«موج 98» هو اسم العمل السينمائي الذي أوصل إيلي داغر إلى العالمية. فقد استطاع هذا الشاب اللبناني الذي هو على حافة العقد الثالث من عمره، أن يحصد جائزة «السعفة الذهبية» لأفضل فيلم قصير في مهرجان كان السينمائي لهذا العام من بين 9 أفلام أخرى كانت مرشّحة لها. ويحكي الفيلم قصة علاقة كاتب ومخرج الفيلم مع مدينته بيروت، التي تتأرجح ما بين الحبّ والكراهية بطريقة سوريالية تخرج عن الواقع.
حرص إيلي داغر في هذا العمل على أن يوقّعه من ألفه إلى يائه، فرسم شخصياته وكتب نصّه وصوّره وأخرجه بحيث نقل أحاسيسه ومشاعره الحقيقية من مشاهد حياتية عاشها على الصعيد الشخصي. وقد ترجمها من خلال استخدامه الرسوم المتحركة (شخصيات كارتونية) عبّر من خلالها عن مخاوفه وهواجسه أيام المراهقة بطريقة مباشرة. وعمد المخرج إلى تمرير مشاهد تحتوي على إطلالات لشخصيات أخرى حقيقية سكنت ذاكرته وشكّلت الفاصل الإنساني الملموس بين بطل الفيلم والواقع الذي يعيش فيه. غرابة في التعبير أو حزّورة يصعب عليك تفكيك رموزها، هي الانطباع الذي يساورك إثر مشاهدتك للفيلم الذي يدور في سياق تقني فني جميل، مما يضفي على هذه التحفة من الفن السابع إذا أمكننا القول، دقّة في صناعة الأفلام قد تكون عنوانا لمرحلة سينمائية لبنانية جديدة.
فمن منطقة الزلقا في قلب بيروت، حيث تربّى وعاش إيلي داغر، ينطلق الفيلم، وبمشهد عام عن مدينة بيروت الساكنة بفعل الهموم التي تثقلها، يبدأ إيلي داغر في سرد قصّته المؤثّرة التي كشف فيها عن أسئلة وعلامات استفهام لطالما بحث عن أجوبة شافية لها. أما الشخصية الكارتونية التي تمثّل الشاب المراهق الضائع بطل القصّة فقد رسمها إيلي داغر بدقّة، فأظهرها في ملامحه القاسية حينا والحزينة حينا آخر لتبرز المعاناة التي كانت تسكن أعماقه. «أخذني وقت طويل لأحدد ملامح الشخصية»، يقول إيلي داغر.. «فقد كنت أريد أن أظهر الشبه ما بينه وبينه والديه بحيث أبرز فقدانه الحافز لممارسة حياته بطبيعية، إضافة إلى كونه حزينا وتعبا ولديه شعور كبير بالملل». ويبقى السؤال البديهي الذي نطرحه في هذا السياق ألا وهو إلى من أراد التوجّه بعمله هذا؟
«لم أفكّر في شريحة الناس التي أرغب في التوجّه إليها في فيلمي القصير هذا»، يقول إيلي داغر. ويضيف: «ما أردته هو الكشف عمّا تمثّل لي مدينتي بيروت، وعن العلاقة المتينة التي تربطني بها حتى بعد ابتعادي عنها بسبب دراستي في الخارج».
هادئ هو إيلي داغر وصاحب شخصية تعمل على أساس صلب ألا وهو الفكر. فكلامه قليل ومحاولاته في التعبير تتراءى أمامه كشريط مصوّر، ينبغي عليك أن تلتقط معانيها حتى قبل أن يتفوه بها. فهذا الشعور بأنك تمارس رياضة الجري برفقة عدة أشخاص يمثّلهم إيلي داغر وحده، يترك لديك انطباعا أكيدا بأنك في حضرة فنان لبناني فذّ فتح الآفاق في عالم السينما لمستقبل واعد وخارج عن المألوف.
«لم أستطع أن أنسى بيروت وأخبار بيروت مثل غيري من أصدقائي، الذين غرقوا في غربتهم إلى حدّ التخلّي عنها، أو الذين ارتموا في أحضانها دون أن يلتفتوا إلى وجهها»، يقول إيلي الذي التقيته في بيروت التي يعشقها. ويتابع: «رغم بعدي عنها فأنا ما زلت أتابع أخبارها وأحمل همّها وأحبّها».
ولكن عندما نحنّ إلى شيء ما ألا يكون ذلك بدافع الإيجابية التي يمثّلها لنا؟ فلماذا نقلت إلينا سلبيات مدينتا بشكل أكبر؟ سألته.. «إذن لقد رأيت الجانب السلبي فقط؟»، ردّ عليَّ إيلي، وشرح قائلا: «لقد نقلت ناحيتين متناقضتين عن بيروت لمستهما بفعل اكتشافي لها وأنا في السابعة عشرة من عمري، عندما انفتحت المناطق على بعضها بعد انتهاء الحرب، وحرصت على أن يردد بطل الفيلم أكثر من مرة عبارة (لا أريد أن أنتهي مثلهم)، أي كأهلي وغيرهم من الجيل السابق الذين أتعبتهم الحرب فما عاد هناك من حوافز حياتية تحرّكهم ليعيشوا بسلام واستقرار».
استخدم إيلي داغر رموزا عدة للتعبير فيها عن عبثية الحياة في بيروت، وعن التناقضات الكثيرة التي تغلّف سلوك سكانها. ومن بينها المجسّم الذهبي لفيل ضخم يسكن في جوفه سكان بيروت. فهذا الحيوان الضخم والبطيء الخطوات والذي يتمتع بسلام مع نفسه، كان خير مجسّم يبتكره بهندسة غرافيكية جميلة للتعبير عن أفكاره الشخصية.. «لم أرد استخدام العمارات والبنايات الإسمنتية التي تغزو بيروت ليسكن فيها أصدقاء البطل في فيلمي، فارتأيت اختيار مادة عضوية وجدتها في الفيل ولوّنته بالأصفر الذهبي ليكون بمثابة حجرة فيها الكثير من الخيال والسوريالية».
ومن الصور الحقيقية التي نقلتها كاميرته هي تلك التي أخذت من حرب لبنان على أرض الواقع. ومن بينها الأسلحة التي استخدمت فيها والتجمعات الحاشدة التي كانت تتسبب بها انفجارات السيارات، إضافة إلى أخرى إعلامية تمثّلت في إطلالة لمذيعتي الأخبار يولا سليمان ومي متى الشهيرتين في تلك الحقبة.. «هي رموز ما زالت عالقة في ذهني، وعندما أتذكر تلك الحقبة، أي التسعينات، تقفز صورها مباشرة أمام عيني».
إيلي داغر ابن «مراح الحباس» إحدى البلدات الجنوبية في لبنان، كان فخورا بإنجازه هذا حتى إنه لم يتوانَ عن القول إنه كان يتوقّع فوزه لأسباب عدة لم يرد الدخول في تفاصيلها.
«طبعا سعدت بفوزي هذا، ولكني لم أملك الوقت بعد لتحليله وتفنيده بيني وبين نفسي لانشغالاتي الكثيرة، كما أنني لا أريد أن أتأثّر بالانعكاسات الإيجابية لـ(السعفة الذهبية) عليّ، فأغرق بالـ«أنا» بدل أن أتطلّع إلى أهمية هذا الإنجاز».
استغرق تحضيره للفيلم نحو السنتين وعندما بدأ في كتابته على الورق حسب أنه لن يستغرق سوى ثماني دقائق، وعندما دقّت ساعة التنفيذ اكتشف أن الأمر تطلّب 14 دقيقة، فكانت كافية ووافية لسرد الفكرة وإنجازها.. «لم يكن يتحمّل سرد الفيلم أي إضافات أخرى، فلقد تضمن كل الأفكار التي تراودني، كما أنني قصدت ألا يحمل قفلة عادية، بل تركت للمشاهد أن يبحث بدوره عن أحاسيسه تجاه مدينة بيروت فيرد على أجوبته بنفسه».
وعندما سألت إيلي داغر عن الأشياء التي يحنّ إليها حقيقة في بيروت، ويقوم بها في كلّ مرة يزورها أجاب: «أحبّ أن أتناول الأطباق اللبنانية اللذيذة كما أقصد البحر، حيث أشعر بالمتعة».
وعن أكثر التعليقات التي علقت في ذهنه إثر فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي قال: «تعليقات كثيرة تلقيتها، ولكن أهمها هي ردة فعل الجمهور العالمي تجاه الفيلم، فلم أكن أتوقّع أن يتفهمّه ويتقبّله بهذه الطريقة، كما أنني تأثّرت بالأشخاص الذين قالوا لي إنهم بكوا عند رؤيتهم للفيلم، لا أدري إذا كان هذا الأمر إيجابيا أو العكس، ولكني حملت هذا الانطباع في أعماقي. ولن أنسى بالطبع ما ذكره عني رئيس لجنة تحكيم جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كان عبد الرحمن سيساكو، والذي وصف فيلمي بأنه بمثابة فيلم طويل وأنه لم يكن يجب أن يدخل فقط مسابقة أفضل فيلم قصير».
وعن مشاريعه المستقبلية قال: «على الأرجح سأحضّر لفيلم روائي طويل، سأنفذّه على طريقتي ومبدئيا في نفس الأسلوب واللغة الذين اتبعتهما في (موج 98)».
أما عن الرسالة التي يحبّ أن يتوجّه بها إلى الشباب اللبناني فأجاب: «يجب ألا يفقدوا الأمل.
إيلي داغر: ما تضمنه «موج 98» عشته في الواقع
بعد فوزه بـ«السعفة الذهبية» عن فيلمه في مهرجان كان السينمائي
إيلي داغر: ما تضمنه «موج 98» عشته في الواقع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة