الحياة في الموصل جحيم، وبعيدا عنها هي كذلك أيضا. هذا هو حال أهلها، فإذا كان من بقي داخل المدينة بعد سيطرة «داعش» عليها في مثل هذا اليوم قبل سنة يحسد من أفلت من حكم التنظيم المتطرف، فإن حلم الذين يعيشون في مخيمات النزوح وأمضوا فيها حتى الآن صيفا وشتاء ومقبلون على صيفهم الثاني فيها هو أن يعودوا إلى مدينتهم.
في الحلقة الثالثة والأخيرة اليوم من تغطيتها لذكرى هجوم «داعش» تتناول «الشرق الأوسط» هذه الهموم كما يرويها نازحون، بمن فيهم مسؤولون، وآخرون داخل الموصل. روايات تعكس حالة من الإحباط بعد أن طال انتظار أهل المدينة لتحريرها.
في الوقت نفسه، تبقى تهمة المسؤولية عن سقوط المدينة «مقيدة ضد مجهول»، رسميا على الأقل، إذ إن ثلاثة من كبار القادة العسكريين والأمنيين الذين كانوا في الموصل وقت سقوطها، وكانوا أول من هربوا مع تقدم مسلحي التنظيم المتطرف نحوها، لا يزالون من غير محاسبة حتى بعد مضي عام على ذلك الانهيار الأمني المريب.
حمّل مجلس محافظة نينوى الحكومة الاتحادية مسؤولية تأخر عملية تحرير الموصل، بعد مرور عام على سقوطها بيد تنظيم داعش، مؤكدا أن بقاء الموصل تحت سيطرة التنظيم لمدة عام كامل لم يكن في الحسبان، مشددا على أنه لن يسمح بتأخير هذه العملية أكثر من ذلك.
وقال رئيس مجلس محافظة نينوى، بشار كيكي، لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن في الحسبان أن تبقى الموصل تحت سيطرة (داعش) كل هذا الوقت، لذا يجب الوقوف عن هذا الموضوع، ومعرفة الأسباب، والتحرك بسرعة». وتابع: «حاليا هناك مليون نازح موصلي جراء هذه الأوضاع، وأكثر من مليوني مواطن آخر محاصرين داخل الموصل يعانون من أسوأ الظروف، والآن يجب الإسراع في عملية تحرير هذه المحافظة وتحديد ساعة الصفر، ولن نقبل بالتأخير أكثر مما نحن عليه الآن، وهذا من مسؤولية الحكومة الاتحادية بالدرجة الأولى ومن مسؤولية الجهد الدولي أيضا، وعلى كل الأطراف المهتمة بموضوع (داعش) والموصل أن تتدارك الأمور وتستعجل في تحرير المحافظة»، مشددا على أن «الجهود التي بذلتها بغداد متواضعة جدا». وتساءل كيكي: «مرور عام على بقاء (داعش) في الموصل، هل يعني أننا بدأنا نقبل بسلطة (داعش)؟ وما مدى جدية الحكومة الاتحادية في تحرير المدينة؟».
وأضاف كيكي: «تنظيم داعش بدأ بفرض سلطة الأمر الواقع على سكان الموصل، فأصبحوا مسلوبي الإرادة ومغلوبين على أمرهم، ولا يمكنهم مواجهة التنظيم الذي استولى على كل أسلحة الجيش العراقي في الموصل، وله امتداد جيد نحو الأراضي السورية، ويمارس أنواع القتل والتعذيب ضد المواطنين، وبات يسيطر على منافذ معينة للحصول على دعم مادي لعملياته، إذ أعاد التنظيم تشغيل عدد من معامل الموصل، بالإضافة إلى بيعه النفط من الآبار الخاضعة لسيطرته، هذا إلى جانب فرضه الهيمنة الفكرية على الشباب وتجنيد الأطفال». وحذر من أنه «كلما تأخر التحرك نحو الموصل تضاءلت آمال الموطنين بتحريرها، ومن خلال الرسائل التي تصل إلينا من الموصل، الأوضاع فيها أصبحت سيئة جدا، وتوقفت الحياة تماما، وهذا أمر في غاية الخطورة».
وعن حجم الأضرار التي لحقت بمحافظة نينوى، جراء بقائها تحت سلطة «داعش» مدة عام كامل، بيّن كيكي أن «غالبية المنشآت الحيوية تعرضت لأضرار بالغة، فتنظيم داعش فكك كثيرا من مصانع المناطق الخاضعة لسيطرته في المحافظة، وباع المكائن والمعدات الكهربائية والمواد الموجودة في هذه المصانع إلى تجار سوريين وأتراك، فالخسائر التي لحقت بالمحافظة كبيرة جدا لا يمكن حصرها برقم معين، لكن نسبة الخسائر التي لحقت بداخل مدينة الموصل حتى الآن وصلت إلى أكثر من 60 في المائة، فـ(داعش) دمر كل الآثار والمعالم التاريخية ومساجد وكنائس الموصل العريقة والمعابد التاريخية للمكونات الدينية في المحافظة. أما المناطق المحررة في المحافظة والبالغ عددها (12) وحدة إدارية من مجموع 30 وحدة، فبلغ حجم خسائرها مائة في المائة، فالبنية التحتية في هذه المناطق دمرت بالكامل، ولم يبقَ منها سوى الرماد».
وعن جهود الحكومة المحلية لإعادة بناء المناطق المحررة، قال كيكي: «خصصنا بعض الأموال بشكل بسيط ومتواضع لهذه المناطق من أجل إعادة الماء والكهرباء والخدمات البلدية، وننتظر مصادقة بغداد على الخطة التي قدمناها بناء على موازنة 2015، إذ خصص (372) مليار دينار لمحافظة نينوى، وسيتم تخصيص الأموال لهذه المناطق حسب الكثافة السكانية والحاجة إلى الإعمار، ومع هذا لن تستطيع هذه المناطق أن تحيا كما كانت في السابق»، مشيرا إلى أن غالبية هذه المناطق لا تزال مهجورة من سكانها الذين لا يعودون إليها بسبب النقص الحاد في الخدمات، وهناك عودة سكانية بنسبة 80 في المائة إلى ناحية زمار (غرب الموصل) فقط، أما في المناطق الأخرى فنسبة العودة لا تتجاوز 20 في المائة بالإضافة إلى أن بعض هذه المناطق، خصوصا الموجودة في غرب الموصل ما زالت في مرمى الصواريخ والقذائف التي يوجهها تنظيم داعش وهناك خطر على حياة المواطنين.
بدورهم، يحمل نازحو الموصل الحكومة في بغداد مسؤولية ما تعرضوا له من كارثة إنسانية وأمنية وفقدوا الأمل بما يجري اليوم من تحركات وحديث حول تحرير مدينتهم، لكنهم في الوقت ذاته ينتظرون العودة إلى بيوتهم وأملاكهم التي استولى عليها التنظيم.
ويروي عباس فاضل، أحد أفراد قوات الشرطة العراقية الذين انسحبوا من الموصل إبان سيطرة (داعش) عليها، لـ«الشرق الأوسط» قصة سقوط المدينة قائلا: «أنا كنت ضمن قوات الشرطة الموجودين في مقر قيادة شرطة محافظة نينوى، وكنت مع مجموعة أخرى من زملائي آخر من انسحب من الموصل، دون إطلاق أي رصاصة ليلة سقوطها، فأوامر الانسحاب صدرت من القيادات الأمنية العليا قبل أن يدخل (داعش) وسط المدينة، وهربت هذه القيادات وتركتنا نحن الجنود والشرطة البسطاء في مواجهة تنظيم داعش، فما كان علينا سوى أن ننسحب نحن أيضا وحدث ما حدث». وأضاف: «الآن وبعد أن مضى عام كامل على سيطرة (داعش) على الموصل، أجد من الصعب تحرير المدينة، فنفوذ التنظيم أصبح واسعا وحصل على كميات كبيرة من الأسلحة، وكان باستطاعة القوات العراقية قبل عام أن تباشر فورا بتحريرها لا أن تنتظر (داعش) ليقوي وجوده في الموصل، في الحقيقة أنا فقدت الأمل بعملية تحرير الموصل».
من جهته، قال المواطن يونس الحمداني، لـ«الشرق الأوسط»: «هروب القوات الأمنية من الموصل أثر على معنويات المواطنين، الذين وجدوا في بقائهم خطورة على حياتهم من مصير مجهول مع العلم بأننا عندما بدأنا بالهروب منتصف الليلة التي هرب فيها الجنود والقادة العسكريون من الموصل لم نشاهد في حينها أيا من مسلحي (داعش) الذين لم يكن عددهم كبيرا عندما سيطروا على المدينة في دقائق معدودة، لكن الجيش هو الذي انهار بسرعة».