قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية
TT

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

تستعد مصر بعد مائة وواحد وأربعين عامًا من الافتتاح الأول لقناة السويس، للافتتاح الثاني لمجري قناة السويس الجديدة الموازية، ذلك المسار الذي يصل طوله لقرابة اثنين وسبعين كيلومترًا بما يعظم من القيمة الاستراتيجية ويوسع التجارة الدولية. ولكن الحقيقة الثابتة التي لا خلاف عليها أن ظروف شق القناتين قد اختلفت تمامًا، كما أن المستقبل في الحالتين سيختلف تمامًا، فعلى الرغم من أن مشروع إنشاء قناة السويس تاريخيًا منذ افتتاحها عام 1869، كان من المفترض أن يكون فاتحة خير على مصر في القرن التاسع عشر، فإن الظروف السياسية والنمط الاستعماري في العالم آنذاك حول هذا المشروع العظيم إلى أداة لضرب الاستقلال المصري، انتهى باحتلال البلاد في عام 1882، ثم باندلاع حرب عام 1956 المعروفة بـ«العدوان الثلاثي»، عندما سعت بريطانيا لمحاولة إعادة احتلال مصر مرة أخرى بعد استقلالها وجلاء قواتها عنها، ولكن اليوم يختلف تمامًا عن البارحة.
إن فكرة وصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر لم تكن وليدة القرون الحديثة؛ بل إن هناك أفكارا منفذة بالفعل سعت إلى ذلك خلال ألفيات سابقة ولو بشكل غير مباشر. ولعل مشروع «قناة سوزيستريس» التي ربطت بين البحرين الأحمر والمتوسط من خلال نهر النيل، يعد مثالاً على الفكرة البدائية لقناة السويس لتسهيل التجارة البحرية عبر الأراضي المصرية. ولكن مع مرور الوقت اندثرت هذه القناة وظلت التجارة الدولية تمر من خلال المتوسط إلى ميناء السويس على ظهور الإبل، فكان ذلك يرفع سعر التكلفة والوقت في آن معا. ومع الصعوبات المرتبطة بهذا الخط التجاري، فقد كان أفضل وأقصر الطرق المتاحة للتجارة بين الشرق والغرب، ولكن الخريطة التجارية والاستراتيجية الدولية تغيرت بشكل كبير عقب الفتوحات الجغرافية المختلفة، خاصة عندما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، فحولوا جزءًا كبيرًا من التجارة الدولية حول القارة الأفريقية، وهو ما ضرب مصدرًا مهمّا للدخل المصري، وقلل من أهمية البلاد الاستراتيجية، مما دفع الدولة المملوكية للدخول في حرب بحرية شهيرة هي معركة «ديو» البحرية عام 1509 للقضاء على هذا الطريق الجديد. ولكن القوات المصرية - العثمانية انهزمت أمام القوة البحرية البرتغالية، وتم تثبيت وضعية التجارة الدولية في أغلبها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ودخلت مصر عصرًا من الهبوط المالي والاستراتيجي النسبي إلى أن جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت. وقد درس الفرنسيون فكرة ربط البحر المتوسط بميناء السويس على البحر الأحمر، ولكن التقدير الخاطئ لعلماء الحملة الفرنسية دفع للاعتقاد بأن منسوب البحر الأحمر أعلى من المتوسط، مما سيؤدي إلى غرق الأراضي، فلم تخرج الفكرة إلى حيز النور. ولكن مع مرور الوقت والارتباط القوي بين فرنسا ومصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، دفع فرديناند دليسيبس، أحد الشخصيات الفرنسية المغامرة وأقرب أصدقاء للأمير سعيد الذي أصبح بعد ذلك والي مصر، لدراسة المشروع مرة أخرى، وقام بطرح الأمر على سعيد باشا عام 1854، مقترحًا بناء ميناء في المتوسط باسم بورسعيد، نسبة له، ثم شق قناة تربط بين البحر المتوسط والبحيرات المختلفة، وأخرى من ميناء السويس إلى البحيرات. وبالفعل وافق والي مصر على إنشاء شركة لهذا الغرض في العام نفسه على أن تؤول إدارتها إلى مصر بعد تسعة وتسعين عامًا من تاريخ الافتتاح. وقد تم منح مصر ما يقرب من خمسة عشر في المائة من عوائد الشركة، وعشرة في المائة للمؤسسين، وخمسة وسبعين في المائة للمساهمين.
وعلى الرغم من رجاحة المشروع، فإن بريطانيا كانت رافضة له؛ حيث كانت لها أطماعها في مصر منذ الحملة الفرنسية على البلاد، خاصة أنها كانت تتحكم في مجرى التجارة بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق وفي قبلها الهند. وكانت فكرة أن يسيطر الفرنسيون على هذه القناة الجديدة كارثية في ظل الصراع البريطاني الاستعماري مع فرنسا، فعمدت بريطانيا للضغط على المصارف الدولية لوقف تمويل هذه الشركة. وبالتالي وجد ديليسبس نفسه في موقف حرج للغاية اضطر معه للبحث عن وسيلة للاكتتاب العام في الشركة، فطرح أسهمها في البورصات الدولية. ولجأ ديليسبس مرة أخرى لصديقه والي مصر لإقناعه بشراء كثير من الأسهم بما يفوق طاقة الخزانة المصرية، ولكن الرجل فعل ذلك باستدانة واسعة بفائدة عالية، فكانت هذه بداية الأزمة المصرية الحقيقية التي تفاقمت على مدار السنوات التالية.
وبالفعل بدأ الحفر في القناة بدءا من 1859 بسواعد مصرية كفلها والي مصر للشركة. والثابت تاريخيًا، رغم محاولات البعض تجميل الصورة، أن العمال المصريين دفعوا أثمانًا باهظة لهذا المشروع في ظل ظروف أقرب للسخرة توفيرًا للنفقات، فمات ما يقرب من ربع القوة العاملة في القناة في ظل ظروف غير إنسانية يدفعها عدم اكتراث القيادة السياسية في البلاد وجشع المستثمرين والمغامرين الغربيين. وعندما آل حكم مصر إلى إسماعيل باشا، فإنه وجد مصر تمر بظروف مالية صعبة للغاية أدت إلى مزيد من الاستدانة لضمان استمرار العمل في القناة، وبعد عشر سنوات من الحفر والعمل الشاق على أكتاف المصريين، جاءت لحظة الافتتاح العظيمة في 1869 التي شارك فيها كبار الساسة، وعلى رأسهم أوجوني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وقام والي مصر بالاستدانة مرة أخرى لدفع نفقات الاحتفالات المبالغ فيها بشكل فج التي تقدرها بعض المصادر التاريخية بقرابة خمسة عشرة ملايين جنيه مصري، وهو ما دفع بالبلاد إلى حافة الإفلاس، خاصة في السنوات القليلة التالية. وتزامنت هذه الحقبة مع التزام مصر بتسديد رهنها لمحاصيل القطن المصري الذي كان يعد أهم منتجات البلاد، في الوقت الذي انتهت فيه الحرب الأهلية الأميركية وعاد القطن الأميركي ينافس القطن المصري، مما أدى لهبوط أسعار هذه السلعة على المستوى الدولي، فوضع ذلك مزيدًا من الضغوط على مصر.
وعند هذا الحد اضطر إسماعيل باشا إلى بيع أسهم مصر في قناة السويس بمبلغ زهيد وصل إلى عشرين مليون جنيه مصري، وكان المشترى بطبيعة الحال هو بريطانيا العظمي، فلقد رأي رئيس الوزراء بنيامين ديزرائيلي فرصته الذهبية ليضع يده على أسهم الشركة فيحقق بالمال ما لم يكن يستطيع تحقيقه بالقوة العسكرية، وذلك بمزيد من المكاسب المالية، فقد تضاعفت أسعار هذه الأسهم وعائداتها أضعافًا مضاعفة. وبدأ الخراب السياسي والمالي يحل على مصر تدريجيًا، مما دفعها لمزيد من الاستدانة ووضع خزانتها تحت الوصاية الفرنسية والبريطانية المشتركة عند حد معين، وتبع ذلك إقالة إسماعيل بضغوط دولية، وحل بدلاً منه الخديوي توفيق الذي كان أضعف من مقاومة الغربيين، فدانت البلاد للنفوذ البريطاني التدريجي، وعندما اندلعت الحركة العرابية بقيادة أحمد عرابي ضد الاستبداد، بدأت بريطانيا تحرك أسطولها مستغلة الظروف لاحتلال مصر. وعلى الرغم من تأكيدات شركة قناة السويس بأن القناة محايدة ولا يتم استخدامها في الأغراض العسكرية، فقد استخدمها الأسطول البريطاني للأغراض العسكرية، وانهزم الجيش المصري في معركة التل الكبير واحتلت بريطانيا مصر في عام 1882.
إن هذه القصة الحزينة لإنشاء قناة السويس بأرواح وأموال مصرية كثيرة، تمثل نموذجًا حقيقيًا لسوء الإدارة السياسية والمالية والانتهازية الحقيقية، وعلى الرغم من أنه كان مفترضًا أن تكون هذه القناة مصدرا للخير والرخاء لمصر وشعبها في القرن التاسع عشر، فإن الاستعمار الدولي بالتوازي مع ضعف القيادة السياسية في مصر أدي إلى إفلاس البلاد واحتلالها الفعلي. ومع ذلك، فقد أصبحت مع مرور الوقت سندًا حقيقيًا لمصر ودورها الإقليمي بعد أن استقرت أوضاع القناة باستقرار الأوضاع السياسية. وأصبحت القناة اليوم تمثل مساهمة كبيرة للخزانة المصرية وللقيمة الاستراتيجية المتعاظمة لها على المستوى الدولي.
وعلى الرغم من مظاهر الاحتفال بمناسبة افتتاح القناة عام 1869 واليوم، فإن واقع الأمر يشير إلى الاختلاف التاريخي لحفر القناتين، فاليوم يفخر المصريون بهذه القناة التي أنشئت بسواعدهم وأموالهم على حد سواء وبلا تدخلات سياسية أجنبية في الشأن المصري. وقصة افتتاح قناة السويس اليوم لا تمثل للمصريين فرحة بتحقيق هدف استراتيجي بسواعد وأموال مصرية في وقت قياسي فحسب، ولكنها تمثل لكثيرين مصالحة مع العناء التاريخي، ودواءً حقيقيًا لمرارة واحدة من أصعب الفترات التاريخية في حياة مصر الحديثة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.