اللغة العربية دون «حوسبة» متأخرة 60 سنة عن الإنجليزية

تعيش في القرن الماضي والترجمة الإلكترونية بعيدة المنال

عدنان عيدان
عدنان عيدان
TT

اللغة العربية دون «حوسبة» متأخرة 60 سنة عن الإنجليزية

عدنان عيدان
عدنان عيدان

لماذا لا تزال الترجمة الآلية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى والعكس بالعكس متأخرة، عن كل ما عداها؟ هل هي قواعد النحو التقليدية التي لم تُحدّث؟ أم قلة المهارات التكنولوجية في العالم العربي؟ أم هو بكل بساطة الإهمال واللامبالاة باتجاه قضية باتت عمادًا للوصول إلى المعلومات بلغتنا الأم؟ لماذا بمقدور الفرنسي والأميركي والإسباني أن يضع أي نص بلغته على برنامج الترجمة، الذي تتيحه «غوغل» مثلاً ويحصل بكبسة زر على مقابله التقريبي بلغة أخرى، فيما يبقى العربي عاجزًا عن الوصول إلى نتيجة مقبولة ومفهومة.
المشكلات كثيرة ومتشعبة، لكن المعضلة الأصل هي في أن العرب لم يقوموا لغاية اللحظة بوضع «مدونة للغة العربية» أي جمع مئات آلاف النصوص التي كُتبت باللغة العربية، قديمًا وحديثًا، وفي مختلف المجالات العلمية والأدبية، إلكترونيًا ومن ثم حوسبتها، أي درسها بطريقة علمية حسابية، لاستخلاص النتائج حول قواعدها وأسس استخداماتها، ومعرفة تحولاتها، وتشكل دلالاتها وتبدل صيغها تاريخيًا، والتعامل معها من منظور جديد.
بعد حوسبة اللغة، أي جمع المخزون الهائل من النصوص الذي يعود عمره إلى 1500، نصبح قادرين على وضع بنية تحتية حديثة للغة العربية، وإجراء قراءات إحصائية حسابية وعلمية للكلمات، أو العبارات، وطريقة استخدام فعل ما أو تحولات دلالة ما، وهذا أمر لم يعد صعب الإنجاز، عندها أمور كثيرة تصبح ممكنة، منها معالجة اللغة آليًا، وضع قواميس ومعاجم حديثة، أو إجراء دراسات على الشعر وربما جرد بعض المفردات، ومعرفة الألفاظ الأكثر استخدامًا، واعتبار تعليمها أولوية في المدارس.
حين يصبح احتساب كل كبيرة وصغيرة في مدونتنا اللغوية منذ عرفت العربية النصوص المكتوبة إلى يومنا هذا ممكنًا، وجرد ما نريده بكبسة زر، تتغير حياتنا حتمًا.
الدكتور عدنان عيدان، يقول إنه والدكتور نبيل علي، ربما وحدهما من عملا جديًا في هذا المجال، في محاولة منهما للخروج من المأزق الذي تعاني منه العربية آليًا أولاً وعمليًا في الاستخدامات الحياتية بالنتيجة. «لا ترجمة آلية تقترب من الكمال دون حوسبة للغة، وكذلك لا دراسات آلية متطورة يمكن أن يقوم بها باحثون، بأساليب تختلف عن تلك التقليدية التي ما زالت وحدها تحتل الميدان» يشرح د. عيدان. والرجل عالم تخصص في علم الإحصاء، ومن ثم حصل على الماجستير في علم الاجتماع السياسي، لكن همه اللغوي قاده لتحضير الدكتوراه في لندن في جامعة برونيل في «علم الحاسب الآلي» وتحديدًا في مجال تطبيق علوم الحاسبات ومعالجة اللغة العربية، وكان موضوعه حول «إعراب الجملة العربية حاسوبيًا».
الدكتور عيدان، أحد مؤسسي شركة «آي تي آي» للبرمجيات، ويعمل منذ ربع قرن على الحاسوبيات اللغوية، والترجمة الآلية ومحركات البحث حيث وضع محرك «الهدهد»، يرى أن العمل على حوسبة اللغة الإنجليزية، والترجمة الآلية بهذه اللغة بدأ منذ أكثر من نصف قرن. ويضيف عيدان: «بدأ الأميركيون العمل على الترجمة الآلية منذ الخمسينات، مع اختراع الكومبيوتر وتطوير برامجه لأغراض عسكرية». حاولت وزارة الدفاع الأميركية، ترجمة صحيفة «البرافدا» من الروسية، في إطار الحرب الباردة التي كانت مشتعلة حينها، لكنهم فشلوا. الباحث المعروف ناعوم تشومسكي هو الذي كشف لهم أن الترجمة كما يحاولونها لن تصل بهم إلى نتيجة، وأنهم بحاجة أولاً إلى ترجمة آلية للغة البشرية، وهو ما نطلق عليه اليوم اسم الحوسبة.
فاللفظة الواحدة في لغة ما، قد تعني أشياء متعددة ومختلفة، وهو ما لا تستطيع أن تدركه الآلة، وبالتالي علينا أن ندرس المحددات؛ فكلمة «بوك» بالإنجليزية، قد تعني حجز مقعد، أو كتابا أو إنذارا، تمامًا كما كلمة «كَتَبَ» أو«كُتُب» أو «كُتِبَ» باللغة العربية. كيف لجهاز الكومبيوتر أن يعرف حين تكون لفظة «كتب» غير محركة إن كانت اسمًا أو فعلاً، دون أن نعطيه المحددات التي تأتي قبل كل حالة وبعدها. نحن بحاجة لإعادة دراسة اللغة من منظور حاسوبي، كي نفلح في جعلها لغة إلكترونية بكل ما في الكلمة من معنى، لتفادي الاشتراك اللفظي.
لكن إذا كان الأميركيون قد سبقوا العالم أجمع إلى حوسبة لغتهم؛ فكيف نجح الأوروبيون في اللحاق بهم، ولماذا لم ينل العرب القسط نفسه؟ الأوروبيون عملوا بجدية على هذا الموضوع، منذ منتصف ستينات القرن الماضي، وحتى بداية الثمانينات، خدمة لمشروعهم الأوروبي المشترك. يشرح د. عيدان: «الأميركيون ركزوا على الترجمة الإنجليزية - الروسية لكن الأوروبيين اشتغلوا على الترجمة بين لغاتهم المختلفة، من فرنسية وألمانية وإسبانية وإيطالية. كان هدفهم التوصل إلى ترجمة آلية كي يفهموا بعضهم بعضا. أرادوا إذا ما تحدث مسؤول إنجليزي عن الزراعة مثلاً أن يحصلوا على ترجمة مباشرة بست لغات أخرى، وبالتالي قاموا بعمل قاموس وسيط يسمح لنص بإحدى اللغات السبع أن يدخل من باب، ليخرج بست لغات من الجهة الأخرى». من أواسط الستينات إلى أواسط الثمانينات، مئات الرسائل العلمية حررت في كل من أميركا وأوروبا حول حوسبة اللغات. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يقول د. عدنان عيدان: «بدأت مرحلة جديدة، وركز الأميركيون بشكل خاص على الترجمة الإنجليزية – الإسبانية، والعكس بالعكس، لأن همهم أصبح داخليًا، وصار الهدف ربط شرق أميركا بغربها الذي يتكلم الإسبانية ويصدر صحفًا بهذه اللغة. وهكذا صار ما تكتبه بوسطن من صحف يمكن أن تقرأة مباشرة كاليفورنيا. وبالتالي توصل الأميركيون إلى ترجمة بين الإنجليزية والإسبانية تصل إلى 95 في المائة من حيث دقتها، ووصل الأوروبيون إلى النسبة ذاتها عند الترجمة بين اللغات الأوروبية، وهو ما لم تحلم به العربية لغاية اللحظة.
يتساءل الدكتور عيدان بحسرة، حول ما لا يقل عن 400 جامعة عربية، ألا يوجد فيها 15 أستاذا و20 طالبًا يعملون على الترجمة الآلية من العربية إلى الإنجليزية مثلاً؛ أليس هذا معيبًا؟! لماذا هذه الجامعات تصرف المليارات، ولا تعني بالترجمة الآلية التي باتت عمادًا لكل تطور؟!
«بلغت من العمر 69 عامًا ولا أريد شيئًا، لنفسي»، يقول د. عيدان، «شكرًا لكم، فقط اهتموا بجامعاتكم».
اللوم على مصر أكثر من غيرها، كما يرى هذا العالم المشغول بتطوير المزيد من البرامج الحاسوبية اللغوية، لأن «الإمكانيات هناك كبيرة، وعندهم أساتذة على مستوى مهم، وهم بلد ضخم، ومع ذلك لا إنتاج يُذكر في مجال الحوسبة أو الترجمة الآلية، بل على العكس الصحف المصرية مليئة بالأخطاء، فلا يوجد ألف مقصورة، وكأنها أُلغيت من اللغة، ودائمًا تحتها نقطتين، لتتحول تلقائيًا إلى (ي)».
إهمال الجامعات العربية لموضوع على هذا القدر من الأهمية متأتٍّ من أننا مستهلكون للعلوم ولسنا مبتكرين لها أو حتى مساهمين بها. يشبه الدكتور عيدان علاقتنا بالتكنولوجيا كما صلتنا بـ«الفاصولياء المعلبة» نأتي بها جاهزة للأكل فقط. في البدء يقول: «كان العاملون في مجال الكومبيوتر إما طلاب رياضيات أو فيزياء أو كيمياء، ثم بمرور الوقت أدركوا أن دمج هذه العلوم معًا سيكون مفيدًا لفتح تخصص أكاديمي جديد هو هندسة الكومبيوتر؛ 15 سنة بعدها بدأت تفتتح أقسام الهندسة الطبية، واللسانيات الحاسوبية، وهي موجودة في كثير من الجامعات في بريطانيا، وهو ما لم يحدث بعد في الجامعات العربية».
تدشين أقسام للسانيات الحاسوبية في الجامعات العربية، يفتح الباب ليس فقط لتطوير الترجمة الآلية، وإنما أيضا للعمل على تطوير «التعرف الضوئي على الحروف» لمسح النصوص الورقية ضوئيًا وجعلها إلكترونية، وسيسهم أيضا في تطوير محركات بحث عربية، وبرامج التصليح الآلي، وأمور أخرى يصعب حصرها هنا. الجامعات العربية لا تزال قاصرة عن تخريج طلاب مؤهلين للقيام بهذه المهمات على لغتهم الأم.
الأفراد والشركات الصغيرة ليسوا هم المخولين القيام بهذه الأدوار التي تحتاج دولاً وجهودًا جماعية متواصلة. تسليم هذه المهمات للشركات يجعل منه أمرًا تجاريًا، في الجامعات الأميركية والإنجليزية تمكنوا من تفكيك نصوص الأدب الإنجليزي بشكل رائع، بفضل الحوسبة وبنوا عليها، واستفادوا منها في مختلف مناحي الحياة، فيما لا تزال النصوص العربية تنتظر من يعنى بها. ولا يزال الطالب العربي يتخرج ولا يعرف الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع، ولا يستطيع الكتابة دون أخطاء، ولا يميز بين الهاء والتاء المربوطة.
«في لغتنا ست حركات إضافة إلى السكون والشدة، لماذا لا يستخدمهما أحد؟ لماذا تم الاستغناء عنهما، وهما جزء من لغتنا التي نكتبها ونتفوه بها». مشكلة إضافية أخرى يتحدث عنها عيدان هي إدخال تكنولوجيا غير مقيسة إلى بلداننا. فكل يحمل هاتفًا أو يعمل على حاسوب ترتيب الحروف العربية عليه مختلف عن الآخر، وهذا يحدث بلبلة حقيقية. لماذا لا يتم وضع أسس يتم اعتمادها وتفرض على الشركات المصنعة التي تشحن بضائعها إلى الدول العربية، وهذا ممكن وميسر.
التكنولوجيا تربكنا. ما كان ينقص اللغة العربية في زمن انحطاطها الأكبر إلا هذه التحديات المتزايدة، التي تواجه بكسل متماد. 60 سنة عمل، تفصل بين الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى واللغة العربية التي لا تزال عمليًا تعيش في ستينات القرن الماضي.
كم قطعنا من مسافة في مشوار الحوسبة الطويل، بجهود أفراد قلة انتدبوا أنفسهم لعمل بحجم أمة، يجيب د. عيدان: «مدوّنة اللغة العربية هي ملف إلكتروني هائل يتجاوز حجمه حاليًا مليار (ألف مليون) كلمة عربية، والعمل جارٍ للوصول في النهاية إلى 10 مليارات (عشرة آلاف مليون) كلمة». الترجمة الآلية العربية التي يمكن الركون إليها للتعرف على ما تنتجه اللغات الأخرى لن تكون غدًا.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.