مشروع خط سكة حديد إسرائيلي.. يقسم الضفة

وزير المواصلات الطامح بمنصب رئيس الحكومة يطرح مشروعًا ويباشر في تنفيذ قسم منه لإعادة بناء سكة حديد الحجاز

مشروع خط سكة حديد إسرائيلي.. يقسم الضفة
TT

مشروع خط سكة حديد إسرائيلي.. يقسم الضفة

مشروع خط سكة حديد إسرائيلي.. يقسم الضفة

المهندس الإسرائيلي ديفيد ريجف، يجلس أمام حاسوبه، ويحلم. لكن كرسيه يجعل حلمه «خطة رسمية» في الدولة العبرية، تؤثر على مصائر الفلسطينيين والإسرائيليين. فهو موظف كبير في وزارة المواصلات. وعلى رأس وزارة المواصلات يوجد وزير «طموح»، يتطلع لمنصب رئيس حكومة إسرائيل القادم. هو يسرائيل كاتس، أحد أقطاب اليمين الإسرائيلي، الذي يعمل حاليا تحت كنف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ولكن المقربين منه يؤكدون أنه بات متعجلا للحلول مكانه في قيادة حزب الليكود وبالتالي رئاسة الحكومة. وقد نجح خلال السنوات الست، التي يتولى فيها هذا المنصب، في إحراز تقدم كبير في شق شوارع جديدة وحديثة وتجديد المعابر الحدودية وخطوط السكة الحديد، أحدثت ثورة في تقريب الريف إلى المدن، وتقريب البلدات المنتشرة على الحدود إلى البلدات الواقعة في وسط البلاد وتقليص ساعات السفر فيما بينها. لذلك، فإن ديفيد ريجف يحلم على قد حلم رئيسه الوزير. فيضغط على أزرار حاسوبه ويُشغل برنامج الرسومات الهندسية ويرسم خطوطا تمتد كالشرايين من مدن إسرائيل باتجاه الشرق، لتملأ الضفة الغربية.
هذه الخطوط ستتحول في حلمه إلى شبكة خطوط سكة حديدية تمتد من إسرائيل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ومن هناك إلى الدول العربية. إنه يعيد فيها رسم خطوط سكة حديد الحجاز التاريخية، تلك التي بنيت في عهد الحكم العثماني، من تركيا وحتى المدينة المنورة ومكة. وعندما وصلت إلى دمشق، امتد منها خط سكة حديد إلى فلسطين. والوزير الإسرائيلي يريد أن يفعلها من جديد.

خط سكة حديد الحجاز بني في حينه (سنة 1908) ليخفف على حجاج بيت الله الحرام ويؤسس لطريق تجاري كبير ما بين مركز الخلافة العثمانية وبين الحجاز. لكن الحروب دمرته مرتين، الأولى في الحرب العالمية الأولى، حيث نسفها الثوار العرب ليقطعوا الإمدادات عن قوات الاستعمار. فتعطلت. والثانية بعد الحرب العالمية الثانية، وقد دمرتها القوات الصهيونية التي خشيت أن يستخدمها العرب في حربهم لمنع قيام الدولة العبرية ومنع النكبة الفلسطينية. وعندما قامت إسرائيل، أهملت هذا الخط، ولكنها لم تترك الحلم بأن تعيد بناءه في يوم من الأيام. وفي مؤتمر مدريد للسلام، سنة 1991، وخلال المحادثات الإسرائيلية العربية المتعددة الأطراف، طرحه شيمعون بيريس على الطاولة كجزء من «الشرق الأوسط الجديد»، الذي «ستكون فيه الحدود مفتوحة بين إسرائيل والعالم العربي أمام التجار والسياح». واليوم يعودون لطرحه في إسرائيل، بمبادرة ممن لا يؤمن بقيام دولة فلسطينية.
البعض يقولون، وليس فقط في الطرف الفلسطيني، إن الهدف هو تكريس الاحتلال الإسرائيلي. ففي تقرير للدكتور جليت باوم، إحدى النشيطات في حركة «ائتلاف النساء الإسرائيليات من أجل السلام»، تقول إنها لفكرة ساخرة أن يطرح الوزير كاتس بالذات مشروعا كهذا بهدف السلام». وتؤكد أن الفكرة نابعة من أطماع احتلالية تقليدية. وتتابع: «من يرد السلام يتنازل أولا عن الاحتلال ويفاوض ممثلي الشعب الآخر على مكنون السلام، ولا يفرض عليه شيئا، حتى لو كان ذا طابع تطويري وتعميري». ثم أكدت أن المشروع غير قانوني، بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي.
لكن هذا لا يمنع الوزير كاتس من التخطيط، والحديث عن «آفاق هذا التخطيط لخدمة الشعبين». لا بل إنه ينفذ بعض المقاطع من المشروع على الأرض.

* المخطط
حسب الخرائط الاستراتيجية للمشروع، فإن الحديث يجري عن شبكة خطوط السكة الحديد، تدخل خدمات القطار لأول مرة إلى الضفة الغربية. وهي موزعة على النحو التالي: مقطع طولي - وهو ينطلق بخطي سكة حديد اثنين، الأول يصل ما بين مدينة بيسان في الشمال وأريحا في الجنوب، على طول الطريق الغربي لنهر الأردن. والثاني ينطلق من مدينة العفولة (عشرة كيلومترات جنوب مدينة الناصرة) في مرج ابن عامر، ويمتد نحو جنين في شمال الضفة الغربية ثم نابلس ورام الله والخليل وحتى النقب وإيلات.
المقاطع العرضية - هنا يجري الحديث عن ستة خطوط سكة حديد رئيسية ولبعض منها توجد عدة فروع. الأول لا يتعلق بالفلسطينيين في الضفة الغربية، إنما يمتد من حيفا وحتى بيسان ومن هناك إلى الأردن ويصل إلى مدينة إربد، حيث كان يمر في الماضي خط سكة حديد الحجاز بالضبط. وقد تحدث الوزير كاتس عن هذا الخط، خلال كلمة ألقاها يوم 5 سبتمبر (أيلول) 2012، في حفل ترميم وتجديد معبر الملك حسين (اللنبي سابقا)، الذي يصل بين الضفة الغربية والأردن، ولكن إسرائيل تسيطر عليه منذ احتلال 1967، فقال إنه سيصل إسرائيل بالعالم العربي ويتحول إلى معبر تجاري بحري بري ما بين أوروبا ودول الشرق العربي، سوريا والأردن ومنهما إلى العراق ودول الخليج. والثاني يربط ما بين القدس وأريحا ومن ثم العاصمة الأردنية عمان، لنفس الهدف. والثالث ما بين مدينة نتانيا الإسرائيلية الساحلية وبين طولكرم في الضفة الغربية، ثم يتوجه إلى مدينة نابلس، بعد أن يمر على منطقة بركان الصناعية الاستيطانية ثم مدينة وجامعة أرئيل الاستيطانية. وخط سكة الحديد الرابع يصل بين نابلس ورأس العين. والخامس بين الخليل وقطاع غزة. والسادس بين تل أبيب والقدس.
وهو ليس مشروعا على الورق فحسب، إنما نجد أن الوزارة أنجزت أكثر من نصف العمل في مقطعين رئيسيين منه. المقطع الأول، خط سكة حديد من تل أبيب إلى القدس، وهو يمر عميقا في أراضي الضفة الغربية، ويثور حوله الجدل. فقد أدخلوه إلى الضفة الغربية كي يتجنبوا مروره بالقرب من المستوطنات «الوادعة»، التي ترفض تقريبه إليها حتى لا يزعج ضجيج القطارات المستوطنين فيها. ولكن تقريبه من البلدات الفلسطينية المحتلة يثير المخاوف الأمنية، من «اعتداءات فلسطينية إرهابية». ولكن وزير المواصلات يصر على إكماله ويقول إن على قوات الأمن أن تهتم بحماية القطار والمسافرين، مؤكدا أنه سيخدم كلا الشعبين.
وأما المقطع الثاني الذي بوشر بتنفيذه في الشمال، فيعني عمليا إعادة تفعيل خط سكة حديد الحجاز القديم، الممتد من دمشق وحتى حيفا. وحسب قرار الوزارة سيتوقف خط سكة الحديد حاليا عند نهر الأردن، على أمل أن تتغير الظروف ويتواصل في الجهة الأردنية والسورية من النهر لاحقا.
كلا هذين المقطعين سينجزان بالكامل في السنة القادمة (2016)، والعمل فيهما جارٍ على قدم وساق.

* المخاوف الفلسطينية
المسؤولون الفلسطينيون الرسميون يرفضون هذه المشاريع ويعتبرونها اعتداء على السيادة الفلسطينية كونها لا تتم بالتنسيق معهم ولا تأخذ بالاعتبار مصالحهم. وكما يقول المهندس محمد القاووق، فإن الحديث يجري عن مد 11 خط سكة حديدية إسرائيلية في الضفة الغربية، مجموع طولها ٤٧٥ كيلومترا (على سبيل المقارنة يبلغ مجموع طول سكك الحديد داخل إسرائيل نحو ١١٠٠ كيلومتر). وعمليا ستمتد هذه السكك من شمال الضفة الغربية حتى جنوبها على جبالها وأغوارها وترتبط بخطوط عرضية لتربط معظم التجمعات الاستيطانية اليهودية المقامة زورًا وعدوانًا على أراضي الضفة الغربية في المدن الاستيطانية الإسرائيلية الواقعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، لتبتلع 30 ألف دونم في مسار السكة والطريق المحاذية وحدود خط القطارات ومحطاتها ونقاط التفتيش، ثم ستكبل أيدي الفلسطينيين من استخدام نحو 70 ألف دونم أخرى على جانبي هذه السكة بحجة الارتداد للحماية الأمنية. وعليه سيفقد الفلسطينيون مائة ألف دونم جديدة ستتحول للسيادة المباشرة للاستيطان اليهودي العنصري وتضاف لما فقده الفلسطينيون حتى اليوم والبالغ 2.2 مليون دونم.
ولكن الفلسطينيين لا يقدمون على أي خطوة نضالية ضده، ما جعل إسرائيليين كثيرين، خصوصا في وزارة المواصلات يعتقدون أن هناك موافقة خفية على المشروع. ونسأله عن ذلك: «ما يضيرك إذا بنت إسرائيل خطوط سكك الحديد هذه، ففي نهاية المطاف سيزول الاحتلال حتما مثل أي احتلال في التاريخ، وتبقى سكك الحديد لكم. لماذا لا تدعونهم يكملون المشروع؟».
فيجيب: «أولا يمكن لإسرائيل أن تنفذ المشروع، فهي لا تأخذ رأينا حتى عندما تنهب الأرض وتحدث تغييرات جوهرية في معالمها وتملأها بالمستوطنات الاستعمارية. وقد يكون هناك بعض المنطق فيما تقول، فنحن أيضا نعتقد أن الاحتلال سيزول وعلينا أن نحاول الاحتفاظ بكل ما يبنيه ويعمره على أرضنا. لكننا نتحدث هنا عن قضية حقوق وطنية مسلوبة. فبالنسبة إلينا نتعامل مع هذا المشروع كأي مشروع استيطاني. نرفضه مبدئيا ونقاومه. فإن لم نفعل، سيسجلون علينا أننا وافقنا بالصمت على نهب أرضنا وحقوقنا. وسيطالبوننا في المستقبل بدفع ثمنه مضاعفا. لذلك، إذا بنوا فعلا سكك حديد، فهذا ضد إرادتنا».
يضيف القاووق إن إسرائيل تزعم دائما بأنها تقيم المشاريع لصالح الشعبين. هكذا ادعت عندما شقت شبكة الطرقات الواسعة، ثم جعلتها حكرا على المستوطنين اليهود ومارست سياسة فصل عنصري مأخوذة من فلسفة الأبرتهايد، فيحظر على الفلسطينيين العبور من معظمها. وهكذا تدعي عند إقامة المصانع، ومع أن عمالنا يعملون في هذه المصانع (25 ألف عامل فلسطيني حسب إحصائيات وزارة العمل الإسرائيلية)، فإنهم يتقاضون رواتب منخفضة بالمقارنة مع الأجور في إسرائيل وبشروط عمل تنطوي على الكثير من التعسف. ولن يختلف الأمر عند إقامة شبكة سكك الحديد. فبعد أن تبتلع نحو 100 ألف دونم جديد من أراضينا، ستحيطها بالحواجز العسكرية بدعوى الأمن. ولن يكون لنا منها نصيب. بل ستتحول إلى عقبة أخرى في طريق التخلص من الاحتلال وإقامة السلام.

* المخاوف الإسرائيلية
في إسرائيل أيضا هناك من يعترض على هذا المشروع، وليس فقط بين قوى السلام. د. آدم رويتر، رئيس شرطة «رويتر ميدان» ومدير عام شركة الاستشارة الاقتصادية في تل أبيب، يشكك في جدوى هذه الشبكة ويقول إن الفائدة التي ستعود على إسرائيل منه هي ضئيلة جدا. ولذلك يستغرب ويتساءل: ما الحكمة من المشروع؟ ويقول، في دراسة أعدها ونشرها مؤخرا، إن «سكة الحديد من حيفا إلى إربد تستهدف توسيع نطاق التجارة. تكلفة بنائها لا تبدو مجدية، لأن الثمن باهظ والمردود قليل. فمن الجهة الإسرائيلية للمشروع، تعتبر منطقة المروج وحتى غور الأردن محدودة السكان من الناحية العددية. وقليلة السيارات نسبيا. وشوارعها معقولة. لا توجد فيها ازدحامات مرورية. ولا تحتاج إلى قطار أبدا، وخصوصا أن تكاليف المشروع تتجاوز 1.2 مليار دولار. وأما الاتجار مع الأردن فإنه ضعيف جدا. والدخل الفردي في إسرائيل سنويا يصل إلى ثمانية أضعاف الدخل الفردي في الأردن. والعاهل الأردني، الملك عبد الله لا يتحمس له، ويحبذ الاستيراد عن طريق ميناء العقبة (على البحر الأحمر)، باعتبار أنه ميناء أردني يشغل كوادره الأردنية المحلية.
ويشير د. رويتر إلى أن هناك طريقا تجاريا قائما حاليا في الاتجاهين بين إسرائيل والأردن من منطقة الشمال، حيث يتم تبادل البضائع التجارية من إنتاج البلدين ومن إنتاج بلدان أخرى. تركيا مثلا، بدأت تفعيل خط تجاري كهذا منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. فترسل بضائعها إلى ميناء حيفا، ومن هناك إلى الأردن ومختلف الدول العربية في الشرق. ومن المعروف أن إحدى الشركات الأساسية التي ترسل هذه البضائع عبر إسرائيل، شركة يملكها نجل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. تفرغ حمولتها في ميناء حيفا، ومن هناك تشحن بالطريق البري إلى الأردن. ويتساءل الكاتب: «لماذا يجب استبدال هذا الطريق بسكة حديد تكلف 1.2 مليار دولار؟». وهل دخول قطار إسرائيلي إلى الأردن يعتبر مناسبا للمنطق الأمني في ظل تدهور الأمن في العالم العربي؟



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟