بعد تعرضه لأكبر انتكاسة انتخابية في تاريخه الشهر الماضي، بدأ حزب العمال البريطاني يلملم جراحه من حيث البحث عن قائد جديد إثر تنحي زعيمه إد ميليباند، وربما حتى عن عقيدة وفلسفة سياسية جديدة.
وكانت الصدمة قوية بالنظر إلى الخسارة الكبرى للحزب على المستوى الوطني خصوصا على مستوى اسكوتلندا التي كانت تعد تقليديا أحد المعاقل الرئيسية للحزب اليساري. ويرى محللون أن الحزب سيحتاج الآن إلى فترة تعاف قد تطول حتى يستعيد القدرة على منافسة حزب المحافظين الذي بات يحكم منفردا. ويواجه الحزب خلال المرحلة المقبلة تحديين رئيسيين، أحدهما اختيار زعيم جديد بعد تنحي ميليباند، والآخر صياغة سياسة متوازنة تجاه القضية الآنية الملحة التي تطرحها حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الآن، والمتعلقة بإجراء استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الانسحاب منه.
الأسبوع الماضي، انتهت مهلة الترشح لقيادة الحزب، وانحصر السباق الآن بين أربعة متنافسين هم ليز كيندال وزيرة الرعاية الصحية والكبار في السن في حكومة الظل، وأندي بورنهام وزير الصحة الأسبق، وإيفيت كوبر وزيرة الداخلية في حكومة الظل، وجيريمي كوربين العضو في البرلمان البريطاني لمدة 32 سنة. ودخل هؤلاء المنافسة القيادية بعد أن حصل كل منهم على تأييد 35 نائبا برلمانيا، وبعد انسحاب مرشحين آخرين من السباق الانتخابي قبل أيام قليلة من انتهاء فترة الترشح، أمثال تشاك أومونا وزير الأعمال في حكومة الظل والملقب بـ«أوباما بريطانيا»، وماري كريغ وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل.
ومع انطلاق هذا السابق، نُظمت حوارات تلفزيونية يجيب خلالها المتنافسون الأربع عن أسئلة الحضور حول قضايا سياسية داخلية وخارجية عالقة تهمّهم. وتهدف هذه المناظرات إلى مساعدة الناخبين من أعضاء الحزب على اختيار زعيم قبل إقفال صناديق الاقتراع يوم 12 سبتمبر (أيلول) المقبل. وباستثناء جيريمي كوربين، الذي يتميز بمواقفه اليسارية الصارمة، يصعب التمييز بين البرامج الانتخابية الثلاثة الأخرى. فلنلق نظرة على برامج المتنافسين على زعامة الحزب وتاريخهم السياسي.
باشرت ليز كيندال مسيرتها السياسية في البرلمان البريطاني عام 2010 كنائبة حزب العمال لمنطقة «ليستر ويست»، وتعتبر قريبة من سياسات توني بلير رئيس الوزراء الأسبق، لتشبّثها بفكرة تجديد الحزب واعتماد مقاربة جديدة جذرية. تشغل كيندال منصب وزيرة الرعاية الصحية والكبار في السن في حكومة الظل، كما كانت المستشارة الخاصة لهارييت هارمان، زعيمة الحزب المؤقتة وباتريسيا هيويت وزيرة الصحة في حكومة بلير.
أما أندي بورنهام فيتمتع بخبرة حكومية طويلة، حيث شغل مناصب وزير الصحة في حكومة غوردن براون، ووزيرا للثقافة وللمالية قبل ذلك. دخل بورنهام البرلمان البريطاني كنائب لمنطقة «لايه» عام 2001، وخسر المعركة الانتخابية لقيادة الحزب عام 2010 لصالح إد ميليباند. ويعتمد بورنهام في حملته الانتخابية شعارا ما معناه: «(العمال) لمساعدة الجميع على العيش الكريم».
إيفيت كوبر، وزيرة مالية سابقة ووزيرة الداخلية في حكومة الظل، تشارك المرشحين الآخرين في تشبثهم بتجديد الحزب، وتهدف إلى توسيع مجال اهتمام الحزب من العاصمة والمدن الكبيرة إلى المدن المتوسطة والصغيرة، كما تسعى إلى بناء نظرة مستقبلية متفائلة ومبنية على سياسات واقعية. لم تترشح كوبر لقيادة الحزب عام 2010 لتدعم ترشح زوجها إيد بالز وزير الخزانة السابق في حكومة ظل ميليباند.
أما جيريمي كوربين فحصل على تأييد النواب البرلمانيين للترشح لقيادة الحزب قبل ساعات قليلة من حلول الموعد النهائي. كوربين هو المرشح الوحيد الذي لم يشغل منصبا حكوميا أو في حكومات الظل السابقة. دخل البرلمان البريطاني كممثل لمنطقة «إسلينغتون نورث» عام 1983، ورفع منذ ذلك مطالب النقابات وقيم العدالة الاجتماعية عاليا في مجلس النواب. ويعد كوربين مناهضا قويا لسياسات التقشف وللسلاح النووي وتجديد برنامج «ترايدنت» للنووي البريطاني. كما عرف كوربين في الماضي برفضه لبعض السياسات المعتمدة من طرف حزبه، كالحرب ضد العراق وتدخلات عسكرية خارجية أخرى.
ويتساءل محللون كثيرون الآن حول ما إذا كان حزب العمال فقد مكانته التقليدية في الساحة السياسية ببريطانيا بعد هزيمته النكراء في انتخابات 7 مايو (أيار) الماضي. ويرى محلل سياسي مخضرم في إحدى الصحف البريطانية العريقة أن الحزب، منذ تأسيسه كجناح سياسي للحركة النقابية العمالية من 115 سنة، أدّى خدمات جوهرية للبريطانيين لكن «فترة صلاحيته ضمن الحياة السياسية البريطانية قد انتهت».
أمّن «العمال» مكانته كثاني أكبر حزب بريطاني من خلال سلسلة من الإنجازات التي حققها منذ تأسيسه، ولعل أهمها دعم ونستون تشرشل لقيادة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وإنشاء مصلحة الصحة الوطنية (إن إتش إس) المعروفة بـ«جوهرة تاج المملكة» عام 1948، فضلا عن عدد من القادة الوطنيين الذين بصموا التاريخ، أمثال إيرني بيفين وجيم كالاهان وبيل رودجرز وديفيد أون وغيرهم.
ويرفض كريس دويل، المدير التنفيذي لمؤسسة «كابو» لتطوير العلاقات العربية - البريطانية، فرضية «انتهاء صلاحية» العمال، مشيرا في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن فوز المحافظين فوز متواضع تاريخيا لحصولهم على أغلبية صغيرة. ويوضّح مدافعا عن أهمية الحزب في الساحة السياسية البريطانية: «لا يزال حزب العمال ثاني أكبر حزب. لا يعني ذلك أنه لا يواجه تحديات جدية، خاصة بعد فشله المؤلم في الانتخابات العامة، إلا أن (المحافظين) يواجهون بدورهم تحديات أخرى، خاصة في ما يتعلق بالقضية الأوروبية».
ومن جانبه، يقول ريتشارد ويتمان، الخبير في السياسة البريطانية والزميل في معهد «تشاتام هاوس»، لـ«الشرق الأوسط»، إن «(العمال) في موقف صعب للغاية. فهو في حاجة إلى إقناع البريطانيين بدوره في الحياة السياسية وبأهميته في تحقيق مساعيهم. لكن رغم كل التحديات التي تواجه الحزب التاريخي، فإنني لا أعتقد أنه استنزف مدة صلاحيته.. بل يحتاج إلى إعادة هيكلة أجنحته السياسية والتقرب من الناخبين».
وفي ما يتعلّق بأسباب تراجع أداء الحزب، يرى ويتمان أن هذا الأخير لم يتمكن من مواكبة تغيّر طبيعة الطبقة الناخبة التي صوتت تاريخيا على مرشحي «العمّال». ويوضّح أن السبب وراء تألق الحزب في منتصف التسعينات بقيادة توني بلير هو قابليته للتأقلم مع تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتوجهات السياسية لناخبيه. وهو ما مكنه من الحفاظ على شعبيته، على عكس ما شاهدناه خلال دورتي الانتخابات العامة الماضيتين والتي شهدت فشل رائدي الحزب في مواكبة مطالب الطبقتين المتوسطة والغنية، على الأقل. أما العامل الأساسي الثاني فيتعلق بفشل مرشحي «العمال» في تقديم خطة مستقبلية واضحة لتحسين الأوضاع السوسيو - اقتصادية، واكتفائهم بانتقاد سياسات «المحافظين» غير الشعبية، خاصة منها التي تتعلق بالضرائب والتقشف. ويقول ويتمان في هذا الصدد: «إن عزمت التصويت لصالح (العمال) فإنني أود أن يكون لصوتي تأثير على سياسات المستقبل وعلى واقعي وواقع باقي المواطنين. أود أن يكون صوتا يمنحني فرصة لحياة أحسن، لا فرصة للانتقاد العقيم». وهنا فشل «العمال»، حيث إنه لم يقدم للناخبين حلولا مستقبلية واقعية لتحسين الخدمات الصحية مثلا، أو مستوى المدارس العامة أو خفض الضريبة على السكن وغيرها من الاهتمامات الداخلية الجوهرية.
وكانت كريغ، وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل، قد حذرت من بعض مواقف قيادات حزبها تجاه الطبقات المتوسطة في مقالة كتبتها في صحيفة «الغارديان» البريطانية، مشيرة إلى أنه «لا يجوز أن يكون (العمال) حزب الطبقات العاملة وحزبا يرفض ارتقاء بعض أفراد هذه الطبقة لريادة الأعمال وخلق الثروة وفرص العمل في الآن نفسه».
ومن جانبه، يقول إيان بيغ، زميل في معهد «تشاتام هاوس» الملكي للشؤون الدولية، لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن قضيتي الاقتصاد الوطني ونظام الـ(إن إتش إس) الصحي كانتا حاسمتين في قرار الناخبين البريطانيين لإعادة انتخاب ديفيد كاميرون، كما كانتا خلال الدورات الماضية. فغالبية الناخبين لا يزالون يلومون (العمّال) على تداعيات الأزمة المالية العالمية وفضّلوا وضع ثقتهم في المحافظين للمرة الثانية على التوالي.. أما بالنسبة للنظام الصحي فاعتاد البريطانيون على تفضيل سياسات العمّال لتحسينه وإصلاحه. إلا أنهم زعموا هذه المرة أن حظوظ المحافظين في إصلاح الاقتصاد تفوق حظوظ العمال في إصلاح الـ(إن إتش إس)».
وبخصوص ملف الاتحاد الأوروبي، أعلن حزب العمال في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي أنه سينظم حملة مستقلة لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي بالتزامن مع الاستفتاء على هذا الأمر الذي يتوقع أن ينعقد قبل نهاية عام 2017. وأعلن كاميرون بعد فوزه في الانتخابات العامة أنه سيتفاوض مجددا بشأن علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي قبل أن يطرح عضوية بلاده في الاتحاد الذي يضم 28 دولة في استفتاء عام بحلول 2017. وقال كاميرون إنه يريد لبريطانيا أن تبقى في الاتحاد الأوروبي بعد خضوعه لعملية إصلاح لكنه لم يستبعد الدعوة إلى انسحاب بلاده من الاتحاد إذا لم تتوصل المفاوضات إلى النتائج المرجوة.
وبينما أكدت هارييت هارمان، زعيمة الحزب المؤقتة، أن حزبها سيشارك في الاستفتاء للبقاء في الاتحاد نظرا لتمسك البريطانيين بحقهم في المساهمة في اتخاذ هذا القرار، فإنها استغربت رغبة البعض في الخروج من الاتحاد. وتقول: «لا يعقل أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي تزداد فيه الروابط بين الأسواق والدول قوة. سنقنع الناخبين البريطانيين بأننا نعيش عصر التكتلات التجارية والإقليمية، وأننا نكتسب مكانة أقوى بالعمل كجزء من الاتحاد الأوروبي».
ومن جانبه، قال هيلاري بن، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب العمال ووزير الخارجية في حكومة الظل، إنه بغض النظر عن الجانب الذي يختاره كاميرون فإنه لن يخوض الحملة إلى جانب رئيس الوزراء المحافظ. وأضاف: «الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أننا سنقود حملة عمالية متفردة للتصويت بنعم». كما صرح بأن القرار لا يستبعد المشاركة في الحملة الرسمية المؤيدة للاتحاد الأوروبي والتي لم تتشكل بعد.
ويعكس موقف بن رغبة حزب العمال في التعلم من الدروس المستفادة في استفتاء جرى على استقلال اسكوتلندا العام الماضي حين انضم الحزب المعارض إلى المحافظين والديمقراطيين الأحرار في الحملة المعارضة لاستقلال الإقليم. فقرار العمل مع الأحزاب الأخرى أبعد بعض الناخبين التقليديين لحزب العمال في اسكوتلندا، ويعتبر من أسباب صعود الحزب الوطني الاسكوتلندي الذي حصل في الانتخابات على 40 مقعدا كان يشغلها من قبل حزب العمال مما أسهم في الهزيمة الثقيلة التي مني بها «العمال».
لم يحتفظ «العمال» إلا بمقعد واحد من أصل 41 مقعدا تاريخيا في البرلمان الاسكوتلندي في أسوأ فشل له في الإقليم. وقد لا تختلف أسباب فشل الحزب في اسكوتلندا عن أسباب فشله في باقي أنحاء المملكة، إلا أن الإقليم عرف بالإضافة إلى ذلك حملة انتخابية شرسة للحزب القومي الاسكوتلندي بقيادة زعيمته نيكولا ستورجن.
وفي تعليق على العوامل وراء نجاح القوميين الاسكوتلنديين الكاسح في «المعقل العمالي» التاريخي، يفيد إيان بيغ بأن «هناك قراءتين مختلفتين لهذه المسألة. الأولى هي أن الأفراد الذين صوتوا لصالح استقلال اسكوتلندا خلال استفتاء عام 2014 - والذين بلغت نسبتهم 45 في المائة، هم أنفسهم الذين نزعوا الثقة من (العمّال) وساندوا نيكولا ستورجن، زعيمة القوميين الاسكوتلنديين. أما القراءة الثانية فهي أن الناخبين المعادين لـ(المحافظين) والذين قرروا إعطاء أصواتهم للعمال كما فعلوا سابقا، اضطروا إلى تغيير موقفهم بسبب خطابات ميليباند العدائية للحزب القومي الاسكوتلندي خلال المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية».
ويقود «العمال» الاسكوتلندي بدوره سباقا انتخابيا لاختيار قائده الجديد بعد أن قدم جيم مورفي استقالته عقب الانتخابات العامة. ولم يترشح لقيادة الفرع الاسكوتلندي للحزب إلا نائبان اثنان في البرلمان الاسكوتلندي، وهما كيزيا دوغدايل وكين ماكينتوش. وقال ماكينتوش الذي دخل منافسة القيادة بشعار «اسكوتلندا المستقبل»، لـ«الشرق الأوسط» إن «الحزب في حاجة إلى الانفتاح على مطالب الناخبين، وينبغي أن يبيّن أنه على استماع لتطلعات مواطني اسكوتلندا قبل أن يتمكن من استرجاع ثقتهم». كما أضاف أن المعركة التي بدأها الحزب لاستعادة نفوذه لن تتوج بالنجاح إلا إذا نهج برنامج إصلاح جديا. ويوضح: «لا أود أن أطلب من الناخبين التصويت علينا للحد من نفوذ «المحافظين في لندن أو القوميين الاسكوتلنديين في إدنبره، بل أود أن يصوتوا لصالحنا لاقتناعهم بأفكارنا وبرؤيتنا لمستقبل أفضل للاسكوتلنديين».