شهدت مدينة الموصل، ثاني كبرى مدن العراق وحاضرة شماله، موجة نزوح كثيف نتيجة المعارك التي حدثت في العاشر من يونيو (حزيران) 2014 عندما اقتحم المئات من مسلحي «داعش» مطار الموصل وقواعد ومعسكرات عسكرية ومقر محافظة نينوى، ما أدى انهيار الحامية العسكرية التابعة للجيش العراقي وانسحاب أفرادها شرقًا إلى إقليم كردستان العراق.
وعلى الأثر، تمكن مسلحو تنظيم داعش من السيطرة على مدينة الموصل وأغلب مدن محافظة نينوى، ومن ضمنها المنشآت الحيوية في المدينة، ومن أهمها مبنى محافظة نينوى، والمطار، ومباني القنوات التلفزيونية. وأعقب ذلك إطلاق ثلاثة آلاف سجين من سجون الموصل كانت تحتجزهم السلطات العراقية لارتكابهم جرائم مختلفة أغلبها الإرهاب. ومن ثم اجتاح مسلحو التنظيم معظم محافظة نينوى، وأطلق على المعارك التي خاضها اسم «غزوة أسد الله البيلاوي»، وأطلق على المحافظة اسم «ولاية نينوى».
وانسحبت ميليشيا البيشمركة الكردية من بلدات سنجار وزمار ووانة وربيعة بعد القتال وسيطر عليها مسلحو «داعش».
ومع بداية عام 2015 أعلن «التحالف الدولي» عن بدء شن ضربات جوية على الموصل والمناطق التي يسيطر عليها التنظيم المتطرف، بينما باشر التنظيم بهدم بعض الأضرحة والمراقد والأبنية التاريخية في مدينة الموصل وباقي مناطق سيطرته، مثل جامع النبي يونس، ومتحف الموصل، ونفذت هذه العمليات بما يتماشى مع الفكر والممارسة التكفيريين للتنظيم.
وخلال الأشهر القليلة الماضية تمكّنت «الشرق الأوسط» من دخول الموصل المحتلة التي يقطنها نصف سكان محافظة نينوى لاستجلاء ظروف معيشة أهلها وسط الخوف والترقب والحذر. وحقًا، هكذا وجدنا الهاجس المشترك لأهالي المدينة.
الحياة هنا تسير بشكل غير اعتيادي، إذ شهدت تغييرًا واضحًا في العادات وأساليب العيش والتعامل التي كان يتصف بها أهالي المدينة التي يشطرها نهر دجلة إلى نصفين يُسميان محليًا الجانب الأيمن والجانب الأيسر، ويربط بينهما 5 جسور هي حلقة التواصل بين أهالي المدينة.
عمد تنظيم داعش منذ الأيام الأولى لاحتلاله مدينة الموصل وباقي محافظة نينوى إلى شن حملة شرسة استهدفت أهالي المدينة الأصلاء من المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين، إذ استباح مسلحوه كل ممتلكات أبناء هذه الديانات الذين عاش أجدادهم في نينوى منذ آلاف السنين، وفرضوا عليهم خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما اعتناق الإسلام وإما القتل، ما دفع بكثيرين منهم إلى الهروب من المدينة وترك كل ما يمتلك هربًا من بطش المسلحين. كذلك فرض التنظيم سيطرته على بلدة قره قوش، كبرى البلدات المسيحية في محافظة نينوى، ونزح عشرات الآلاف من سكان البلدات المجاورة الأخرى إلى محافظة أربيل، إحدى محافظات إقليم كردستان. غير أن غالبية سكان مدينة الموصل بقيت في المدينة وعاشت اضطراريًا تحت سطوة «داعش» لتعذّر إيجاد بدائل كمعسكرات لجوء، أو قدرتهم ماليًا على استئجار مساكن لهم في محافظات كردستان أو في العاصمة العراقية بغداد.
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية يوسف توما قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «مدن تلكيف وقره قوش وبرطلة وكرمليس خلت بشكل نهائي من سكانها المسيحيين وأصبحت تحت سيطرة (داعش)». وأضاف: «الآلاف من نازحي هذه المناطق كانوا قد فروا من موت محقق وسلكوا طرق كادت تودي بحياة الكثيرين منهم في رحلات مضنية عبر الجبال وصولاً إلى نقطة التفتيش في أربيل للدخول إليها سيرًا على الأقدام».
وكما هو معروف، وثق الإعلام العالمي ارتكاب «داعش» سلسلة من الجرائم بحق الإيزيديين في قرى منطقة سنجار، ومنها سبي النساء وبيعهن في سوق النخاسة، ناهيك بقتل الكثير من أبناء هذه الديانة الذين تناثروا وحوصروا على جبل سنجار لمدة أيام طوال قبل إنقاذهم من حصار المسلحين.
وبالإضافة إلى استهداف الأقليات الدينية بالاضطهاد والتشريد، شرع التنظيم في حملة لتدمير المعالم التاريخية والرموز الدينية والكنائس ودور العبادة الأخرى. ومما قاله نايف الشمري، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة الموصل لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء معه: «لقد اعتاد الإرهاب على هدم مثل هذه الأماكن على رغم رمزيتها الدينية وقيمتها التاريخية، إذ يتبع أفراد هذه التنظيمات تعليمات منظّرين ودعاة يسوقون لفكر تكفيري، يعد هدم هذه الأبنية واجبًا دينيًا لأنها من رموز (الشرك)».
وأضاف الشمري: «الموصل مدينة تاريخية تضم العشرات من مقامات ومراقد الأنبياء والأولياء الصالحين، ما يعرّض إرثها التاريخي إلى الخطر في ظل سيطرة الجماعات الإرهابية على شؤونها. وقد شرع المجرمون في هدم وسرقة تاريخ العراق بعد تحطيم مدينة الحضر التاريخية ونهب ما تحتويه من كنوز وآثار امتدت لآلاف السنين. وكذلك نبشوا قبور الصحابة والأولياء تحت المنارة الحدباء، وفجّروا جامع علي الهادي ومقام النبي يونس، كما فجروا مرقد النبي شيت ومقام النبي دانيال ومقام الإمام يحيى أبو القاسم الأثري في سلسلة جرائم دانتها كل دول العالم».
كان الإجراء الأول بعد دخول مسلحي «داعش» إلى مدينة الموصل هو فتح مراكز للبراءة والتوبة داخل مساجد المدينة مسؤولة عن إعطاء فترة عفو لمدة ثلاثة أيام يعلن فيها الأهالي براءتهم من الحكومة العراقية، وإعلان توبتهم وإعطاء الولاء والطاعة للتنظيم بإشراف قضاة ضمن المحاكم الشرعية التي شكلها التنظيم.
وألزم الجميع بالصلاة الإجبارية في المساجد، باستثناء المرضى والمقعدين، ومنع منعًا باتًا البيع والمتاجرة وشرب السجائر. كذلك ألزم النساء ابتداءً من سنّ سبع سنوات فما فوق بارتداء النقاب والعباءة، وفرض عقوبة الجلد أمام الناس بثمانين جلدة لكل من يسيء للتنظيم أو يتلفظ بكلمة «داعش».
المشهد داخل مدن محافظة نينوى، وخصوصًا الموصل مربك ومرعب، حيث الانتشار الواضح للمسلحين وأصوات طلعات جوية مكثفة لطائرات «التحالف الدولي» وشح المواد الغذائية والطبية، وانعدام التيار الكهربائي، وغلاء الأسعار، وانقطاع مياه الشرب، وإغلاق منافذ الدخول والخروج للمدينة خوفا من هروب العوائل التي فرض مسلحو «داعش» عليهم البقاء داخل منازلها، وخصوصًا، شريحة الشباب الذين هم فوق الـ18 سنة خشية انضمامهم مع صفوف المتطوعين مع العشائر العراقية لمحاربة التنظيم.
وفي المقابل، يقوم «داعش» بحملات إجبارية واختيارية لكسب الشباب الموصلي للانخراط في صفوفه عن طريق المغريات، ومنها المال وأشياء أخرى.
النساء منتقبات ويرتدين عباءات سوداء تغطي الجسد بشكل كامل، وبعض الشباب يرتدي الزي الأفغاني الذي راجت عملية بيعه والإقبال على شرائه وارتدائه من قبل الشباب، ربما خوفًا من المسلحين بداعي إرضائهم.
تقول أم يونس (53 سنة) وهي موظفة في دائرة التقاعد: «الخوف على أولادي ومصيرهم المجهول هو ما أعانيه منذ سنوات، فبعدما كنت قلقة عليهم من الاحتقان الطائفي الذي شهدته مدن العراق بعد 2003 وحملات الدهم والاعتقالات التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية للحكومة.. جاء دور مسلحي (داعش) والرعب اليومي الذي نعيشه. حالنا لا يسر عدوًا ولا صديقًا. كنا نقرأ في الزمان الماضي عن حصار الموصل التاريخي، وها نحن اليوم يحاصرنا الرعب والموت والجوع والحاجة.. أدوات الطبخ أصبحت نار الأخشاب والمواقد النفطية (الجولة) و(البريموز)، (وتقصد بهما آلتين تعملان بمادة النفط، وكانتا تستخدمان للطبخ قبل وجود الطباخ الغازي والكهربائي)».
وتضيف «أم يونس»: «كنا خلال الشتاء الماضي نجمع مياه الأمطار لأغراض الشرب وعمل الطبخ، ونصفّيها عن طريق قطعة قماش ثم غلي الماء؛ لكون المياه مقطوعة عنا منذ شهور.. الواقع المرير الذي نعيشه مؤلم جدًا. نحن أناس مسالمون نحب السلام ونصنع السلام، وكنا متعايشين مع الكل بمختلف الديانات والقوميات والمذاهب».
أما عمران (20 سنة)، وهو طالب في كلية الهندسة بجامعة الموصل فيقول: «لم أتمكن من الخروج لأداء الامتحانات النهائية التي أعلنت عنها الحكومة المركزية في مناطق إقليم كردستان بعدما قررت الحكومة عدم اعتماد الدراسة في المناطق المسيطر عليها من قبل تنظيم داعش.. ولقد تركت دراستي الجامعية رغم سماعي بأن هناك بعض الكليات فتحت أبوابها للدراسة تحت سيطرة المسلحين. عائلتي تمنعني من الخروج من المنزل، فأصبحت أعيش في حصار داخل حصار.
«أم الربيعين».. تحت سلطة التطرّف
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لاحتلال الموصل
«أم الربيعين».. تحت سلطة التطرّف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة