لم يتوقع أحد في بداية ظهوره قبل خمسة أشهر كرئيس لوزراء اليونان أن يستحوذ الشاب ألكسيس تسيبراس، على اهتمام وسائل الإعلام المحلية والدولية، ويخطف الأضواء بوطنيته الإغريقية المميزة، وسعيه للنهوض ببلاده وعدم قبوله أي شيء يثقل كاهل المواطنين اليونانيين وخصوصا بعد معاناتهم نحو ست سنوات في ظل تدابير تقشفية قاسية وصارمة، أرجعها إلى تواطؤ الحكومات السابقة في عدم الوقوف في وجه الدائنين.
قرار تسيبراس مساء الجمعة قبل الماضي بإجراء استفتاء في اليونان حول خطة إنقاذ الدائنين، جاء بمثابة الزلزال الذي هز أوروبا وربما الرأسماليين في كل دول العالم، حيث أرغم الشركاء في أوروبا والمؤسسات الدولية على أن تصنفه بالرجل الخطير، بعد أن كانت قد وجهت بعض المؤسسات الدولية انتقادات لأثينا وخصوصا كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي التي قالت إنها تشعر أنها تتفاوض مع غير راشدين! بالإشارة إلى التفاوض مع المسؤولين اليونانيين.
وحبس زعماء أوروبا أنفاسهم حتى انتظار نتيجة الاستفتاء الذي نظمه تسيبراس للشعب اليوناني حول سؤال: هل تقبلون أم لا خطة الإنقاذ الجديدة التي تستلزم إجراءات تقشفية صارمة؟ وعلى الرغم من أن الغموض كان يلف نتيجة الاستفتاء حتى اللحظات الأخيرة، بسبب التصريحات المخيفة والمحذرة من قبل المعارضة وقيادات الاتحاد الأوروبي من التصويت بـ(لا)، إلا أن النتيجة فاجأت الجميع وأظهرت أن الشعب اليونان يأبى الإذلال والخضوع للابتزاز، كما تقول وسائل الإعلام المحلية، وصوت بـ«لا».
يقول عدد من المواطنين والمراقبين اليونانيين لـ«الشرق الأوسط» إن بلادهم تتقدم للأمام فقط بكلمة أوشي أي لا.. وهذا يشهد له التاريخ، حيث تحتفل اليونان سنويا بعيد أوشي أي عيد (لا) الذي يعود إلى ذكرى في الثامن والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1940، 40 عندما توجه القنصل الإيطالي لدى أثينا حينذاك إلى رئيس الوزراء اليوناني يوأنيس ميتاكساس مقدما له طلب رئيس بلاده بنيتو موسوليني بتسليم اليونان للقوات الإيطالية وتجنب الحرب والقتال. فرفض رئيس الوزراء اليوناني الطلب وقال «أوشي» ومعناها «لا»، أي لا للاستسلام ولا للاستعمار، ومنذ ذلك الحين أطلقت هذه الكلمة على هذا اليوم، وصار عيدا وطنيا يحتفل به شعب اليونان سنويا. وجاء الاستفتاء الذي دعا إليه تسيبراس ليقول الشعب اليوناني مرة أخرى «لا».. غير مكترث بعواقب هذه الكلمة، والتي يقولوها بكل «فخر واعتزاز» في وجه أي معتد عليهم. حيث يرى الشعب اليوناني أن الدائنين هم معتدون على سيادة وكرامة الشعب.
إذن التصويت بـ«لا» هو الفائز في الاستفتاء، ومعناها رفض اتفاق الدائنين والذي يعتمد على إجراءات تقشفية قاسية على الشعب اليوناني. وبعد فرز جميع الأصوات جاءت النتيجة أن الذين صوتوا بـ«لا» 61.3 في المائة مقابل 38.7 في المائة صوتوا بنعم، وكانت نسبة المشاركة 62.5 في المائة. وفي أول تحرك داخلي بعد الاستفتاء، جاء اجتماع استمر أكثر من 6 ساعات بناء على طلب من رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس، مع رئيس الجمهورية بروكوبيوس بافلوبولوس ورؤساء الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان اليوناني، وقام تسيبراس بسرد المبادرات التي تعتزم الحكومة تقديمها للدائنين. وبعد نقاش طويل تم التوصل إلى توقيع اتفاق بمثابة تشكيل جبهة وطنية تعطي تسيبراس قوة للتفاوض مع المقرضين.
تضمنت الوثيقة التي تم التوقيع عليها أن الهدف هو السعي إلى حل يضمن، تغطية الاحتياجات المالية للبلاد، وتنفيذ الإصلاحات الموثوق فيها، على أساس التوزيع العادل للأعباء وتعزيز التنمية، ومعالجة الآثار الانكماشية المحتملة والالتزام لبدء مناقشة موضوعية بشأن التعامل مع مشكلة إعادة هيكلة الديون.
وهكذا أصبح ألكسيس تسبيراس رئيس الوزراء اليوناني، أصبح مجددا حديث الساعة، على الساحتين الدولية والمحلية، وإن كان تسيبراس حديث وسائل الإعلام المحلية في اليونان منذ صغره وخلال دراسته الجامعية، حيث يتمتع منذ صغره بروح سياسية وثورية، فكان عضوا في الحزب الشيوعي للشباب قبل أن يتجاوز السابعة عشرة من عمره، كما قاد اعتصامات الطلاب التي كانت في بداية التسعينات، والتي كان الهدف منها الاعتراض على نظام التعليم والمطالبة بإدخال إصلاحات، وحينما طالب وزير التعليم آنذاك وفدا منهم من أجل التفاوض حول مطالبهم من أجل تطوير النظام التعليمي، كان تسيبراس على رأس الوفد وتفاوض بشكل مذهل وكأنه رجل محنك سياسيا، وشهد تسبيراس أول نجاح سياسي له عندما استجاب الوزير وقتها لعدد من مطالبه.
وشارك تسيبراس في عدد من التنظيمات السياسية الطلابية في اليونان ذات الأفكار اليسارية، كما كان نائب رئيس اتحاد الطلبة بالجامعة، وبعد تخرجه عام 2000 ابتعد عن العمل السياسي لعدة سنوات من أجل الحصول على عدد من الشهادات العليا في مجال البناء والتخطيط العمراني، وشارك في بناء الكثير من الشركات والمؤسسات والمباني بأثينا.
وفي عام 2006 لم يستطع تسبيراس الابتعاد عن السياسة أكثر من ذلك حيث رشح نفسه للانتخابات البلدية بأثينا من خلال عضويته بحزب ائتلاف اليسار الراديكالي سيريزا، وحقق فوزا ساحقا، وقد كان من المتوقع أن يرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية لعام 2007 إلا أنه فضل إثبات نجاحه وقدرته على القيادة من خلال الحزب وعضويته بالمجلس المحلي. وبعد نحو خمس سنوات من عنفوان ألكسيس تسيبراس في صفوف المعارضة اليونانية، وبعد مغازلاته المتنوعة للناخبين، الذين عانوا طويلا من تدابير التقشف المفروضة على البلاد بضغوط من الدائنين، واستمرار خفض المرتبات والمعاشات وتسريح الموظفين والعمال وزيادة الضرائب.. كل هذا ساعده في يناير (كانون الثاني) الماضي على أن يحقق فوزا تاريخيا على غريمه إندونيس ساماراس الذي قاد حكومة ائتلافية عمرها عامان ونصف فقط. وقطع ألكسيس تسيبراس، رئيس حزب سيريزا المناهض للتقشف الفائز في الانتخابات التشريعية اليونانية، شوطا كبيرا منذ أيام شبابه الشيوعية، لكنه لا يزال يزدري ربطات العنق ويكن حنينا لتشي غيفارا، وبالإجابة على سؤال لأحد الصحافيين المقربين له بارتداء رابطة عنق بعد فوزه، قال تسيبراس: بشرط واحد فقط.. إلغاء ديون اليونان».
وأصبح تسيبراس البالغ من العمر 40 عاما أصغر رئيس وزراء لليونان منذ 150 عاما، ويشكل أمل اليسار الأوروبي المناهض لليبرالية، ولم يكن هناك أي شك لدى تسيبراس في النصر سواء في الانتخابات العامة في يناير الماضي أو في الاستفتاء الذي دعا إليه وطلب الشعب بالتصويت بـ«لا»، ورغم أنه غير منحدر من عائلة سياسية على عكس شخصيات يونانية كثيرة، فقد استهواه النشاط السياسي في مرحلة مبكرة. وقد اكتشفته اليونان ممثلا لحركة تلاميذ في برنامج تلفزيوني عام 1990، مؤكدا بحزم رغم أعوامه الـ17 «نريد الحق في اختيار متى ندخل الحصة»، وأطلق الرجل الذي يحتفظ بملامح شابة، اسم اروفيوس على أحد أبنائه تعبيرا عن إعجابه بتشي غيفارا، وهو أب لولدين، كما أنه يقيم مع شريكته بالمساكنة، في بلد محافظ من حيث التقاليد الاجتماعية.
ولد ألكسيس تسيبراس في أثينا يوم 28 يوليو (تموز) 1974 وتخرج في المدرسة الثانوية في امبيلوكوبي بالقرب من وسط أثينا، وشارك في الاحتجاجات الطلابية عام 1990 و1991 وانضم لليسار وحصل على الدراسات العليا في التخطيط المدني والإقليمي (هندسة معمارية) وتولى تسيبراس رئاسة الحزب في فبراير (شباط) عام 2008 حيث حصل على نسبة 70 في المائة من الأصوات مقابل منافسة فوتيس كوفيليس (زعيم حزب اليسار الديمقراطي) حاليا.
وتأسس حزب تحالف اليسار الراديكالي (سيريزا) (SYRIZA) الذي يترأسه ألكسيس تسيبراس عام 2004، وللحزب حاليا 149 مقعدا في البرلمان اليوناني من إجمالي 300، ويسيطر على نصف أقاليم اليونان تقريبا ويتكون الحزب من مجموعة من التحالفات والمنظمات ذوي الاتجاه اليساري.
ويحاول الحزب معالجة عدد من القضايا التي شغلت المجتمع اليوناني مثل الديون السيادية - والأزمة التي تسببت في تجويع وفقر اليونانيين - والقضية القبرصية - والناتو – واسم يوغسلافيا السابقة – والخصخصة – والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وكحركة يونانية مناهضة لليبرالية في العالم، وأيدلوجية هذا الحزب الاشتراكية الديمقراطية والايكولوجيا الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية.
يذكر أن اندلاع أزمة الديون في 2010 وسنوات التدهور الاقتصادي التي رافقتها، أدى إلى إعلاء صوت اليسار المتشدد وزعيمه الذي ندد بالأزمة الإنسانية الناجمة عن إجراءات التقشف القاسية التي فرضها الدائنون، أي البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية. وفي غضون ثلاث سنوات تضاعفت حصيلة سيريزا الانتخابية خمسة أضعاف، ففي انتخابات 2012 التشريعية حل ثانيا خلف «الديمقراطية الجديدة» برئاسة إندونيس ساماراس، وتصدر الانتخابات البرلمانية الأوروبية في الربيع الماضي، ومنذ هذه الانتخابات بدا تسيبراس يصقل صورته دوليا، وبعد تحسن كبير في إتقانه اللغة الإنجليزية كما كثف رحلاته إلى الخارج.
وأعلن تسيبراس خلال خطاب الفوز في الانتخابات العامة أن «الشعب اليوناني سطر التاريخ» وهو «يترك التقشف وراءه»، معلنا أن الفوز هو إشارة مهمة لأوروبا التي تتغير، وأن الفوز هو أن الشعب اليوناني يريد نهاية الترويكا أي ممثلي الدائنين. وبعد أكثر من 6 سنوات تذوق خلالها اليونانيون مرارة التقشف وخفض الرواتب وزيادة الضرائب، لم يجدوا سبيلا سوى تسبيراس وحزبه، الذي طالما هاجم خطط التقشف التي لجأت لها الحكومات السابقة من أجل تصحيح الوضع المالي، وإعلانه مرارا وتكرارا من خلال خطاباته الرنانة وظهوره في وسائل الإعلام مدى تعاطفه مع المواطن اليوناني الذي أرهقته خطط التقشف، كما أن انتقاده الدائم لارتفاع نسبة البطالة بين المواطنين بصفة عامة وبين الشباب بصفة خاصة، والتي جعلت عددا كبيرا منهم يلوذ بالفرار خارج البلاد، ومطالباته في البرلمان بزيادة المرتبات ورفع معاشات التقاعد، جعل اليونانيين يشعرون بأن تسبيراس هو الوحيد الذي يشعر بمأساتهم.
وقد جاء تصويت الشعب اليوناني بـ«لا» في الاستفتاء بخصوص اتفاق الدائنين، ليبدأ يوما جديدا في اليونان تسعى فيه الحكومة وتسيبراس نفسه للتوصل إلى اتفاق مع المقرضين والشركاء في أوروبا، وينتظر الجميع حاليا افتتاح المصارف وإعادة الحياة إلى طبيعتها، وأن تتولى الحكومة المفاوضات الصعبة مع الشركاء الأوروبيين. وشدد ألكسيس تسيبراس على أن فوز «لا» في الاستفتاء لا يعني قطيعة مع أوروبا بل يعني تعزيزا لقدرتنا على التفاوض مع الدائنين، مؤكدا على أن حكومته مستعدة لاستئناف التفاوض على خطة إصلاحات ذات مصداقية ومنصفة اجتماعيًا، وأن هذه المرة سوف توضع مسألة الدين على مائدة المفاوضات. كما أطلق تسيبراس نداء للوحدة الوطنية قائلاً إنه بصرف النظر عن كيف صوتنا، نحن شعب واحد، داعيًا اليونانيين إلى مواصلة الجهد الوطني للتوصل إلى اتفاق. واعتبر أن الناخبين اليونانيين عبروا عن اختيارهم «أوروبا التضامن والديمقراطية».
وتشهد اليونان حاليا أحداثا متتالية ومهمة على إثر نتائج الاستفتاء، منها استقالة وزير المالية يانيس فاروفاكيس حيث تسعى الحكومة وفقا للمصادر إلى تلبية مطالب الشركاء في أوروبا، وأيضا استقالة زعيم المعارضة رئيس حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ إندونيس ساماراس رئيس الوزراء الأسبق والذي فشل في حشد مواليه للتصويت بـ«نعم» في الاستفتاء.
وفي الوقت الذي يرفض فيه الشعب اليوناني اتفاق الدائنين الذي يحتوي على الكثير من التدبير التقشفية الجديدة والقاسية، يهيمن التفاؤل الحذر على الشارع اليوناني.. حيث السعي للتوصل إلى اتفاق يرضي الجانبين، وإبقاء اليونان داخل حزام اليورو، باتفاق جديد يسهم في تنمية البلاد وإعادة تمويل البنوك وخفض الديون ومعالجة الكارثة الإنسانية التي تسببت فيها السياسيات التقشفية وسياسة التجويع والفقر التي ما زالت تصر عليها أوروبا والمؤسسات الدائنة تجاه اليونان.