من التاريخ: «فريديريك العظيم» مؤسس ألمانيا

فريديريك العظيم
فريديريك العظيم
TT

من التاريخ: «فريديريك العظيم» مؤسس ألمانيا

فريديريك العظيم
فريديريك العظيم

كثيرًا ما يخطئ البعض بالقول إن مؤسس ألمانيا كان القائد العبقري بسمارك، في القرن التاسع عشر، ولكن حقيقة الأمر أن المؤسس الحقيقي لبروسيا، التي أصبحت النواة الحقيقية للكيان الألماني فيما بعد كان فريديريك العظيم، وهو الشخصية التي كثيرًا ما نتناساها لصالح من هم أقرب زمنًا، وليس بالضرورة أكثر فعلاً، وهي ظاهرة تاريخية متكررة، ولكنها غير منصفة، فهذا الرجل العظيم هو الذي وضع دولة بروسيا في شرق أوروبا على طريق المجد، وجعل منها قوة أوروبية لا يستهان بها، بعد فترة حكم دامت 46 عامًا انتهت بوفاته في عام 1786، وهو جالس على كرسيه عجوزًا وحيدًا شأنه شأن الكثير من العظماء الذين دفعهم الحكم إلى الوحدة والتعاسة النسبية.
لقد كان فريدريك الثاني «العظيم» الابن الأكبر لوالده فريديريك فيلهلم الأول، وكان والده رجلاً صارمًا لا يتمتع بأية مرونة أو ليونة في تعامله مع الابن، وهو ما تسبب في كثير من المناسبات بإهانة الأمير الصغير بشكل فج أمام الحضور، وكان والده متشددًا في تربيته حيث فرض عليه نوعًا من العسكرية المتشددة، شأنه شأن باقي أمراء أوروبا، باعتباره سيرث الحكم فيما بعد، ويدير حروب الدولة وسياستها على حد سواء، وكان الرجل غير مقتنع بالتيارات الفكرية والثقافية التي كانت تسود العواصم الأوروبية الكبيرة في ذلك الوقت، خصوصا الفرنسية منها، نظرًا لكرهه الشديد لفرنسا وسياساتها التوسعية، وهو ما دفع الأمير الصغير لتجرع الفكر والفن والثقافة سرًا بعيدًا عن نفوذ والده، فتعلم الموسيقى، وكان يعزف الفلوت بشكل تلقائي إلى الحد الذي سمح له فيما بعد بتأليف الموسيقى التي تُعزف اليوم منسوبة له في الأوركسترات العالمية، كما أنه كان شديد الولع بالأدب، خصوصا كتابات «فولتير»، وهو ما دفعه إلى استضافته لثلاث سنوات في قصره بعدما توليه العرش.
ومع ذلك، فإن الأمير كان منعزلاً بسبب قسوة والده عليه، خصوصا عندما رفض الأب زواجه من إحدى الإنجليزيات، فقرر الأمير الشاب الهروب إلى لندن، ولكن رجال الملك استطاعوا القبض على الأمير الشاب مع صديقه، وقام الأب بسجن ابنه لمدة شهرين، وكان ينوى إعدامه بتهمة الخيانة العظمى، ولكنه صب جم غضبه على صديق الأمير، وأمر بإعدامه في القصر أمام أعين ابنه في قسوة مفرطة كان من شأنها التأثير نفسيًا على الأمير الشاب طيلة حياته، وقد أعقب ذلك قرار الملك تزويج الأمير من إحدى أميرات أسرة الهابسبورج النمساوية لأسباب تتعلق بإدارة الحكم في البلاد، واتقاءً لشر النمسا، التي كانت من القوى الأوروبية الكبرى التي يُحسب لها ألف حساب، وهكذا اكتمل مربع التعاسة لولى العهد، ولكنه لم يمنع استمراره في تحصيل الفكر والفن والعلوم العسكرية، التي بدأ يدرسها بشكل متعمق.
شاءت الأقدار وفاة الملك، فتم تتويج الأمير «فريديريك الثاني» ملكًا خلفًا لوالده في عام 1740، ومنذ البداية، وضع الرجل بصمته المباشرة على الدولة البروسية ونظام الحكم فيها، فعلى الرغم من أنه ورث دولة لا بأس بها على المستوى الأوروبي، فإنها لم تكن غنية سواء في الموارد أو الفكر أو العسكرية، ولكن الملك الجديد كانت له رؤيته المستنيرة، حيث ركز جهده على ثلاثة محاور أساسية؛ الأول تطوير الجيش وتحريكه لخدمة قضايا الدولة، والثاني جعل بلاده مركزًا للفكر والثقافة والثالث حسن الإدارة، وفي الإطار الأخير، فإنه وضع كتابه الشهير «ضد ميكيافيلي»، الذي عارض فيه سياسات المفكر الإيطالي الشهير، واستعاض بمفهوم الدولة الحديثة ذات المؤسسات بدلاً من المؤامرات ومراكز القوة المختلفة فيها، فضلاً عن حسن الأداء الإداري في البلاد وإعادة بنائها.
على الصعيد الدولي، فإنه لم يكن قانعًا بالظروف السياسية التي تحيط بها، وكان يرى ضرورة جعل بروسيا دولة عظمى لا تقل قيمة وقوة عن النمسا وفرنسا وإنجلترا، كما أنه كان يكره بشكل كبير النمسا ويعتبرها العدو الأول لبلاده وله شخصيًا، خصوصا أن علاقته مع زوجته كانت فاترة منذ البداية، ولم ينجب منها أو يعاشر نساءً غيرها، بل ركز كل جهده لوطنه وعظمته، فبدأ أولى خطواته الخارجية ضد كل النصائح بالاستيلاء على إقليم سيليستريا (جنوب غربي بولندا)، وهو ما دفعه لحرب مع النمسا، محركًا جيشه القوي المكون من 27 ألفًا بحركة انسيابية وسلسة، فاستطاع ضم الإقليم بأسرع مما توقع الجميع، بعدما هزم النمساويين في معركة مولويتز الشهيرة في عام 1741، ولكنها لم تكن حاسمة، فعاود النمساويون الهجوم على الأراضي البروسية، ولكنه استطاع صدهم في سلسلة من المعارك الممتدة، حتى استسلمت النمسا لقدرها، وتنازلت عن إقليم سليسيا تمامًا لصالح بروسيا، خاصة أنها كانت منهمكة في جبهات أخرى.
لم تكن هذه الحملات دون تكلفتها على الخزانة البروسية، ولكن الرجل رأى ضرورة تأمين بلاده خارجيًا بضم أقاليم غنية تضيف لقوة بروسيا، وقد انتهز فريديريك الفرصة، من أجل العمل على دعم الجيش والإصلاحات الداخلية في بلاده، كما بدأ في بناء قصر «سان سوسيه» الشهير في مدينة بوتسدام على الطراز المعماري الفرنسي، وكان هذا مقره لسنوات طويلة، حيث وجد السلام والصفاء الداخلي الذي سمح له بتطوير قدراته الموسيقية والعسكرية والإدارية لصالح البلاد، ولكن السياسة الخارجية دفعته مرة أخرى إلى الحرب في عام 1756، عندما تحالف مع إنجلترا، وهو ما فتح الباب أمام سلسلة من الحروب الممتدة ضد بلاده من قبل فرنسا والنمسا وروسيا، التي عرفت بـ«حرب السنوات السبع»، وبدلاً من استخدام الدبلوماسية والحنكة السياسية، فإنه قرر مواجهة الدول الثلاث في حركة مشابهة لما لجأ إليها نابليون بونابرت بعد ذلك في عام 1805 ضد النمسا وبروسيا.
واقع الأمر أن قوات فريدريك لم تكن كبيرة، وإمكانياته لا تقارن بالتحالف، ولكنه حرك جيوشه بسرعة مذهلة معتمدًا على قوة المشاة، التي كان يشرف على تدريباتها بنفسه ويدرك قدراتها الواسعة في ساحة القتال، وقد بدأ الرجل بالاستيلاء على سكسونيا مرة أخرى، واشتبك مع القوات النمساوية في معركة «كولين»، التي خسرها تكتيكيًا، ولكنه تعلم منها الكثير، بالتالي عندما اندلعت معركة روسباخ الشهيرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1757، فإن الرجل استطاع أن يطبق تكتيكات عسكرية جعلته الجنرال الأول في أوروبا، فهزم القوات الفرنسية التي تفوقه في العدد والعتاد، وأعقب ذلك معركة أخرى معروفة باسم لاوتن جلبت له المجد في كل أوروبا عندما استطاع هزيمة النمساويين هزيمة نكراء.
ورغم هذين الانتصارين الحاسمين، فإن الحرب الضروس استمرت بلا هوادة، فاتسع مسرح العمليات، فأصبح واسعًا للغاية وممتدًا زمنيًا وجغرافيًا، وهو ما اضطره للتنقل بجيشه من الغرب إلى الشرق لمواجهة المارد الروسي على الأبواب، الذي كان يأمل في التلاحم مع الجيوش الفرنسية لدخول برلين، وهو ما كان الرجل يسعى لمنعه بأي وسيلة، مما أدخله في معركة دامية للغاية والمعروفة باسم زاندورف، التي راح ضحيتها الآلاف، ولكنها استطاعت وقف الزحف الروسي وقطعت الطريق أمام التلاحم مع الجيوش الفرنسية، ولكنها استنزفت الجيش البروسي، فكان وضع فريدريك حرجًا للغايةً خلال السنوات الثلاث التالية إلى أن تدخل القدر مرة أخرى عندما ماتت الإمبراطورة الروسية إليزابيث، فورث العرش الروسي بطرس، الذي كان شديد الإعجاب بفريدريك العظيم، مما دفعه لوقف الحرب والانسحاب منها بعد توقيع السلام مع بروسيا، وهو ما أنقذ فريديريك بكل تأكيد، وهنا لعب القدر دوره مرة أخرى في صناعة العظماء والدول العظيمة.
وقد استغل هذا الملك الموهوب فترة السنوات الثلاث والعشرين السلمية التي أتت بعد هذه الحرب لتحريك الدبلوماسية والتحالفات لإضافة المزيد من القوة لبلاده، وواقع الأمر أنه استطاع أن يضم بالسلم أراضي أكثر مما ضمها بالحروب، وعلى الرغم من أنه كان صاحب المقولة الحربية الشهيرة «إن الشخص الذي يسعى للدفاع عن كل شيء لن يستطيع الدفاع عن أي شيء»، فإنه في مجمل حياته تناقض تمامًا مع هذه المقولة، فلقد استطاع هذا الشخص أن يدافع عن كل أفكاره وأهدافه مستغلاً ربع قرن من السلم لوضع اللبنة السياسية والإدارية والثقافية والمعمارية والفكرية والقانونية لبروسيا، التي جعلت منها الدولة العظمى التي كان الرجل ينشدها، ولعل من أعظم إنجازاته كان توحيد القوانين في البلاد ووضع الجميع تحت طائلته، ومع ذلك فإن صيته في أوروبا ظل مرتبطًا بإنجازاته وابتكاراته العسكرية، ولهذا حديث آخر.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.