المهندس الإسرائيلي ديفيد ريجف، يجلس أمام حاسوبه، ويحلم. لكن كرسيه يجعل حلمه «خطة رسمية» في الدولة العبرية، تؤثر على مصائر الفلسطينيين والإسرائيليين. فهو موظف كبير في وزارة المواصلات. وعلى رأس وزارة المواصلات يوجد وزير «طموح»، يتطلع لمنصب رئيس حكومة إسرائيل القادم. هو يسرائيل كاتس، أحد أقطاب اليمين الإسرائيلي، الذي يعمل حاليا تحت كنف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ولكن المقربين منه يؤكدون أنه بات متعجلا للحلول مكانه في قيادة حزب الليكود وبالتالي رئاسة الحكومة. وقد نجح خلال السنوات الست، التي يتولى فيها هذا المنصب، في إحراز تقدم كبير في شق شوارع جديدة وحديثة وتجديد المعابر الحدودية وخطوط السكة الحديد، أحدثت ثورة في تقريب الريف إلى المدن، وتقريب البلدات المنتشرة على الحدود إلى البلدات الواقعة في وسط البلاد وتقليص ساعات السفر فيما بينها. لذلك، فإن ديفيد ريجف يحلم على قد حلم رئيسه الوزير. فيضغط على أزرار حاسوبه ويُشغل برنامج الرسومات الهندسية ويرسم خطوطا تمتد كالشرايين من مدن إسرائيل باتجاه الشرق، لتملأ الضفة الغربية.
هذه الخطوط ستتحول في حلمه إلى شبكة خطوط سكة حديدية تمتد من إسرائيل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ومن هناك إلى الدول العربية. إنه يعيد فيها رسم خطوط سكة حديد الحجاز التاريخية، تلك التي بنيت في عهد الحكم العثماني، من تركيا وحتى المدينة المنورة ومكة. وعندما وصلت إلى دمشق، امتد منها خط سكة حديد إلى فلسطين. والوزير الإسرائيلي يريد أن يفعلها من جديد.
خط سكة حديد الحجاز بني في حينه (سنة 1908) ليخفف على حجاج بيت الله الحرام ويؤسس لطريق تجاري كبير ما بين مركز الخلافة العثمانية وبين الحجاز. لكن الحروب دمرته مرتين، الأولى في الحرب العالمية الأولى، حيث نسفها الثوار العرب ليقطعوا الإمدادات عن قوات الاستعمار. فتعطلت. والثانية بعد الحرب العالمية الثانية، وقد دمرتها القوات الصهيونية التي خشيت أن يستخدمها العرب في حربهم لمنع قيام الدولة العبرية ومنع النكبة الفلسطينية. وعندما قامت إسرائيل، أهملت هذا الخط، ولكنها لم تترك الحلم بأن تعيد بناءه في يوم من الأيام. وفي مؤتمر مدريد للسلام، سنة 1991، وخلال المحادثات الإسرائيلية العربية المتعددة الأطراف، طرحه شيمعون بيريس على الطاولة كجزء من «الشرق الأوسط الجديد»، الذي «ستكون فيه الحدود مفتوحة بين إسرائيل والعالم العربي أمام التجار والسياح». واليوم يعودون لطرحه في إسرائيل، بمبادرة ممن لا يؤمن بقيام دولة فلسطينية.
البعض يقولون، وليس فقط في الطرف الفلسطيني، إن الهدف هو تكريس الاحتلال الإسرائيلي. ففي تقرير للدكتور جليت باوم، إحدى النشيطات في حركة «ائتلاف النساء الإسرائيليات من أجل السلام»، تقول إنها لفكرة ساخرة أن يطرح الوزير كاتس بالذات مشروعا كهذا بهدف السلام». وتؤكد أن الفكرة نابعة من أطماع احتلالية تقليدية. وتتابع: «من يرد السلام يتنازل أولا عن الاحتلال ويفاوض ممثلي الشعب الآخر على مكنون السلام، ولا يفرض عليه شيئا، حتى لو كان ذا طابع تطويري وتعميري». ثم أكدت أن المشروع غير قانوني، بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي.
لكن هذا لا يمنع الوزير كاتس من التخطيط، والحديث عن «آفاق هذا التخطيط لخدمة الشعبين». لا بل إنه ينفذ بعض المقاطع من المشروع على الأرض.
* المخطط
حسب الخرائط الاستراتيجية للمشروع، فإن الحديث يجري عن شبكة خطوط السكة الحديد، تدخل خدمات القطار لأول مرة إلى الضفة الغربية. وهي موزعة على النحو التالي: مقطع طولي - وهو ينطلق بخطي سكة حديد اثنين، الأول يصل ما بين مدينة بيسان في الشمال وأريحا في الجنوب، على طول الطريق الغربي لنهر الأردن. والثاني ينطلق من مدينة العفولة (عشرة كيلومترات جنوب مدينة الناصرة) في مرج ابن عامر، ويمتد نحو جنين في شمال الضفة الغربية ثم نابلس ورام الله والخليل وحتى النقب وإيلات.
المقاطع العرضية - هنا يجري الحديث عن ستة خطوط سكة حديد رئيسية ولبعض منها توجد عدة فروع. الأول لا يتعلق بالفلسطينيين في الضفة الغربية، إنما يمتد من حيفا وحتى بيسان ومن هناك إلى الأردن ويصل إلى مدينة إربد، حيث كان يمر في الماضي خط سكة حديد الحجاز بالضبط. وقد تحدث الوزير كاتس عن هذا الخط، خلال كلمة ألقاها يوم 5 سبتمبر (أيلول) 2012، في حفل ترميم وتجديد معبر الملك حسين (اللنبي سابقا)، الذي يصل بين الضفة الغربية والأردن، ولكن إسرائيل تسيطر عليه منذ احتلال 1967، فقال إنه سيصل إسرائيل بالعالم العربي ويتحول إلى معبر تجاري بحري بري ما بين أوروبا ودول الشرق العربي، سوريا والأردن ومنهما إلى العراق ودول الخليج. والثاني يربط ما بين القدس وأريحا ومن ثم العاصمة الأردنية عمان، لنفس الهدف. والثالث ما بين مدينة نتانيا الإسرائيلية الساحلية وبين طولكرم في الضفة الغربية، ثم يتوجه إلى مدينة نابلس، بعد أن يمر على منطقة بركان الصناعية الاستيطانية ثم مدينة وجامعة أرئيل الاستيطانية. وخط سكة الحديد الرابع يصل بين نابلس ورأس العين. والخامس بين الخليل وقطاع غزة. والسادس بين تل أبيب والقدس.
وهو ليس مشروعا على الورق فحسب، إنما نجد أن الوزارة أنجزت أكثر من نصف العمل في مقطعين رئيسيين منه. المقطع الأول، خط سكة حديد من تل أبيب إلى القدس، وهو يمر عميقا في أراضي الضفة الغربية، ويثور حوله الجدل. فقد أدخلوه إلى الضفة الغربية كي يتجنبوا مروره بالقرب من المستوطنات «الوادعة»، التي ترفض تقريبه إليها حتى لا يزعج ضجيج القطارات المستوطنين فيها. ولكن تقريبه من البلدات الفلسطينية المحتلة يثير المخاوف الأمنية، من «اعتداءات فلسطينية إرهابية». ولكن وزير المواصلات يصر على إكماله ويقول إن على قوات الأمن أن تهتم بحماية القطار والمسافرين، مؤكدا أنه سيخدم كلا الشعبين.
وأما المقطع الثاني الذي بوشر بتنفيذه في الشمال، فيعني عمليا إعادة تفعيل خط سكة حديد الحجاز القديم، الممتد من دمشق وحتى حيفا. وحسب قرار الوزارة سيتوقف خط سكة الحديد حاليا عند نهر الأردن، على أمل أن تتغير الظروف ويتواصل في الجهة الأردنية والسورية من النهر لاحقا.
كلا هذين المقطعين سينجزان بالكامل في السنة القادمة (2016)، والعمل فيهما جارٍ على قدم وساق.
* المخاوف الفلسطينية
المسؤولون الفلسطينيون الرسميون يرفضون هذه المشاريع ويعتبرونها اعتداء على السيادة الفلسطينية كونها لا تتم بالتنسيق معهم ولا تأخذ بالاعتبار مصالحهم. وكما يقول المهندس محمد القاووق، فإن الحديث يجري عن مد 11 خط سكة حديدية إسرائيلية في الضفة الغربية، مجموع طولها ٤٧٥ كيلومترا (على سبيل المقارنة يبلغ مجموع طول سكك الحديد داخل إسرائيل نحو ١١٠٠ كيلومتر). وعمليا ستمتد هذه السكك من شمال الضفة الغربية حتى جنوبها على جبالها وأغوارها وترتبط بخطوط عرضية لتربط معظم التجمعات الاستيطانية اليهودية المقامة زورًا وعدوانًا على أراضي الضفة الغربية في المدن الاستيطانية الإسرائيلية الواقعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، لتبتلع 30 ألف دونم في مسار السكة والطريق المحاذية وحدود خط القطارات ومحطاتها ونقاط التفتيش، ثم ستكبل أيدي الفلسطينيين من استخدام نحو 70 ألف دونم أخرى على جانبي هذه السكة بحجة الارتداد للحماية الأمنية. وعليه سيفقد الفلسطينيون مائة ألف دونم جديدة ستتحول للسيادة المباشرة للاستيطان اليهودي العنصري وتضاف لما فقده الفلسطينيون حتى اليوم والبالغ 2.2 مليون دونم.
ولكن الفلسطينيين لا يقدمون على أي خطوة نضالية ضده، ما جعل إسرائيليين كثيرين، خصوصا في وزارة المواصلات يعتقدون أن هناك موافقة خفية على المشروع. ونسأله عن ذلك: «ما يضيرك إذا بنت إسرائيل خطوط سكك الحديد هذه، ففي نهاية المطاف سيزول الاحتلال حتما مثل أي احتلال في التاريخ، وتبقى سكك الحديد لكم. لماذا لا تدعونهم يكملون المشروع؟».
فيجيب: «أولا يمكن لإسرائيل أن تنفذ المشروع، فهي لا تأخذ رأينا حتى عندما تنهب الأرض وتحدث تغييرات جوهرية في معالمها وتملأها بالمستوطنات الاستعمارية. وقد يكون هناك بعض المنطق فيما تقول، فنحن أيضا نعتقد أن الاحتلال سيزول وعلينا أن نحاول الاحتفاظ بكل ما يبنيه ويعمره على أرضنا. لكننا نتحدث هنا عن قضية حقوق وطنية مسلوبة. فبالنسبة إلينا نتعامل مع هذا المشروع كأي مشروع استيطاني. نرفضه مبدئيا ونقاومه. فإن لم نفعل، سيسجلون علينا أننا وافقنا بالصمت على نهب أرضنا وحقوقنا. وسيطالبوننا في المستقبل بدفع ثمنه مضاعفا. لذلك، إذا بنوا فعلا سكك حديد، فهذا ضد إرادتنا».
يضيف القاووق إن إسرائيل تزعم دائما بأنها تقيم المشاريع لصالح الشعبين. هكذا ادعت عندما شقت شبكة الطرقات الواسعة، ثم جعلتها حكرا على المستوطنين اليهود ومارست سياسة فصل عنصري مأخوذة من فلسفة الأبرتهايد، فيحظر على الفلسطينيين العبور من معظمها. وهكذا تدعي عند إقامة المصانع، ومع أن عمالنا يعملون في هذه المصانع (25 ألف عامل فلسطيني حسب إحصائيات وزارة العمل الإسرائيلية)، فإنهم يتقاضون رواتب منخفضة بالمقارنة مع الأجور في إسرائيل وبشروط عمل تنطوي على الكثير من التعسف. ولن يختلف الأمر عند إقامة شبكة سكك الحديد. فبعد أن تبتلع نحو 100 ألف دونم جديد من أراضينا، ستحيطها بالحواجز العسكرية بدعوى الأمن. ولن يكون لنا منها نصيب. بل ستتحول إلى عقبة أخرى في طريق التخلص من الاحتلال وإقامة السلام.
* المخاوف الإسرائيلية
في إسرائيل أيضا هناك من يعترض على هذا المشروع، وليس فقط بين قوى السلام. د. آدم رويتر، رئيس شرطة «رويتر ميدان» ومدير عام شركة الاستشارة الاقتصادية في تل أبيب، يشكك في جدوى هذه الشبكة ويقول إن الفائدة التي ستعود على إسرائيل منه هي ضئيلة جدا. ولذلك يستغرب ويتساءل: ما الحكمة من المشروع؟ ويقول، في دراسة أعدها ونشرها مؤخرا، إن «سكة الحديد من حيفا إلى إربد تستهدف توسيع نطاق التجارة. تكلفة بنائها لا تبدو مجدية، لأن الثمن باهظ والمردود قليل. فمن الجهة الإسرائيلية للمشروع، تعتبر منطقة المروج وحتى غور الأردن محدودة السكان من الناحية العددية. وقليلة السيارات نسبيا. وشوارعها معقولة. لا توجد فيها ازدحامات مرورية. ولا تحتاج إلى قطار أبدا، وخصوصا أن تكاليف المشروع تتجاوز 1.2 مليار دولار. وأما الاتجار مع الأردن فإنه ضعيف جدا. والدخل الفردي في إسرائيل سنويا يصل إلى ثمانية أضعاف الدخل الفردي في الأردن. والعاهل الأردني، الملك عبد الله لا يتحمس له، ويحبذ الاستيراد عن طريق ميناء العقبة (على البحر الأحمر)، باعتبار أنه ميناء أردني يشغل كوادره الأردنية المحلية.
ويشير د. رويتر إلى أن هناك طريقا تجاريا قائما حاليا في الاتجاهين بين إسرائيل والأردن من منطقة الشمال، حيث يتم تبادل البضائع التجارية من إنتاج البلدين ومن إنتاج بلدان أخرى. تركيا مثلا، بدأت تفعيل خط تجاري كهذا منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. فترسل بضائعها إلى ميناء حيفا، ومن هناك إلى الأردن ومختلف الدول العربية في الشرق. ومن المعروف أن إحدى الشركات الأساسية التي ترسل هذه البضائع عبر إسرائيل، شركة يملكها نجل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. تفرغ حمولتها في ميناء حيفا، ومن هناك تشحن بالطريق البري إلى الأردن. ويتساءل الكاتب: «لماذا يجب استبدال هذا الطريق بسكة حديد تكلف 1.2 مليار دولار؟». وهل دخول قطار إسرائيلي إلى الأردن يعتبر مناسبا للمنطق الأمني في ظل تدهور الأمن في العالم العربي؟