وزير عدل لبنان.. برتبة «لواء»

أشرف ريفي يتمتع بشعبية بين فقراء طرابلس.. ودفاعه عن «قادة محاورها» أغضب خصومه

أشرف ريفي
أشرف ريفي
TT

وزير عدل لبنان.. برتبة «لواء»

أشرف ريفي
أشرف ريفي

آخر ما كان يتوقعه رئيس الحكومة اللبنانية السابق، نجيب ميقاتي، أن يسقط حكومته بنفسه، مقدما استقالته احتجاجا على رفض حزب الله تمديد ولاية المدير العام لـ«قوى الأمن الداخلي» السابق اللواء أشرف ريفي، أسوة بباقي القادة العسكريين، وأن يدخل الأخير بعدها بشروطه إلى حكومة خلفه الرئيس تمام سلام من بابها العريض، متوليا حقيبة العدل بعد وضع «فيتو» على تسلمه حقيبة «الداخلية».
خرج ميقاتي ووزراء طرابلس الأربعة من السراي الحكومي، ودخلها ريفي ديكا مزهوا، مسلحا بقاعدة شعبية في طرابلس لم تتردد في إطلاق الرصاص ابتهاجا عند توزيره، وبدعم من فريقه السياسي الذي لم يمانع اشتراطه الحصول على حقيبة العدل أو الاتصالات، وإلا الإطاحة بتأليف حكومة الرئيس تمام سلام في اللحظات الأخيرة.
ورغم أن اسمه تصدر قائمة «الوزراء الاستفزازيين»، وأثار غضب جمهور فريق «8 آذار» بوصفه وزميله نهاد المشنوق، الذي تسلم حقيبة «الداخلية» بدلا عنه، من صقور قوى «14 آذار»، مما أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات لم تستبعد إفراج ريفي في المرحلة المقبلة عن الموقوفين المتورطين في تفجيرات الضاحية الأخيرة - بدت لافتة مسارعة قياديي «8 آذار» إلى تبرير موافقتهم لجمهورهم، تزامنا مع زيارة تهنئة قام بها رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا إلى منزل ريفي قبل يومين، تخللها بحث جملة من الملفات، يتداخل فيها الشق الأمني بالسياسي.
وبذلك، لم يعد مستغربا أن يطمئن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في إطلالته مساء الأحد الماضي غداة تأليف الحكومة، مؤيديه بالقول: «عندما يعترف الشخص فلا أحد يستطيع إطلاق سراحه أيا كان وزير العدل»، في حين غرد رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون، مساء الاثنين الماضي، عبر موقع «تويتر»، ردا على أسئلة مناصريه، قائلا: «مسجونو الإرهاب بعهدة القضاء، وهو الذي يقرر إطلاقهم، ولا أحد آخر»، مؤكدا أن «الوزير ريفي سيسهر على إحالة الإرهابيين الموقوفين إلى القضاء».
وكان لحلفاء سوريا في لبنان موقفهم أيضا من ريفي، فأعلن المدير العام لـ«الأمن العام» السابق اللواء جميل السيد، أحد الضباط الأربعة الذين أوقفوا في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري، قطع علاقته التشاورية بفريق «8 آذار»، اعتراضا على قبوله بريفي وزيرا للعدل. وقال: «كان من الأفضل أن يكون ريفي وزيرا للداخلية وليس للعدل»، عادا أنه «مقابل تسمية ريفي وزيرا، كان من المفترض على الفريق الشيعي أن يسمي وفيق صفا وأحمد بعلبكي للتوزير».
تدرج حزب الله في مواقفه الحكومية من رفضه تشكيل أي حكومة يشارك فيها ريفي وصولا إلى قبوله بتوليه حقيبة «العدل»، التي يقع تحت نظرها إدارة ملفات قضائية كبرى، ليس أولها التجاوب مع طلبات المحكمة الدولية ولا آخرها محاكمة المتورطين في شبكات التفجيرات، بموازاة امتعاض قاعدة الحزب الشعبية تحديدا، لا يأتي ذلك كله من فراغ. فاللواء المتقاعد لم يوفر الحزب من انتقادات حادة، وصلت إلى حد مساواته بين «جبهة النصرة» وتنظيم داعش من جهة وحزب الله، من جهة ثانية.
وكان ريفي قد قال في حديث إذاعي، مطلع العام الحالي، إن حزب الله هو «الوجه الآخر لـ(داعش) و(جبهة النصرة)، انطلاقا من أنه عندما يعلن حزب الله أنه يقاتل في سوريا جهادا، عليه أن يتوقع الجهاد المضاد، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة. وللأسف حزب الله يحصد العاصفة، ونحن نحصد العاصفة معه». وشدد في الوقت ذاته على أن «لبنان لا يحميه إلا الاعتدال والتنوع والدولة».
مواقف ريفي التي كبلتها «البدلة» العسكرية خلال مسيرته الطويلة في «قوى الأمن الداخلي»، بدت أكثر وضوحا ومباشرة بعد تقاعده، لا سيما تلك المتعلقة بمدينة طرابلس، التي يتحدر منها، بعد تفجيري مسجد السلام والتقوى خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، وتكرار جولات الاقتتال الدموية بين منطقتي باب التبانة السنية وجبل محسن العلوية، في ضاحية المدينة الشمالية.
كان يكفي أن يقول ريفي في شهر مايو (أيار) الماضي، تزامنا مع جولة قتال شهدتها مدينته على وقع معارك القصير السورية: «لا نستطيع أن نرتدي تنانير وسندافع عن شرف طرابلس»، ومن ثم وصفه «قادة المحاور» في التبانة، الذين يتصدرون وسائل الإعلام عند كل جولة قتال (أكثر من 20 جولة اشتباكات بعد أحداث السابع من مايو 2008 في بيروت)، بأنهم «أهلنا وأنا أفاخر بهم، وأحد لن يجعلني أخجل من أهلي»، لتنطلق بعد تصريحاته شرارة انتقادات عاصفة، وصلت إلى حد وصفه من قبل خصومه بـ«قائد ميليشيا» حينا، و«أمير المحاور» حينا آخر. لكن مقربين من ريفي يبررون مواقفه هذه بقولهم إنه وأهالي مدينته كانوا يقفون أمام حالة اعتداء غير مبررة، من قبل مقاتلي جبل محسن، الذين يجاهرون بانتمائهم وولائهم لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، ولا ينفكون عن جعل المدينة «صندوق بريد» لتبادل الرسائل «العابرة للحدود». ويذهبون إلى حد القول إنه أمام تكرار الاعتداءات، وعجز الدولة عن سوق المرتكبين إلى العدالة، لا خيار آخر إلا دفاع أبناء المدينة عن أنفسهم، عادين ما فعله ريفي هو «تسمية الأشياء أسماءها لا أكثر ولا أقل، وهو ما لم يكن قادرا على قوله أثناء قيامه بمهام رجل المؤسسة والدولة».
وارتفعت نبرة المدافعين عن ريفي بعد تفجيرين استهدفا في الوقت نفسه مسجدي السلام والتقوى بطرابلس في شهر أغسطس الماضي، وأسفرا عن سقوط 50 قتيلا وجرح أكثر من 500 شخص، وادعاء القضاء اللبناني على النائب السابق العلوي علي عيد، زعيم جبل محسن، بتهمة تهريب متورطين في التفجيرين من لبنان إلى سوريا. وكان ريفي - ولا يزال - من أشد المطالبين بسوق عيد إلى العدالة، ومعاقبة عناصر حزبه المتورطين في التفجيرين.
ورغم التململ العابر من توزير ريفي ومن مواقفه المناهضة لحزب الله والداعمة لـ«قادة المحاور» في مدينة طرابلس، لكن كثيرين من عارفي ريفي، من أصدقائه وخصومه، يثنون على شخصيته، وأدائه وإنجازاته المهنية، خلال سنوات تدرجه الطويلة من رتبة ضابط إلى رتبة لواء، وصولا إلى تعيينه مديرا عاما لـ«قوى الأمن الداخلي»، نهاية شهر أبريل (نيسان) 2005، بعد شهر ونصف الشهر على اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وتوقيف سلفه اللواء علي الحاج مع ثلاثة ضباط آخرين قبل أن يفرج عنهم في وقت لاحق.
إن الوزير السابق وئام وهاب، على سبيل المثال، وهو من أبرز حلفاء سوريا في لبنان، اكتفى بعد تشكيل الحكومة اللبنانية بانتقاد خيار فريق «8 آذار» لوزرائه، محيدا ريفي بقوله: «اللواء ريفي صديقي وأنا أغفر لأصدقائي إذا ارتكبوا بعض الأخطاء»، علما بأن وهاب نفسه وفي موقف سابق له قبل إحالة ريفي إلى التقاعد وصفه بأنه «صديق صدوق»، متوقعا له «دورا كبيرا في المستقبل وقد يكون مرشحا لرئاسة الحكومة اللبنانية».
على صعيد «قوى الأمن الداخلي»، تمكن ريفي منذ عام 2005، تاريخ وصوله إلى إدارة هذا الجهاز الأمني التابع لوزارة الداخلية اللبنانية، من بناء جهاز متماسك، بعد أن نجح النظام السوري، خلال سنوات وصايته على لبنان، من خلق تركيبة موالية له في صفوفه.
ويقول مواكبون لعمل ريفي داخل مديرية قوى الأمن الداخلي، إنه رغم كونه محسوبا على «تيار المستقبل» الذي يتزعمه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، لكنه نجح في «عصرنة» أداء «الأمن الداخلي» وجعله مؤسسة خاضعة للدولة اللبنانية بشكل أساسي. وتسهب المصادر ذاتها في تعداد نجاحات ريفي المهنية من خلال «تفعيل عمل فرع المعلومات وتطويره»، بعد أن ساهم في عودة وسام الحسن عن استقالته ومن ثم ترؤسه هذا الفرع، الذي كان له دور فاعل في كشف أكثر من 27 شبكة تجسس لصالح إسرائيل، ثلاث منها داخل صفوف حزب الله.
كما أن لريفي بالتنسيق مع اللواء الحسن، الذي اغتيل نهاية عام 2012، الفضل في امتلاك «قوى الأمن الداخلي» و«فرع المعلومات» معدات وتقنيات وأجهزة حديثة لا تحوز باقي الأجهزة الأمنية في لبنان مثيلا لها. وساهما في إرسال عشرات الضباط إلى الخارج للمشاركة في دورات تدريبية حول تقنيات التحقيق وتتبع الاتصالات ومعاينة مسرح الجريمة وكشف الجرائم العابرة للحدود.
ومن أبرز ما يمكن وضعه في إطار «إنجازات الرجلين»، كشف مخطط «سماحة - المملوك»، في إشارة إلى الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، ورئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي المملوك، ومدير مكتبه المعروف بـ«العقيد عدنان»، الذين طلب لهم المدعي العام العسكري رياض أبو غيدا تطبيق عقوبة الإعدام خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، «بتهمة التحضير لتفجيرات تستهدف معارضين سوريين وسياسيين لبنانيين مؤيدين للمعارضة السورية». ويعد فريق «14 آذار» كشف هذا المخطط عجل باغتيال الحسن، باعتبار أنه لامس «المحظور».
ورغم أن عمر الحكومة المفترض لا يتعدى الثلاثة أشهر، لكن ملفات عدة تنتظر في أدراج وزارة العدل، أبرزها وفق مصادر في «العدلية»، مسألة التعاون مع المحكمة الدولية والتجاوب السريع مع الطلبات التي ترسلها إلى وزارة العدل والنيابة العامة التمييزية، مع انطلاق المحاكمات، علما بأن ريفي وفريق عمل المديرية ساهما في تهيئة ظروف عمل لجنة التحقيق الدولية ومواكبة تأسيس المحكمة الدولية. وتبين أن تحليل بيانات الاتصالات الذي أجراه الرائد في «قوى الأمن الداخلي» وسام عيد، قبل اغتياله في شهر يناير (كانون الثاني) 2008، شكل أساس عمل المحكمة الدولية التي بدأت الشهر الماضي جلسات المحاكمة في قضية اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005.
ومن الملفات التي تنتظر ريفي في وزارة العدل، إحالة قضايا الاغتيالات والتفجيرات الأخيرة إلى المجلس العدلي وفق ما سبق وطلب الرئيس اللبناني ميشال سليمان، من دون أن تصدر مراسيم إحالتها بعد، إضافة إلى توفير الغطاء السياسي للقضاء من أجل البت في ملفات حساسة، في مقدمها تفجيرا طرابلس، وإن كانت مصادر «العدلية» تؤكد أن ريفي ليس بوارد «الصدام» مع أي فريق، وليس بوارد «تغطية المجرمين أيا كان انتماؤهم».
وكان ريفي وفي أول تصريحاته بعد تعيينه وزيرا، قال إنه سيتعاون مع وزير الداخلية نهاد المشنوق باعتبار أن «العدل والأمن يتكاملان»، موضحا أن «التعاون مع حزب الله في وزارة العدل سيكون كأي مكون لبناني». وقال: «كما كنت في (قوى الأمن الداخلي)، فأنا لا أميز بين لبناني وآخر في الملفات الوطنية، إنما بالسياسة، وحكما، لدي رأيي الخاص، فأنا من دعاة العودة إلى الدولة والدولة فقط في وجه الدويلة».
وإلى جانب اتهام مصادر مقربة من ميقاتي لريفي بـ«قلة الوفاء»، لكن كثيرين من أهالي طرابلس ينوهون بوفاء ريفي الذي «لا ينسى أهله وأصدقاءه، ولم تغير المناصب من مبدأيته وأخلاقه»، على حد تعبير أحدهم. وتقول سيدة طرابلسية إن ريفي «يتمتع بشعبية لدى أهل المدينة، لا سيما الفقراء منهم، نظرا لخدمات كثيرة قدمها لأبنائهم خلال سنوات تدرجه في السلك الوظيفي». ويشير طرابلسي ثالث إلى أن ريفي لا يتردد في مساعدة كل من يقصده، وآخرهم عائلة سورية لم تجد مأوى لها، فتطوع إلى دفع إيجار منزل تقطنه في طرابلس.

* أشرف ريفي في سطور
* ولد في منطقة الحديد بطرابلس (شمال لبنان) عام 1954. متزوج بالمحامية سليمة أديب، وله أربعة أولاد: أحمد، وكريم، وأمل وهناء.
* حائز شهادتي ماجستير في علم اجتماع الجريمة، وإجازة في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية.
* دخل المدرسة الحربية عام 1973 وتخرج فيها برتبة ملازم عام 1976، متدرجا في الرتب إلى أن بلغ رتبة لواء، وعين مديرا عاما لـ«قوى الأمن الداخلي» بتاريخ 30 أبريل (نيسان) 2005.
* تولى مهمات وظيفية عدة، أبرزها رئيس مكتب العلاقات العامة (1981 - 1988)، قائد سرية حرس رئاسة الحكومة (1988 - 1990)، تولى رئاسة فرع المعلومات (1995 - 1999)، وقيادة مدرسة الرتباء في معهد قوى الأمن الداخلي (1999 - 2001)، وتسلم رئاسة شعبة أمن الدولة الداخلي (1990 - 1993)، ومنصب مدير أمن الدولة الإقليمي في محافظة الشمال (1993 - 1995).
* تابع دورات تدريب وتأهيل في بلدان عدة، وشارك في مؤتمرات وندوات حول مواضيع كثيرة، أبرزها التحقيق في الجرائم المالية والتزوير، وتكنولوجيا المعلومات، ومكافحة الإرهاب الدولي، والإعلام الأمني، وجرائم تبييض الأموال وطرق مكافحتها.
* حائز أوسمة «الاستحقاق اللبناني بدرجاته الأولى والثانية والثالثة، وسام الحرب، وسامي فجر الجنوب والوحدة الوطنية، وسام الأرز الوطني من رتبة فارس، وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط، وسام الأرز الوطني من رتبة كوموندور، وسام جوقة الشرف الفرنسية، وسام التقدير العسكري – الدرجة الفضية، وسام الاستحقاق من وزارة الداخلية في جمهورية إستونيا».
* حائز أكثر من خمسين تنويها صادرا عن وزير الداخلية والبلديات، وزير الدفاع الوطني، قائد الجيش، المدير العام لـ«قوى الأمن الداخلي» والمدير العام لأمن الدولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.