيفية التي بنى بها ثروته.
لقد جعل فوغر من نفسه شخص لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للكثير من الحكام عبر تمويله لرشاوى وحروب وأدوات أخرى مكلفة في عالم إدارة الدول. ومقابل ذلك، أصر على التمتع بامتيازات حصرية، خاصة بمجال التعدين، داخل حدود دول هؤلاء الحكام وكذلك الدول التي كانوا على وشك غزوها. وفي إطار اقتصاديات سيطر خلالها الحكام على الموارد الطبيعية المهمة والسلع التي شكلت الجزء الأكبر من إجمالي الناتج الداخلي، فإنه ليس من العجيب أن يتمكن الحكام أو داعموهم من بناء ثروات ضخمة غير مسبوقة. ورغم أن مشاعر القلق في عصرنا الراهن حيال تفاوت الثروات تبقى مشروعة، فإن ظهور اقتصاد المعرفة يجعل من المستحيل تركز الثروة على النحو الذي كانت عليه في عهد فوغر.
ومن بين صفحات كتاب «أغنى رجل في التاريخ» تظهر مجموعة غير متوقعة من الأبطال: المحامون. مثلما الحال في العصر الحالي، يبدو أن المحامين كانوا ممقوتين على المستوى العام خلال عصر فوغر، وكانوا في تزايد مستمر، حسبما ذكر فوغر. وكان من شأن سطوة القانون الروماني على ما يعرف باسم القانون العرفي نتيجتان، إحداهما إقرار قدسية حقوق الملكية الخاصة، الذي أدى لخلق كثير من المنافسين المحتملين من الأفراد للدولة فيما يخص ملكية أصول محورية. أما النتيجة الثانية فهي أن فرض هذه الحقوق وغيرها من الحقوق الأخرى خلق طلبًا مستمرًا على المحامين، وأدى بصورة غير مباشرة إلى إقرار أسس طبقة وسطى مهنية.
ولا شك أن العين المعاصرة تنظر لوجود شخص مثل فوغر بدهشة، فقد كان الملوك يأتمرون بأوامره في إعادة ترسيم الحدود وجمع الضرائب. وغير الباباوات القانون الكنسي - خاصة الحظر المفروض على التعامل بالربا - لخدمة مصالحه.
وقد ثار الناس ضد هذا الوضع، لكن لم يصادفوا نجاحًا كبيرًا، حيث سرعان ما تعرضت «حرب الفلاحين الألمان» للسحق وراح ضحيتها 100.000 شخص. أما أبرز التداعيات المستمرة حتى يومنا هذا لفوغر فهي ظهور البروتستانتية، والتي يمكن وصفها بأنها رد فعل لنجاح فوغر في السيطرة على روما.
المؤكد أن الهياكل الاقتصادية والسياسية التي مكنت فوغر من بناء هذه الثروة الضخمة لم تعد قائمة الآن. ومع ذلك، يبقى كتاب «أغنى رجل في التاريخ» قادرًا على تقديم قصة ساحرة ومهمة تكشف أخطار الرأسمالية المتوحشة، خاصة داخل الاقتصاديات التي يهيمن عليها حكام مستبدون.
* خدمة «نيويورك تايمز»