«العمال» البريطاني.. يلملم جراحه بعد انتكاسة الانتخابات

حزب المعارضة الرئيسي يبحث عن قائد جديد.. والبقاء في أوروبا و«استعادة اسكوتلندا» على رأس أولوياته

«العمال» البريطاني.. يلملم جراحه بعد انتكاسة الانتخابات
TT

«العمال» البريطاني.. يلملم جراحه بعد انتكاسة الانتخابات

«العمال» البريطاني.. يلملم جراحه بعد انتكاسة الانتخابات

بعد تعرضه لأكبر انتكاسة انتخابية في تاريخه الشهر الماضي، بدأ حزب العمال البريطاني يلملم جراحه من حيث البحث عن قائد جديد إثر تنحي زعيمه إد ميليباند، وربما حتى عن عقيدة وفلسفة سياسية جديدة.
وكانت الصدمة قوية بالنظر إلى الخسارة الكبرى للحزب على المستوى الوطني خصوصا على مستوى اسكوتلندا التي كانت تعد تقليديا أحد المعاقل الرئيسية للحزب اليساري. ويرى محللون أن الحزب سيحتاج الآن إلى فترة تعاف قد تطول حتى يستعيد القدرة على منافسة حزب المحافظين الذي بات يحكم منفردا. ويواجه الحزب خلال المرحلة المقبلة تحديين رئيسيين، أحدهما اختيار زعيم جديد بعد تنحي ميليباند، والآخر صياغة سياسة متوازنة تجاه القضية الآنية الملحة التي تطرحها حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الآن، والمتعلقة بإجراء استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الانسحاب منه.

الأسبوع الماضي، انتهت مهلة الترشح لقيادة الحزب، وانحصر السباق الآن بين أربعة متنافسين هم ليز كيندال وزيرة الرعاية الصحية والكبار في السن في حكومة الظل، وأندي بورنهام وزير الصحة الأسبق، وإيفيت كوبر وزيرة الداخلية في حكومة الظل، وجيريمي كوربين العضو في البرلمان البريطاني لمدة 32 سنة. ودخل هؤلاء المنافسة القيادية بعد أن حصل كل منهم على تأييد 35 نائبا برلمانيا، وبعد انسحاب مرشحين آخرين من السباق الانتخابي قبل أيام قليلة من انتهاء فترة الترشح، أمثال تشاك أومونا وزير الأعمال في حكومة الظل والملقب بـ«أوباما بريطانيا»، وماري كريغ وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل.
ومع انطلاق هذا السابق، نُظمت حوارات تلفزيونية يجيب خلالها المتنافسون الأربع عن أسئلة الحضور حول قضايا سياسية داخلية وخارجية عالقة تهمّهم. وتهدف هذه المناظرات إلى مساعدة الناخبين من أعضاء الحزب على اختيار زعيم قبل إقفال صناديق الاقتراع يوم 12 سبتمبر (أيلول) المقبل. وباستثناء جيريمي كوربين، الذي يتميز بمواقفه اليسارية الصارمة، يصعب التمييز بين البرامج الانتخابية الثلاثة الأخرى. فلنلق نظرة على برامج المتنافسين على زعامة الحزب وتاريخهم السياسي.
باشرت ليز كيندال مسيرتها السياسية في البرلمان البريطاني عام 2010 كنائبة حزب العمال لمنطقة «ليستر ويست»، وتعتبر قريبة من سياسات توني بلير رئيس الوزراء الأسبق، لتشبّثها بفكرة تجديد الحزب واعتماد مقاربة جديدة جذرية. تشغل كيندال منصب وزيرة الرعاية الصحية والكبار في السن في حكومة الظل، كما كانت المستشارة الخاصة لهارييت هارمان، زعيمة الحزب المؤقتة وباتريسيا هيويت وزيرة الصحة في حكومة بلير.
أما أندي بورنهام فيتمتع بخبرة حكومية طويلة، حيث شغل مناصب وزير الصحة في حكومة غوردن براون، ووزيرا للثقافة وللمالية قبل ذلك. دخل بورنهام البرلمان البريطاني كنائب لمنطقة «لايه» عام 2001، وخسر المعركة الانتخابية لقيادة الحزب عام 2010 لصالح إد ميليباند. ويعتمد بورنهام في حملته الانتخابية شعارا ما معناه: «(العمال) لمساعدة الجميع على العيش الكريم».
إيفيت كوبر، وزيرة مالية سابقة ووزيرة الداخلية في حكومة الظل، تشارك المرشحين الآخرين في تشبثهم بتجديد الحزب، وتهدف إلى توسيع مجال اهتمام الحزب من العاصمة والمدن الكبيرة إلى المدن المتوسطة والصغيرة، كما تسعى إلى بناء نظرة مستقبلية متفائلة ومبنية على سياسات واقعية. لم تترشح كوبر لقيادة الحزب عام 2010 لتدعم ترشح زوجها إيد بالز وزير الخزانة السابق في حكومة ظل ميليباند.
أما جيريمي كوربين فحصل على تأييد النواب البرلمانيين للترشح لقيادة الحزب قبل ساعات قليلة من حلول الموعد النهائي. كوربين هو المرشح الوحيد الذي لم يشغل منصبا حكوميا أو في حكومات الظل السابقة. دخل البرلمان البريطاني كممثل لمنطقة «إسلينغتون نورث» عام 1983، ورفع منذ ذلك مطالب النقابات وقيم العدالة الاجتماعية عاليا في مجلس النواب. ويعد كوربين مناهضا قويا لسياسات التقشف وللسلاح النووي وتجديد برنامج «ترايدنت» للنووي البريطاني. كما عرف كوربين في الماضي برفضه لبعض السياسات المعتمدة من طرف حزبه، كالحرب ضد العراق وتدخلات عسكرية خارجية أخرى.
ويتساءل محللون كثيرون الآن حول ما إذا كان حزب العمال فقد مكانته التقليدية في الساحة السياسية ببريطانيا بعد هزيمته النكراء في انتخابات 7 مايو (أيار) الماضي. ويرى محلل سياسي مخضرم في إحدى الصحف البريطانية العريقة أن الحزب، منذ تأسيسه كجناح سياسي للحركة النقابية العمالية من 115 سنة، أدّى خدمات جوهرية للبريطانيين لكن «فترة صلاحيته ضمن الحياة السياسية البريطانية قد انتهت».
أمّن «العمال» مكانته كثاني أكبر حزب بريطاني من خلال سلسلة من الإنجازات التي حققها منذ تأسيسه، ولعل أهمها دعم ونستون تشرشل لقيادة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وإنشاء مصلحة الصحة الوطنية (إن إتش إس) المعروفة بـ«جوهرة تاج المملكة» عام 1948، فضلا عن عدد من القادة الوطنيين الذين بصموا التاريخ، أمثال إيرني بيفين وجيم كالاهان وبيل رودجرز وديفيد أون وغيرهم.
ويرفض كريس دويل، المدير التنفيذي لمؤسسة «كابو» لتطوير العلاقات العربية - البريطانية، فرضية «انتهاء صلاحية» العمال، مشيرا في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن فوز المحافظين فوز متواضع تاريخيا لحصولهم على أغلبية صغيرة. ويوضّح مدافعا عن أهمية الحزب في الساحة السياسية البريطانية: «لا يزال حزب العمال ثاني أكبر حزب. لا يعني ذلك أنه لا يواجه تحديات جدية، خاصة بعد فشله المؤلم في الانتخابات العامة، إلا أن (المحافظين) يواجهون بدورهم تحديات أخرى، خاصة في ما يتعلق بالقضية الأوروبية».
ومن جانبه، يقول ريتشارد ويتمان، الخبير في السياسة البريطانية والزميل في معهد «تشاتام هاوس»، لـ«الشرق الأوسط»، إن «(العمال) في موقف صعب للغاية. فهو في حاجة إلى إقناع البريطانيين بدوره في الحياة السياسية وبأهميته في تحقيق مساعيهم. لكن رغم كل التحديات التي تواجه الحزب التاريخي، فإنني لا أعتقد أنه استنزف مدة صلاحيته.. بل يحتاج إلى إعادة هيكلة أجنحته السياسية والتقرب من الناخبين».
وفي ما يتعلّق بأسباب تراجع أداء الحزب، يرى ويتمان أن هذا الأخير لم يتمكن من مواكبة تغيّر طبيعة الطبقة الناخبة التي صوتت تاريخيا على مرشحي «العمّال». ويوضّح أن السبب وراء تألق الحزب في منتصف التسعينات بقيادة توني بلير هو قابليته للتأقلم مع تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتوجهات السياسية لناخبيه. وهو ما مكنه من الحفاظ على شعبيته، على عكس ما شاهدناه خلال دورتي الانتخابات العامة الماضيتين والتي شهدت فشل رائدي الحزب في مواكبة مطالب الطبقتين المتوسطة والغنية، على الأقل. أما العامل الأساسي الثاني فيتعلق بفشل مرشحي «العمال» في تقديم خطة مستقبلية واضحة لتحسين الأوضاع السوسيو - اقتصادية، واكتفائهم بانتقاد سياسات «المحافظين» غير الشعبية، خاصة منها التي تتعلق بالضرائب والتقشف. ويقول ويتمان في هذا الصدد: «إن عزمت التصويت لصالح (العمال) فإنني أود أن يكون لصوتي تأثير على سياسات المستقبل وعلى واقعي وواقع باقي المواطنين. أود أن يكون صوتا يمنحني فرصة لحياة أحسن، لا فرصة للانتقاد العقيم». وهنا فشل «العمال»، حيث إنه لم يقدم للناخبين حلولا مستقبلية واقعية لتحسين الخدمات الصحية مثلا، أو مستوى المدارس العامة أو خفض الضريبة على السكن وغيرها من الاهتمامات الداخلية الجوهرية.
وكانت كريغ، وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل، قد حذرت من بعض مواقف قيادات حزبها تجاه الطبقات المتوسطة في مقالة كتبتها في صحيفة «الغارديان» البريطانية، مشيرة إلى أنه «لا يجوز أن يكون (العمال) حزب الطبقات العاملة وحزبا يرفض ارتقاء بعض أفراد هذه الطبقة لريادة الأعمال وخلق الثروة وفرص العمل في الآن نفسه».
ومن جانبه، يقول إيان بيغ، زميل في معهد «تشاتام هاوس» الملكي للشؤون الدولية، لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن قضيتي الاقتصاد الوطني ونظام الـ(إن إتش إس) الصحي كانتا حاسمتين في قرار الناخبين البريطانيين لإعادة انتخاب ديفيد كاميرون، كما كانتا خلال الدورات الماضية. فغالبية الناخبين لا يزالون يلومون (العمّال) على تداعيات الأزمة المالية العالمية وفضّلوا وضع ثقتهم في المحافظين للمرة الثانية على التوالي.. أما بالنسبة للنظام الصحي فاعتاد البريطانيون على تفضيل سياسات العمّال لتحسينه وإصلاحه. إلا أنهم زعموا هذه المرة أن حظوظ المحافظين في إصلاح الاقتصاد تفوق حظوظ العمال في إصلاح الـ(إن إتش إس)».
وبخصوص ملف الاتحاد الأوروبي، أعلن حزب العمال في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي أنه سينظم حملة مستقلة لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي بالتزامن مع الاستفتاء على هذا الأمر الذي يتوقع أن ينعقد قبل نهاية عام 2017. وأعلن كاميرون بعد فوزه في الانتخابات العامة أنه سيتفاوض مجددا بشأن علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي قبل أن يطرح عضوية بلاده في الاتحاد الذي يضم 28 دولة في استفتاء عام بحلول 2017. وقال كاميرون إنه يريد لبريطانيا أن تبقى في الاتحاد الأوروبي بعد خضوعه لعملية إصلاح لكنه لم يستبعد الدعوة إلى انسحاب بلاده من الاتحاد إذا لم تتوصل المفاوضات إلى النتائج المرجوة.
وبينما أكدت هارييت هارمان، زعيمة الحزب المؤقتة، أن حزبها سيشارك في الاستفتاء للبقاء في الاتحاد نظرا لتمسك البريطانيين بحقهم في المساهمة في اتخاذ هذا القرار، فإنها استغربت رغبة البعض في الخروج من الاتحاد. وتقول: «لا يعقل أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي تزداد فيه الروابط بين الأسواق والدول قوة. سنقنع الناخبين البريطانيين بأننا نعيش عصر التكتلات التجارية والإقليمية، وأننا نكتسب مكانة أقوى بالعمل كجزء من الاتحاد الأوروبي».

ومن جانبه، قال هيلاري بن، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب العمال ووزير الخارجية في حكومة الظل، إنه بغض النظر عن الجانب الذي يختاره كاميرون فإنه لن يخوض الحملة إلى جانب رئيس الوزراء المحافظ. وأضاف: «الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أننا سنقود حملة عمالية متفردة للتصويت بنعم». كما صرح بأن القرار لا يستبعد المشاركة في الحملة الرسمية المؤيدة للاتحاد الأوروبي والتي لم تتشكل بعد.
ويعكس موقف بن رغبة حزب العمال في التعلم من الدروس المستفادة في استفتاء جرى على استقلال اسكوتلندا العام الماضي حين انضم الحزب المعارض إلى المحافظين والديمقراطيين الأحرار في الحملة المعارضة لاستقلال الإقليم. فقرار العمل مع الأحزاب الأخرى أبعد بعض الناخبين التقليديين لحزب العمال في اسكوتلندا، ويعتبر من أسباب صعود الحزب الوطني الاسكوتلندي الذي حصل في الانتخابات على 40 مقعدا كان يشغلها من قبل حزب العمال مما أسهم في الهزيمة الثقيلة التي مني بها «العمال».
لم يحتفظ «العمال» إلا بمقعد واحد من أصل 41 مقعدا تاريخيا في البرلمان الاسكوتلندي في أسوأ فشل له في الإقليم. وقد لا تختلف أسباب فشل الحزب في اسكوتلندا عن أسباب فشله في باقي أنحاء المملكة، إلا أن الإقليم عرف بالإضافة إلى ذلك حملة انتخابية شرسة للحزب القومي الاسكوتلندي بقيادة زعيمته نيكولا ستورجن.
وفي تعليق على العوامل وراء نجاح القوميين الاسكوتلنديين الكاسح في «المعقل العمالي» التاريخي، يفيد إيان بيغ بأن «هناك قراءتين مختلفتين لهذه المسألة. الأولى هي أن الأفراد الذين صوتوا لصالح استقلال اسكوتلندا خلال استفتاء عام 2014 - والذين بلغت نسبتهم 45 في المائة، هم أنفسهم الذين نزعوا الثقة من (العمّال) وساندوا نيكولا ستورجن، زعيمة القوميين الاسكوتلنديين. أما القراءة الثانية فهي أن الناخبين المعادين لـ(المحافظين) والذين قرروا إعطاء أصواتهم للعمال كما فعلوا سابقا، اضطروا إلى تغيير موقفهم بسبب خطابات ميليباند العدائية للحزب القومي الاسكوتلندي خلال المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية».
ويقود «العمال» الاسكوتلندي بدوره سباقا انتخابيا لاختيار قائده الجديد بعد أن قدم جيم مورفي استقالته عقب الانتخابات العامة. ولم يترشح لقيادة الفرع الاسكوتلندي للحزب إلا نائبان اثنان في البرلمان الاسكوتلندي، وهما كيزيا دوغدايل وكين ماكينتوش. وقال ماكينتوش الذي دخل منافسة القيادة بشعار «اسكوتلندا المستقبل»، لـ«الشرق الأوسط» إن «الحزب في حاجة إلى الانفتاح على مطالب الناخبين، وينبغي أن يبيّن أنه على استماع لتطلعات مواطني اسكوتلندا قبل أن يتمكن من استرجاع ثقتهم». كما أضاف أن المعركة التي بدأها الحزب لاستعادة نفوذه لن تتوج بالنجاح إلا إذا نهج برنامج إصلاح جديا. ويوضح: «لا أود أن أطلب من الناخبين التصويت علينا للحد من نفوذ «المحافظين في لندن أو القوميين الاسكوتلنديين في إدنبره، بل أود أن يصوتوا لصالحنا لاقتناعهم بأفكارنا وبرؤيتنا لمستقبل أفضل للاسكوتلنديين».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.