الجهل بالتجربة الإسلامية

الجهل بالتجربة الإسلامية
TT

الجهل بالتجربة الإسلامية

الجهل بالتجربة الإسلامية

ما زلت منزعجًا من بعض الشطحات الفكرية الغربية الطائشة التي تدعو إلى عملية إصلاح ديني إسلامي على الغرار الغربي، فقد خرجت علينا بعض الآراء مؤخرًا تدعو إلى ضرورة اقتفاء مسيرة الإصلاح الإسلامي المنتظرة أو المرجوة، خطوات حركة الإصلاح الديني في أوروبا خلال القرن السادس عشر، بل إن البعض خص بالذكر ضرورة الاستفادة من حركة الإصلاح «الكالفينية» بالتحديد التي تناولناها منذ أسابيع قليلة في هذا الباب. وكانت فكرة أصحاب هذه الرؤية أن العالم الإسلامي سيكون أحسن حالاً لو أنه اتبع خطوات الحركة الإصلاحية نفسها أساسا للتوصل لمفاهيم الشرعية السياسية التي ستقي دول العالم الإسلامي شرورًا كثيرة عندما يتم إخراج الدين الإسلامي من المعادلة السياسية، وأن تجرى عملية إصلاح واسعة النطاق في بعض جوانبه على النحو الغربي منذ خمسة قرون مضت. وأذكر أنني تناولت في المقال نفسه خطورة مسعى بعض المفكرين الغربيين، وتهافت بعض المستغربين من العرب لمحاولة الخلط بين مسيرتي التجربة السياسية المسيحية والإسلامية، ومحاولة فرض بعض مسلمات التجربة المسيحية في الغرب على النموذج الإسلامي الحديث. ومن هذا المنطلق، فإنني أصوغ أهم النقاط التالية لمحاولة فصل التجربتين السياسيتين بشكل أكثر حسمًا: أولاً: إن نشأة المسيحية خاصة الكاثوليكية ودورها السياسي في تاريخ وسط وغرب أوروبا، تختلف تمامًا عن الإسلام ونشأته؛ فالمسيحية ولّدت قوة دفع جديدة في القارة الأوروبية من خلال استخدام الهياكل القائمة بالفعل في الإمبراطورية الرومانية الغربية حتى بعد إزهاق روحها سياسيًا، فقوة الدفع كان مصدرها الهيكل الفكري اليوناني والهيكل السياسي الروماني، فلقد بنى الباباوات هيكل الكنيسة على الهيكل الروماني تمامًا، كما أنها اقتبست من القانون الروماني وطورته وأدخلت عليه ما عُرف بـ«القانون الكنسي» Canon Law فيما بعد، الذي استقى كثيرا من أسسه من القانون الروماني. أما من الناحية الفكرية، فلقد وجدت المسيحية بيئة فكرية وروحية يونانية ساعدتها على سهولة الانتشار؛ حيث كانت بوادر مفهوم الأممية موجودًا، وتمثل في مفهوم العالمية الإنسانية كما دل عليه فكر «الرواقيين Stoics» الذين كان أبرز مفكريهم الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس الذي تناولناه أيضا في مقالة خاصة في هذا الباب. فقد رأى أصحاب هذا المذهب في الإنسانية أسرة واحدة، فدعوا إلى التقارب والأخلاقيات فيما بين أعضائها، كما دعوا للفضيلة المجردة بعيدًا عن المادية، وهي الحركة الفكرية التي كان لها أكبر الأثر في التمهيد للديانة المسيحية بروحانياتها وفتحت المجال أمام قبولها تدريجيًا.
أما التجربة الإسلامية، فكانت مختلفة تمامًا، فلقد ظهر الإسلام في مجتمع قبلي، وليس زراعيا ثابتا Sedentary كالمسيحية، كما أنه لم يكن هناك فكر أو حركة فكرية يمكن أن تدعم ظهوره أو انتشاره، فحتى مع وجود بعض المذاهب المحدودة مثل «الحنيفية»، فإنها لم تكن شائعة لدى القبائل العربية. ويضاف إلى ذلك أن الإسلام عند ظهوره لم يكن لديه أي هيكل أو قواعد قانونية يمكن أن يُبني عليها حتى مع وجود بعض الهياكل الفكرية للجاهلية التي سريعًا ما تغيرت مع الفتوحات المختلفة. بالتالي، فإن التجربة الإسلامية كانت مستقلة عن أي هيكل فكري أو سياسي قائم، على عكس المسيحية، وهو أمر جعل التجربة الإسلامية السياسية أو الفكرية فريدة ومختلفة تمامًا.
ثانيًا: أن التجربة المسيحية في أوروبا اعتمدت على المؤسسية الكنسية بشكل قاطع لأسباب مرتبطة بلب العقيدة ودور الكنيسة بوصفها أداة الاتصال بين البشر والإله، وهو الدور الذي طورته الكنيسة على مدار قرون ممتدة حتى أصبحت المؤسسة الروحية التي بيدها الغفران وإدخال المسيحي إلى الملة وإخراجه منها.. وغيرها من الحقوق؛ على رأسها حق الحرمان الكنسي، بما في ذلك على الملوك، كما أنها أصبحت وسيلة خطيرة لتقويض الأنظمة السياسية وسحب شرعيتها في حالة اختلافها معها، وهو ما أدخلها في صراع مباشر مع السلطة المدنية في دول كثيرة للغاية، وهي السمة التي اتسمت بها العلاقة المتوترة بين البابا وكنيسته من ناحية، والملوك والأمراء من ناحية أخرى.
أما التجربة الإسلامية السنية فإنها تختلف تمامًا عن مثيلتها الكاثوليكية، فبعد أن قبض الرسول عليه الصلاة والسلام، انتهى المزج الديني/ السياسي للدولة الإسلامية الذي كان قائمًا بحكم ارتباط القيادة السياسية لهذه الدولة بالرسالة السماوية، لذلك عندما بدأت دولة الخلافة الراشدة ومن بعدها دول أخرى كالأموية والعباسية، فإن المكون الديني لعب دوره في إضفاء الشرعية، وهذا لا خلاف عليه، ولكن الإدارة الدينية للدولة لم تكن موجودة أو متشابهة مع الحالة الكاثوليكية، فالدولة وقوتها السياسية كانت مصدر الدفع للعقيدة، وظلت المؤسسات السنية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدولة، ولم تكن خارجة عليها، كما أنها لم تكن آخذة شكل المؤسسية؛ بل غلب عليها طابع الفردية، وهذا اختلاف آخر عن المسيحية.
ثالثا: وارتباطًا بما سبق، فإن طريق التجربتين كان مختلفًا بطبيعة الحال، فالمؤسسية الكنسية صارت قوة سياسية بطبيعة الحال حتى ولو لم تكن تمتلك الجنود والجيوش، ولكن قوتها كانت في امتلاكها، وفقًا للمذهب الكاثوليكي، مفتاح ملكوت السماوات وتنظيم حياة البشر على الأرض، بالتالي بدأت قوتها تنضح وتقوى مع مرور الوقت، كما أن الكنيسة هي التي لعبت الدور السياسي الأساسي في إدارة أوروبا بعد سقوط روما لفترات زمنية ممتدة حتى مجيء الدولة «الكارولينجية» وتتويج شارلمان إمبراطورا رومانيًا مقدسًا عام 800 على يد البابا، وهنا بدأت البابوية تلعب دورها الديني/ السياسي المزدوج لمحاولة فرض الأممية من خلال مفهوم «إله واحد.. إمبراطور واحد» فدخلت في تحالفات متغيرة للوصول لهذا الهدف، ولكن ليس دون صراعات مباشرة مع ملوك وأمراء أدت لصدامات مسلحة بين الدولة والفاتيكان، التي غالبًا ما انتهت بفرار الباباوات أمام جبروت جيوش بعض الملوك.
أما الإسلام، فإن تجربته تختلف تمامًا، فمنذ الخلافة الراشدة، فإن السلطة السياسية استطاعت السيطرة شبه الكاملة على المنابر الدينية المتفرقة وغير المؤسسية ولم يخرج عن هذه المعادلة إلا حالات قليلة كالخوارج وفرق أخرى. وبصفة عامة، فإن المؤسسية السياسية للدولة الإسلامية ممثلة في الخليفة، كانت قابضة على كل أمور الدولة، ولم يكن هناك مصدر مؤسسي يمكن الاعتماد عليه كما كانت الحال بالنسبة للكنيسة في روما.
وإذا ما أخذنا العناصر الثلاثة المشار إليها عاليه، فإنه لن يغيب علينا أن حركة الإصلاح الديني في وسط وغرب أوروبا في القرن السادس عشر كان لها مسارها المتفرد غير القابل للتكرار، فهي حركة إصلاح كانت موجهة للهيكل المسيحي ممثلا في الكنيسة وليس في لب العقيدة، اللهم إلا بعض الاستثناءات، وعلى رأسها مسألة تحول الخبز والنبيذ إلى جسد ودم السيد المسيح فيما عرف بقضية «القربان المقدس Eucharist» حيث اختلفت التأويلات فيه بين مؤمن بحقيقة التحول، ومن يراه مجازًا للتقرب للسيد المسيح. ومن هنا، فإن هذه الحركة ممثلة أساسًا في مارتن لوثر في ألمانيا، وجون كالفين في سويسرا، إنما كان هدفها إصلاح الفساد الكنسي وكسر فكرة تكريس الخلاص الذي تركز في يد البابا وكنيسته باعتباره الوسيط بين العبد والإله. كما أن هذه الحركة كان هدفها الأساسي فتح المجال أمام العامة للتعرف على ديانتهم المسيحية من خلال الكتب المقدسة مباشرة دون الوساطة المفروضة عليهم من قبل الكنيسة التي احتكرت هذا المجال تمامًا من خلال تفاسيرها المعتمدة دون غيرها، وعدم وجود ترجمة لهذه الكتب التي كانت باللاتينية، ومن ثم لجأت قيادات حركة الإصلاح إلى إتاحة الكتب باللغات المستخدمة لدى العامة.
إن النتيجة الحتمية لكل ما سبق تدعونا لأهمية إدراك اختلاف التجربة الكاثوليكية الغربية عن الإسلامية، ومن ثم صعوبة تطبيق الفكر الإصلاحي على الإسلام لانتفاء السبب واختلاف المضمون، فالكالفينية التي طُرحت نموذجا للتدليل على الإصلاح لم تأت برؤية دينية جديدة، بل إنها ناقشت في مجملها قضايا قديمة ليست مطروحة على الساحة الإسلامية اليوم، حتى إن فكرة «كالفين» حول أن «الإنسان مسير»، ووجود «انتقاء إلهي» لمن سيتم منحهم الخلاص بشكل مسبق، تتعارض ولب العقيدة المسيحية والإسلامية على حد سواء، التي ترى أن الإنسان مسؤول عن خياراته، وأنه مخير في الأساس. وهذا الجدل الفكري حدث في الإسلام منذ أكثر من اثني عشر قرنًا من الزمان في كتابات مثل الباقلاني والحسن البصري والمعتزلة وغيرهم؛ كذلك فإن التجربة الكالفينية في أوروبا مثلت في التقدير الجيل الثاني أو الثالث لمفهوم الدولة الثيوقراطية التي أقامها «كالفين» بنفسه وأشرف عليها في جنيف، والتي تهاوت أيضا بعد موته مباشرة. ومن ثم، فإنه لا مجال لمقارنة التجربة السياسية الكالفينية مع الإسلام الحديث كما يسعى البعض لتطبيقها.
من كل ما سبق، فإننا لا نزال نشفق على أنفسنا من فكرة اقتفاء أثر الغير وتكرار تجاربه بشكل حرفي كما لو أنها فريضة فكرية وسلوكية، كما أننا نشفق أيضا على المستغربين الداعين إلى علو تجربتهم وحتمية اقتفاء أثرها يوصفها نموذجا للتقدم والتطور بلا مبرر حقيقي. وهذه قضية ترتبط في الأساس بنوع من التمترس الفكري النابع من الفكر الذاتي الغربي لدى كثير من مفكريهم، فالإسلام تجربة منفصلة وفريدة في مسارها، وهو لم يكن في أي وقت من الأوقات أداة لقمع أو وسيلة لسيطرة فئة أو مؤسسة على عباد الله، ومن ثم يتوجب احترام خصوصيته ومساره.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».