«هناك أيادٍ تعمل لتحيد بشعرائنا الشباب بعيدا عن مهمتهم الثورية البطولية، وتضعهم في خدمة ثقافة فاسدة»، هكذا كشف آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، الاثنين الماضي عن أحدث مخاوفه. وفقا للمرشد الأعلى، يريد «متآمرون» مجهولون أن يكتب الشعراء الإيرانيون عن «الرغبات الجنسية، والجمال الجسدي والمكاسب الشخصية وحتى مدح القسوة».
كان خامنئي يخاطب مجموعة من الشعراء في واحدة من الفعاليات التي ينظمها كل عام ويكون الحضور فيها للمدعوين فقط. حدد خامنئي، وهو نفسه شاعر رغم أنه يخجل حتى الآن من إظهار أعماله خارج نطاق دوائر صغيرة، خريطة طريق لما وصفه بـ«خطة شاملة لمزيد من تطوير الشعر في الجمهورية الإسلامية».
وطالب الحكومة بتوفير الموارد اللازمة لتشجيع الشعراء على البعد عن «الموضوعات التافهة، مثل الجمال الجسدي والحب. وينبغي للشاعر الإسلامي المعاصر»، بحسب اعتقاده، أن يستخدم الشعر كـ«سلاح في حرب الحق ضد الباطل».
لا يزال بعض الشعراء يكتبون عن شعر وأعين وجسد المحبوب ويصورون مشاهد الفرح عندما يلتقي العاشقون ليشربوا ويرقصوا ويشعروا بالمرح، ولكن هذا ليس هو نوع الشعر الذي تريده الحركة الإسلامية، التي تربت على فكرة الجهاد والشهادة.
قال آية الله: «الشعر الذي نريده لا بد أن يكون في خدمة أهداف الثورة.. اليوم، وحدهم الشعراء الذين يهدفون لقيادة الأمة إلى ساحة المعركة ضد الطغيان، هم من يعتبرون من ذوي القيمة». وأضاف آية الله: «في هذا السياق، تقتضي الحاجة بوجه خاص قصائد عن اليمن والبحرين ولبنان وغزة وفلسطين وسوريا».
ويلفت آية الله إلى أنه، من بواعث الأسف، أن شعراء إيرانيين قلائل هم من يكتبون عن هذه «الموضوعات الحيوية». ولكن الأسوأ رغم هذا، أن بعض الشعراء قد تم استدراجهم إلى الوقوف في صف «جبهة الباطل» وهم في هذه الحالة مذنبون بـ«جريمة وخيانة» وليس لهم مكان في الجمهورية الإسلامية.
في الواقع، خامنئي ليس أول حاكم لإيران يكون الشعراء في مشكلة معه، فعلى مدار 12 قرنا كان الشعر أداة التعبير الأساسية بالنسبة إلى الشعب الإيراني. وقد تكون إيران البلد الوحيد الذي ليس به بيت واحد إلا وفيه ديوان شعر واحد على الأقل.
في البداية، مر الشعراء الفارسيون بفترة عصيبة لتعريف مكانهم في المجتمع. كانت تساور الحكام الذين تحولوا حديثا إلى اعتناق الإسلام شكوك بأن الشعراء يحاولون إحياء الديانة الزرادشتية لتقويض الدين الجديد. ورأى رجال الدين في الشعراء أناسا يرغبون في الحفاظ على اللغة الفارسية كلغة حية ومن ثم تخريب اللغة العربية كلغة مشتركة جديدة. ومن دون الشعراء الفارسيين الأوائل، ربما كان قد انتهى الأمر بالإيرانيين مثل كثير للغاية من الأمم الأخرى في الشرق الأوسط التي فقدت لغاتها الأصلية وأصبحت ناطقة بالعربية.
وقد طور الشعراء الفارسيون مبكرا استراتيجية لكبح جماح تشدد الحكام والملالي، حيث بدأوا كل قصيدة بمديح الله والرسول ثم يعقبون ذلك بمديح للحكام المعاصرين. وبمجرد الانتهاء من «تلك الالتزامات» ينتقلون إلى الموضوعات الحقيقية للقصائد التي يرغبون بنظمها.
كان الجميع يعرف أنها خدعة، ولكن الجميع كانوا يقبلون النتيجة لأنها جيدة.
وعلى رغم هذه التسوية فقد انتهى الحال ببعض الشعراء إلى السجن أو المنفى، بينما قضى آخرون كُثر حياتهم في مشقة، إن لم يكن في عوز. ومع هذا، فلم يكن السيف يسلط على رقاب الشعراء أبدا. ونظام الخميني هو أول نظام في تاريخ إيران يقوم بإعدام كل هذا العدد من الشعراء.
وسواء بالتلميح أو التصريح، كان بعض الحكام يبينون بوضوح الخطوط الحمراء أمام الشعراء، لكنهم لم يحلموا أبدا بأن يملوا على الشاعر ماذا عليه أن يكتب، وخامنئي هو أول من يحاول أن يملي على الشعراء ما يقولون، ويتهمهم بـ«الجريمة» و«الخيانة» إذا ما أداروا ظهورهم لتعليماته.
إن فكرة استغلال الشعر كسلاح لخدمة آيديولوجية معينة ليست بجديدة، ففي الاتحاد السوفياتي الغابر كان يتم تقديم هذه الفكرة تحت شعار «الواقعية الاشتراكية» في خدمة ثورة البروليتاريا العالمية. وكان اثنان من مستشاري ستالين الأدبيين، وهما أندريه زادانوف وأليكساندر فاديف يروجان للنظرية القائلة بأنه قبل الشيوعية لم يكن الأدب الإنساني سوى «ضباب من الخرافات والأكاذيب» يخدم الإقطاع، وفي وقت لاحق، النظام الرأسمالي البرجوازي.
وكتب فادييف يقول إن «الإكليشيه أو المقولة الشائعة عن الفن من أجل الفن ما هي إلا خدعة برجوازية لحرمان الكادحين من استخدام الأدب كسلاح في الصراع الطبقي».
وقد وقع كثيرون، من بينهم بعض الشعراء الحقيقيون من أمثال فلاديمير ماياكوفسكي، لفترة من الزمن في غواية الواقعية الاشتراكية.
ولكنه سرعان ما أدرك ماياكوفسكي أن «التكليف» جاء من المندوبين السوفيات وليس الشعب، ما دفع به للانتحار.
لم تنتج واقعية ستالين الاشتراكية أي أعمال أدبية باقي، فحتى ماياكوفسكي بات طي النسيان الآن. وبدلا من هذا، فإن شعراء «البرجوازية» و«الثورة المضادة» مثل مانديلستام وأخماتوفا وباستيرناك وتسيفيايفا، وصديقي الراحل جوزيف برودسكي يظلون نجوما مضيئة في سماء الشعر الروسي.
وبعد أربعة عقود خلت على قيام الملالي بتكوين الجمهورية الخمينية، فإن ثورتهم لم تنجب شاعرا واحد يستحق لقب الشاعر.
ولم ينتج الخميني وخامنئي، وكلاهما من الشعراء الهواة، أي شيء إلا أعمال محاكاة محرجة بوضوح لشعر الغزل الكلاسيكي من دون أن تحمل شيئا من بهاء هذا الشعر.
في المنفى يعيش كل من تبقى من الشعراء الكبار من عهد ما قبل الثورة ومن بينهم هوشانغ ابتهاج ومانوشهر يكتاي، ويد الله رويعي وإسماعيل خوي ومحمد جلالي وهادي خورسندي.
أما في داخل إيران، فقد أعدم النظام بعض الشعراء الشباب الواعدين من أمثال سعيد سلطان بور وحيدر مهريغان، ومؤخرا جدا، هشام شعباني، ولكن هؤلاء حازوا على شعبية بعد مماتهم أكثر من أي شاعر مرحب به من جانب النظام.
وفي نفس الوقت، فإن جميع الشعراء الإيرانيين، من القرن التاسع إلى يومنا هذا، إما خاضعون للرقابة، أو في حالات نادرة، محظورون بشكل كامل من قبل الملالي. ومعظم شعراء المائة سنة الأخيرة مدرجون على قوائم سوداء كثيرة من إعداد الوزارة المسماة على نحو متناقض بوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
ومع هذا، يطالب خامنئي الحكومة بتجهيز خطة، وتخصيص الموارد، وزيادة إنتاج الشعر، كما لو كانوا أجهزة الطرد المركزي التي تنتج اليورانيوم المخصب.
من جهته، تساءل فيريدون موشيريني، وهو واحد من أشهر شعراء إيران ما بعد الثورة: «كيف لأي إنسان أن يقول لي أي القصائد أكتب، بينما أنا نفسي لا أعرف ما أكتب حتى انتهي من كتابته؟». ومضى يقول: «الشاعر لا يعمل بمقتضى خطة. إن ملاكا غير مرئي يسيطر عليه، يوجهه إلى المكتب ويدفعه للكتابة».
ومهما يكن أمر من تعمل لصالحه، فإن «مصدر الوحي غير المرئي» هو بالتأكيد ليس عضوا بالمخابرات الإسلامية.
إن الشعر يفسر فوضى الحياة الإنسانية ويحاول أن يسبغ معنى عليها. ومن دون الخيال لا يمكن أن يوجد أي شعر؛ والخيال المغلول بالآيديولوجيا لا ينتج إلا بروباغندا.
وهذا أحد الأمثلة:
نصرخ: الله، القرآن، الخميني
في طريقنا إلى الشهادة والجنة
نعرف أنه عندما يحين الوقت
لا بد أن ينهض إمامنا الغائب
كان خامنئي من المعجبين الغيورين بمهدي إخوان، أحد أعظم شعراء الفارسية في النصف الثاني من القرن الماضي. لم يكن إخوان يرغب في الرحيل إلى المنفى ومن ثم تم إجباره على التوصل لتفاهم من نوع ما مع الملالي. بالطبع، لم يكن بمقدوره أن ينظم قصائد في مديح النظام الذي مثل بالنسبة له كل ما كان يمقته، وهو التقدمي والفنان العلماني. إنما الشيء الذي كان مستعدا للقيام به، فهو أن يلتقي بخامنئي بين الفينة والأخرى ليستمع إلى أحدث قصائد هذا الأخير.
وأسر في وقت لاحق بهذا الاعتراف: «كان نوعا من التعذيب الناعم». ومع هذا كان دائما ما يرسم خطا أحمر عندما كان خامنئي يحاول أن يملي عليه نوع القصائد الذي يجب أن ينظمه.
وقال إخوان لمجموعة من الأصدقاء خلال زيارة قصيرة إلى باريس: «ربما اضطررت إلى قراءة القصائد التي يكتبها.. ولكن لم يكن ممكنا إرغامي على نظم القصائد من النوع الذي يحب أن يقرأه».
لقد حاول كثير من الشعراء الفاشلين الذين وصلوا إلى السلطة السياسية من قبل خامنئي، أن يملوا على الشعراء ما يكتبون، ومن هؤلاء قاجار نصر الدين شاه والمستبد الصيني ماو تسي تونغ. وقد فشل هؤلاء لأن للشعر عبقرية سحرية تتحدى محاولات تعريفها ناهيك بالتسلط عليها. وكما كتب ريلكه إلى شاعره الشاب التخيلي، فالشعر مثل الحب، يعرف كل واحد ما هو، ولكن أحدا لا يتفق على تعريف له.
وخامنئي، البالغ من العمر 77 عاما، لم يعد يصلح لصورة شاعر ريلكه الشاب. بل قد يهديه شخص ما في عيد ميلاده القادم نسخة من مقال ريلكه الساحر. (هناك ترجمتان ممتازتان له بالفارسية).
ولتأخذ فكرة عن نوع الشعر الذي يعجب خامنئي، هنا ترجمة لقصيدة غزل كتبها محمد رضا نيكوي، وتم إنشادها بحضور «المرشد الأعلى». وهي مكتوبة بالقالب الكلاسيكي لمدح الحكام الطغاة:
في مدحك
عنك تتحاكى الحانات
عند قرع الكؤوس
أنت حقيقتنا الموعدة
في الأساطير والحكايات المنسوجة معا
كل بيت يستحيل مئذنة تدعو إلى الله هو أعظم البيوت
بهذا تتراص بيوتنا معا
وأنت الشمعة التي تحترق بيننا
أي مشهد هذا الذي تجتمع فيه الفراشات
إننا معا كخرزات مسبحة
نصنع سلسلة من الوحدة معا
الحب معجزتك العظيمة
التي جاءت بنا جميعا من بين الأطلال
خامنئي يملي على الشعراء ما يجب أن يقولوا وإلا فهم خونة
وضع ما سماه «خطة شاملة لتطوير الشعر في الجمهورية الإسلامية»
خامنئي يملي على الشعراء ما يجب أن يقولوا وإلا فهم خونة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة