تعد أم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة من السابقات إلى الإسلام.
كانت قبل زواجها من الرسول، صلى عليه وسلم، متزوجة من ابن عمها، السكران بن عمرو، وتحملا معا في سبيل دينهما سوء العذاب على أيدي مشركي قريش الذين تفننوا في إنزال جميع أشكال العذاب والآلام والمعاناة بالمسلمين.
هاجرت السيدة سودة مع زوجها إلى الحبشة فرارا بدينهما من شدة إيذاء قريش للمسلمين، وذلك بعد أن أذن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، بقوله لأصحابه: إن «بأرض الحبشة ملكا لا يُظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا».
وفي الحبشة عاشت السيدة سودة بنت زمعة مع زوجها - والمسلمين المهاجرين - في ظل الملك العادل النجاشي بعيدا عن تعنت قريش وعذابها، حتى شاع أن قريشا أوقفت تعذيبها المسلمين، ورأى الجميع العودة إلى مكة.
ولأن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن فقد انتزع الموت منها زوجها السكران بن عمرو، فاحتمت بالصبر إيمانا منها بقضاء الله وقدره. وأدى القدر دورا مهما في زواج الرسول، صلى الله عليه وسلم، منها.
يقول الكاتب محمد حسين سلامة في كتابه «نساء فضليات»: «بعد وفاة السيدة خديجة، رضي الله، عنها كان الرسول حزينا لفراقها، ولم يكن أحد يجرؤ أبدا أن يكلم النبي في أمر الزواج، وشاءت إرادة الله عز وجل أن تتجرأ واحدة من فضليات نساء الصحابة ألا وهي، خولة بنت حكيم، لتعرض هذا الأمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أجل إدخال الفرح والسرور على قلبه المحزون».
سألت السيدة خولة الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا تتزوج؟
فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم: مَنْ؟
قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: مَنْ البكر؟
قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة بنت أبي بكر.
قال: الرسول صلى الله عليه وسلم: فمَنْ الثيب؟
قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك، واتبعتك على ما أنت عليه.
قال صلى الله عليه وسلم: فاذهبي فاذكريها عليّ.
تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» في كتابها «نساء النبي»: «تأثر النبي، صلى الله عليه وسلم، للمهاجرة المؤمنة الأرملة، فما كادت خولة بنت حكيم تذكرها له حتى مد يده الرحيمة إليها يسند شيخوختها ويهون عليها الذي ذاقت من قسوة الدنيا».
كانت السيد خولة رفيقة للسيدة سودة في الهجرة إلى الحبشة، وتعرف مكارم أخلاقها، وحبها الكبير لله ورسوله، وتضحياتها في سبيل دينها.
ما إن دخلت على السيدة سودة في بيت أبيها زمعة - الذي تقدم به العمر - حتى بادرتها متسائلة: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟
إن سؤال السيدة خولة بهذه الصيغة يحمل على التفاؤل، ويبشر بخير وبركة أدخلهما الله تعالى على السيدة سودة وأبيها لم تفصح عنهما على سبيل التشويق، الأمر الذي جعل السيدة سودة تسأل باهتمام كبير عن ذلك الخير وتلك البركة قائلة: وما ذاك يا خولة؟
وفي كلمات محدودة واضحة الدلالة تطرح السيدة خولة على مسامع السيدة سودة مفاجأة لم تتوقعها. قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكِ لأخطبك عليه.
ويصعب على كثيرين من الأدباء والمبدعين أن يصوروا بأقلامهم مشاعر السيدة سودة في تلك اللحظة الفريدة في حياتها.
فأي سعادة تملكتها؟ وأي سرور غمرها؟ وكيف جرت دموع الفرحة على وجهها؟ وإلى أي حد تهللت روحها، لتستقبل حياة جديدة في كنف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتودع آثار أحزانها ومعاناتها غريبة في الحبشة أرملة في مكة.
يصعب على كثيرين أن يتوقعوا ما رددت بينها وبين ربها من كلمات الشكر لله، عز وجل، أن منحها فوق ما أرادت، ذلك أنها لم تكن تطمع يوما في أن تصبح زوجة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم.
لقد عبرت السيدة سودة عن فرحتها الكبيرة بكلمتين فقط: «وددت ذلك».. ولم تنس وهي في غمرة سعادتها أن تتبع القيم والأصول والتعاليم التي تعلمتها من الإسلام، فطلبت إلى السيدة خولة أن تبلغ أباها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها.. قالت السيدة سودة مخاطبة السيدة خولة: «ادخلي على أبي فاذكري له ذلك».
واستجابت السيدة خولة لطلب السيدة سودة ودخلت على أبيها (زمعة)، فحيته، ثم أبلغته أن محمدا بن عبد الله يذكر ابنته سودة فما كان منه إلا أن وصف محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأنه «كفء كريم» ليعلن بهاتين الكلمتين موافقته على الزواج.
وتعقب الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» في كتابها «نساء النبي» على هذا الحدث الكريم بقولها: شاع في مكة أن المصطفى قد خطب سودة بنت زمعة فكاد ناس لا يصدقون سمعهم، فما في سودة مأرب، وتساءلوا في ارتياب: أرملة مسنة غير ذات جمال تخلف خديجة بنت خويلد التي كانت يوم خطبها الشاب اليتيم الفقير سيدة نساء مكة ومطمح أنظار السادة من قريش؟
كلا، لن تخلف سودة أو سواها خديجة وإنما تجيء إلى بيت الرسول جبرا لخاطرها، وعزاء لها عن زوجها ابن عمها، الذي هاجرت معه فيمن هاجر إلى الحبشة، ثم مات عنها مهاجرا في الغربة.
ذهب الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى بيت زمعة وعقد على السيدة سودة وأصدقها أربعمائة درهم، لتكون بهذا الزوجة الثانية في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والأولى بعد أم المؤمنين السيدة خديجة، رضي الله عنها.
انتقلت السيدة سودة إلى بيت الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في السنة العاشرة للدعوة الإسلامية، أي قبل ثلاث سنوات من الهجرة إلى المدينة المنورة.
ظلت السيدة سودة الزوجة الوحيدة للرسول، صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنوات حتى تزوج السيدة عائشة، رضي الله عنها.
واجتهدت السيدة سودة في أن تدخل السعادة والسرور على قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من حبها الكبير للرسول، وإدراكها أن السيدة خديجة تركت وراءها فراغا كبيرا يصعب على من تأتي بعدها أن تملأه.
وبذلت جهودا كبيرة في رعاية بنات الرسول، صلى الله عليه وسلم، من السيدة خديجة، فأسهمت في إرساء وتأكيد دعائم المحبة والمودة والرحمة داخل البيت النبوي، سواء في الفترة التي قضها في مكة المكرمة، أو بعد الهجرة إلى المدينة المنورة.
وعندما تقدم بها العمر بادرت بالتنازل عن ليلتها مع الرسول للسيدة عائشة، رضي الله عنها، وكان أعظم آمالها أن تبعث يوم القيامة زوجا للرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي لحق بربه وهو راض عنها.
يصفها الكاتب محمد على قطب في كتابه «نساء حول الرسول» بقوله: «كانت سودة عابدة زاهدة متصدقة متبتلة.. امتد بها العمر إلى زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لحقت بالرفيق الأعلى».
* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
زوجات الأنبياء (الحلقة 4) : سودة بنت زمعة.. رمز «الإيثار»
أعظم أمانيها أن تبعث يوم القيامة زوجًا للرسول
زوجات الأنبياء (الحلقة 4) : سودة بنت زمعة.. رمز «الإيثار»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة