تابعنا في الأسبوع الماضي سيرة الملك البروسي «فريدريك العظيم»، الذي يعد المحرك الحقيقي للقوة العسكرية البروسية، التي أصبحت فيما بعد اللبنة التي وحدت ألمانيا، وكيف أنه استطاع أن يمنح هذه الدولة الانطلاقة الفكرية والقانونية والفنية والمعمارية لتدخل هذه الدولة مصاف الدول العظمي في أوروبا، بعد إنجلترا وفرنسا والنمسا، ولكن كثيرًا ما تتغافل كتب التاريخ نسبيًا عن كل هذا لصالح الإنجازات العسكرية لهذا الرجل العظيم، فعندما تولى الرجل الحكم في بروسيا في عام 1740م، فإن بروسيا لم تكن قوة عسكرية تذكر بين مصاف الدول الأوروبية، ولكن والده كان مهتمًا اهتماما كبيرًا ببناء جيش بروسي قوى ورثه من والده وجده منذ حرب الثلاثين عامًا في 1648م. ونظرًا لأنها لم تكن دولة بحرية من الطراز الإنجليزي وبدرجة أقل فرنسي، فإن قيادتها ارتأت ضرورة أن تركز قوتها في سلاحي الفرسان والمشاة باعتبار توجهاتها الأساسية في القارة الأوروبية، كما أن أطماعها السياسية والجغرافية كانت في الدول المجاورة خاصة بولندا وسيليسا، وما هي معروفة اليوم بجمهورية التشيك.
وقد استطاع والد فريدريك الأول أن يعد ويطور فرق المشاة بشكل مدروس ومتحضر، فكان اعتماده الأساسي في هذا الصدد منصبًا على طبقة النبلاء المعروفة باسم «اليونكرز» لتكوين ضباط في هذا الجيش، حيث ركز كل جهده على انتقاء الضباط وتعليمهم من هذه الطبقة، وهو ما جعل الجيش البروسي أقرب ما يكون للجيش الوطني في ذلك الوقت في أوروبا، وعندما ورث «فريدريك العظيم» الحكم في عام 1740م، ورث أيضا جيشًا قوامه 80 ألفًا، ولكنه طوره وبدأ يدرب الجيش بنفسه على أحدث أساليب القتال، فكان الرجل يقود الجيش بنفسه ويلبس ملابس خشنة قربته بقوة للجنود الذين بدأوا يشعرون بأنه واحد منهم، حتى إنه يقال إنه في إحدى معاركه التي خسرها جلس تحت شجرة بائسًا مستكينًا، فأتى إليه أحد الجنود وقد ملأ القبعة بالماء، وطلب من الملك أن يشرب منها، وأخذ يشد من أزره باعتباره سيخطط لنصر الدولة في النهاية.
وبهذه العقلية والتكوين الحديث لفرق المشاة، بدأ فريدريك العظيم معاركه بعد أشهر عديدة من تولي الحكم، وواقع الأمر أن إمكانيات هذا الملك الشاب لم تكن كبيرة مقارنة بالدول المنافسة له، ومع ذلك فقد برع الرجل في تكتيكاته الحربية بشكل جعله محط أنظار كل الدول الأوروبية إلى الحد الذي أطلق عليه لقب «جنرال أوروبا»، فلقد كان الرجل يتمتع بقدرة عالية للغاية على المناورة والحركة، وهي الصفات نفسها التي تحلى بها بعده بستة عقود القائد الفرنسي الفذ نابليون بونابرت، فنظرًا للندرة النسبية لقواته مقارنة بأعدائه، فإنه كان دائمًا ما يسعى لسرعة الحركة والمناورة العكسية، وينسب له تطوير ما هو معروف بالـOblique Order والأسلوب غير المباشر في القتال، ففي حربه الأولى مع النمسا التي استطاع من خلالها ضم إقليم سيليسا، فإن توغلاته دفعت الجيوش النمساوية لمحاولة تطويقه، وهو ما تفاداه بسرعة الحركة والانسحاب التكتيكي، فاستدرجهم نحوه، وهو ما جعلهم بعيدين عن خطوط الإمدادات، وبخفة شديدة استطاع إلحاق الهزيمة بهم.
ولكن العبقرية العسكرية لهذا الرجل تجسدت خلال ما كان معروفًا بحرب «السنوات السبع» ضد التحالف النمساوي والروسي والفرنسي، فثلاث جبهات في آن واحد ليست بالأمر الهين على أي قائد عسكري، ولكنه استطاع بتطبيق بعض التكتيكات الحربية التي طورها أن يصمد طويلاً وهو وحيد بلا دعم حقيقي من حليفه الإنجليزي، فكانت أهم تحركاته تتمثل في محاولة الحفاظ على صلب جيشه وعدم استهلاكه فيما هو معروف في العسكرية بمبدأ «اقتصاد القوات»، حتى يُمكن نفس الجيش التحرك سريعًا لمحاربة الجيوش الأخرى، وهو ما جعله في هذه الحرب الممتدة يتحرك بجيشه من الجبهة النمساوية إلى الفرنسية إلى الروسية بسلاسة وطلاقة مع الاحتفاظ بأقل الخسائر في هذا الجيش كلما أمكن ذلك، وقد برع الرجل في هذا بشكل فريد، ولكنه في النهاية كاد يخسر هذه الحرب بسبب تكالب الأعداء عليه، لولا التدخل الإلهي بموت القيصرة الروسية إليزابيث، وتولي بطرس الثالث مقاليد الحكم، الذي كسر التحالف، ودخل في صلح منفرد مع فريدريك العظيم، من فرط إعجابه به.
لعل أبرع معارك هذا الرجل في هذه الحرب كانت بعدما خسر مواجهته مع النمساويين في معركة كولين، ولكنه استطاع التغلب عليها، وبدأ يوجه قواته لمواجهة الجيش الفرنسي الزاحف، وهو أخطر جيوش التحالف، وتلاقى الجيشان في معركة روسباخ الشهيرة في 1757م. حيث كان الجيش الفرنسي ضعف عدد جيشه، وقد عمد الرجل إلى الانسحاب من الجبهة في حركة نصف دائرة تقريبًا خلف أحد التلال ليخفي جيشه وتحركاته، وهو ما دفع جيش العدو إلى التحرك لملاقاته، ولكن حركته كانت أبطأ بكثير من البروسيين، وهو ما جعل الجيش في حالة انفصال عن الجبهة، ثم أمر سلاح الفرسان بالتمركز خلف الميسرة لجيشه سامحًا لفرسان العدو بالهجوم، فما كادت تدخل خيالة الفرنسيين حتى طوقهم من الأمام والميسرة، وهو ما أدى لتحييدهم وإخراجهم من الجبهة، وذلك في الوقت الذي كان صلب جيشه يتحرك بسرعة منظمة للغاية خلف ساتر المرتفعات لينقض على الجيش الفرنسي الذي بدأ عملية تمركزه الجديدة متأخرا، وهنا انقض فريدريك على الجيش الفرنسي وهو في حالة ارتباك، فكان النصر حليفه، خاصة بعدما دخل سلاح الفرسان المعركة دون مواجهة، فكانت النتيجة هزيمة نكراء للفرنسيين خسروا فيها ما يقرب من عشرة آلاف ضحية بين قتيل وأسير ومصاب، وذلك في الوقت الذي فقد فيه الجيش البروسي ما يقرب من خمسمائة جندي فقط، وكان النصر حاسمًا، أخرج فرنسا مؤقتًا من الجبهة المتحدة ضده.
وعلى الفور تحرك الرجل مرة أخرى لملاقاة الجيش النمساوي في معركة لوثين الشهيرة بالجيش نفسه، بعدما قطع مئات الكيلومترات ليواجهه، وهنا برزت العبقرية العسكرية لهذا الرجل، فقد طبق عليهم تكتيكاته الحربية التي طورها، وذلك من خلال عدم الاشتباك معهم على طول الجبهة في مواجهات متصاعدة من المشاة، كما كان المعتاد، ولكنه تعمد الهجوم الخفيف على طول الجبهة لتثبيتها، بينما أرسل ألوية من جنود المشاة بشكل الـOblique مركزًا هجومه بشكل يكاد يكون عمودي على أحد الجناحين، واستخدم الخطوط الداخلية لتعبئة هذه الألوية بعيدًا عن أعين العدو، والدفع بها بشكل متتالٍ إلى نفس النقطة الضعيفة في جناح العدو، فشق الجناح النمساوي، وعزله عن باقي الجيش، وهو ما سمح له في وقت سريع بتطويق باقي جيش العدو وهزيمته هزيمة نكراء شتت فلولهم.
وعلى الرغم من هذه العبقرية، فإنه لم ينجح في كل معاركه في تطبيق هذه التكتيكات العملية، وهو ما كلفه الكثير من الجنود عند مواجهة القوات الروسية في معركة زوندورف في 1758م. عندما فرض عليه القائد الروسي الدخول في معركة تقليدية مفتوحة أدت إلى استنزاف قوته بموت آلاف الجنود في الجيشين، ولكن نتيجتها المهمة كانت منع تلاحم الجيش الروسي مع حليفه النمساوي، وهو ما جعله يستطيع الاستمرار في هذه الحرب الضروس إلى أن انسحبت روسيا منها وعم السلام بعدها بعدما استهلكت السنوات السبع الجيش البروسي، ولكنه ظل صامدًا.
وعلى الرغم من انتهاء حرب السنوات السبع وبروسيا في حالة إرهاق مالي وعسكري، فإن الرجل استغل سنوات السلام فيما بعد لتطوير الجيش البروسي بعدما حصل بالسلم على الأراضي التي كان يطمع فيها، فلم يغفل الرجل هذا البعد على الرغم من أنه قاد بلاده في ثورة فكرية وإدارية وقانونية واسعة النطاق أدخلتها ضمن مصاف الدول الكبرى في أوروبا، وكان هذا التحديث هو ما سمح لبروسيا، التغلب على الهزيمة النكراء على أيدي نابليون بونابرت في إينا عام 1806م. وعندما آن الأوان لبروسيا أن توحد ألمانيا على أيدي المستشار الألماني العبقري بسمارك، فإن الجيش البروسي كان على أهبة الاستعداد لتولي هذه المسؤولية عندما طُلب منه ذلك، وأصبح الجيش الأول في أوروبا بحلول عام 1871م. والفضل في ذلك يرجع للقاعدة العسكرية التي أرساها فريدريك العظيم، أو «فريتز العجوز»، كما كانت كثير من الدوائر السياسية تكنيه، فهو مثال للسياسي الذي أدرك أن القوة العسكرية للدولة حتمية، ولكنها في واقع الأمر امتدادًا للمشروع التنويري العام للدولة ذاتها، فالجيش لا يفصل عن الدولة، وهي حقيقة كثيرًا ما تغفلها القادة على مر التاريخ.
من التاريخ: فريدريك العظيم وجذور الجيش الألماني
من التاريخ: فريدريك العظيم وجذور الجيش الألماني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة