توظيف إيران اللغة في استراتيجيتها الإعلامية.. داخليًا وخارجيًا

استغلال مصلحي مدروس للهوية الفارسية والفئوية الإسلامية

توظيف إيران اللغة في استراتيجيتها الإعلامية.. داخليًا وخارجيًا
TT

توظيف إيران اللغة في استراتيجيتها الإعلامية.. داخليًا وخارجيًا

توظيف إيران اللغة في استراتيجيتها الإعلامية.. داخليًا وخارجيًا

الإعلام أحد الركائز المهمة التي تعتمد عليها الدول في تنفيذ سياساتها. وشهد العالم في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي تطوّرات سياسية كبيرة؛ مما دفع الحكومات للجوء إلى مختلف الوسائل الإعلامية من أجل تحقيق غاياتها والترويج لآيديولوجيتها، تزامنًا مع نقلات نوعية في التكنولوجيا سهلت من توسيع النشاط الإعلامي. وتأسيسًا على ذلك، تنطلق استراتيجية دولة ما من وضع خطط يلعب الإعلام دورًا ملموسًا فيها، لما للإعلام من دور حاسم في تكوين المعرفة، إلا أن خطورته تتمثل في إمكانية توظيف المعرفة لخدمة سلطة ما، وتبليغ هذه المعرفة عن طريق التأثير والإغراء لـ«قولبة» رأي المتلقي و«برمجة» سلوكه. وفي ما يلي عرض تحليلي لاستراتيجية الإعلام السياسي في إيران.
يلاحظ متابع وسائل الإعلام في إيران توظيف النظام الإيراني استراتيجية دعائية مدروسة لنقل رسالته على الساحتين الداخلية والخارجية، تتميّز بتوظيف اللغة وانتقاء مصطلحات وعبارات معينة تخدم هذه الاستراتيجية. وكما أسلفنا، يلعب الإعلام دورًا بالغ الأهمية في سياسات الدول واستراتيجياتها. وحين تكون هذه السلطة ذات طابع آيديولوجي، فإنها تسعى إلى تعزيز هذا الأمر سواء أكان داخليًا أم خارجيًا.
هذا ما عرفه العالم مع الأنظمة الشيوعية حيث غُلفت الاعتبارات المصلحية بالنواحي الآيديولوجية، وظهر هذا على السياسة الخارجية، كما غدا من مقوّمات الدعاية الداخلية خلق «عملية توفيقية» جمعت الأبعاد الآيديولوجية والنواحي القومية. ومن ثم غدا «تسويق» هذه الآيديولوجية والتبشير بها مرتكزًا لدى السلطة القائم فكرها ومنطلقها عليها، بيد أن هذا الأمر لا يتحقق بصورة آنية، بل يحتاج إلى خطة تستمر إلى فترة من الزمن يُحقق التكرار فيها الهدف المنشود. وعليه، عند الحديث عن الدعاية يصبح تكرار الرسالة الموجهة وتكثيفها أمرًا مهمًا جدًا، فمع تكرار مرتكزات المنطق الدعائي، تتسرّب الرسالة الإقناعية حتى وإن كانت مضلِّلة.
الدعاية، إذًا، هي أداة للإقناع السياسي والآيديولوجي، يتجلّى خطرها في تشويه اللغة الإعلامية القولية وفرض رأي معين على المتلقي تحت غطاء الأخبار، فتتحوّل بذلك وسائل الإعلام من مؤسسات إخبار مساعدة على تكوين الرأي العام إلى مؤسسات دعائية. ويأتي الإعلام السياسي - ومن ورائه الخطاب السياسي - ليكون الأداة الفاعلة في تلك الدعاية التي تسوق بدورها لتلك الآيديولوجية والرسائل المراد توصيلها.
الشخصية السياسية الإيرانية.. إرثًا وممارسة
تنطلق الشخصية السياسية الإيرانية في نظرتها إلى المنطقة والعالم من موروثها التاريخي والثقافي وكذلك المذهبي. وتتناوب هذه المرتكزات لدى تلك الشخصية في طرحها، بل ويأتي المرتكز ذاته ليُطرح بشكل ومضمون قد يكونا مغايرين في بعض الأحيان عن ذلك الطرح تبعًا للسياق الزمني والمكاني. مثلاً يطرح الحديث الحضارة الفارسية ويوجه للمنطقة، وتحديدًا دول الخليج، بوصفها «الحضارة المسيطرة» المؤثرة، كما تجلى عبر تصريحات الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، في حين جاءت الحضارة الفارسية فيما يُعرف بـ«حوار الحضارات» ضمن طرح الرئيس الأسبق محمد خاتمي بوصفها إحدى الحضارات الكفيلة بتحقيق ذلك الحوار، إلى جانب الحضارتين الرومانية والفرعونية.
الحقيقة، إن متابع الشأن الإيراني يلاحظ وجود قواسم مشتركة للشخصية الإيرانية على اختلاف تباينها الفكري وميولها السياسية. فمسألة العمق التاريخي والتأثير الإيراني ونفوذه في المنطقة، أمرٌ متأصل في هذه الشخصية، يبقى الفرق في مسألة نقل هذا الأمر إلى حيّزه العملي ونوعية الأدوات المتاحة لتنفيذ ذلك.
هذا الأمر كان له تأثيره على الإعلام والخطاب السياسي في إيران، فبينما ارتبطت الدولة البهلوية (1925 - 1979) بعلاقات دبلوماسية قوية مع الولايات المتحدة ولاحقًا إسرائيل، تغيّر الأمر تمامًا بعد سقوطه وظهور نظام «الجمهورية الإسلامية». وتحول تلك العلاقات من الود إلى المواجهة، انعكس بوضوح في الإعلام والخطاب السياسي، فظهرت عبارات من قبيل «الشيطان الأكبر» (شيطان بزرگ) في وصف الولايات المتحدة وتوجّهاتها حيال إيران.
ولما كان للآيديولوجيا أثرها في تحليل الخطاب السياسي، يلاحَظ تأثير آيديولوجية التيار الديني الحاكم في إيران على الخطاب السياسي والإعلام. ومن ثم، جاء التوجّه الديني المرتكِز على المذهب الشيعي الإثني عشري آيديولوجية مضافة إلى الخطاب السياسي، وسار توظيف اللغة في الاستراتيجية الإعلامية نابعًا من «جمع» الموروث الثقافي والتاريخي إلى الآيديولوجية الدينية.
وفيما يلي نماذج للاستراتيجية الإعلامية الإيرانية وتوظيفها اللغة من خلال المحاور التالية:
أولاً، داخليًا: كانت التيارات الدينية والليبرالية واليسارية القوى الرئيسية التي أسهمت في نجاح ثورة عام 1979 ضد الشاه. ولكن لما كان التيار الديني بزعامة آية الله الخميني هو التيار الأقوى، فإنه أراد السير قُدمًا نحو تحقيق الهيمنة عبر فرض آيديولوجيته على النظام الجديد بإزاحة التيارين الآخرين وآيديولوجيتيهما. وهنا تجلّى استخدام مصطلح «إسلامي» في مختلف النواحي سعيًا إلى تأصيل الآيديولوجيا التي يستند عليها هذا التيار، وبدأ تسويق الثورة باعتبارها «ثورة إسلامية» (انقلاب إسلامي). يقول في ذلك آية الله الخميني: «لقد فجّرنا الثورة من أجل الإسلام لا من أجل القومية أو الديمقراطية، وراح شهداؤنا فداءً للإسلام ولا لشيء غيره».
إن المتمعّن بمسمى «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» (جمهوري إسلامي إيران) للنظام البديل للشاه يدرك أن إضفاء صفة «إسلامي» على شكل النظام الجمهوري، يأتي من منطلق سعي التيار الديني لمنع صعود التيارين؛ الليبرالي واليساري، وتغييبهما. وما أن أعلن النظام البديل حتى بدأ مصطلح «إسلامي» ينتشر ليشمل كثيرًا من المؤسسات بعد تأصيل نظام «الجمهورية الإسلامية» في الدستور. فبعدما كان يطلق على البرلمان الإيراني مسمى «المجلس الوطني» (مجلس ملي) بات يعرف بـ«مجلس الشورى الإسلامي» (مجلس شوراي إسلامي). وانتقل هذا الأمر ليلامس الجانب الثقافي أيضًا؛ إذ بعدما استتب الأمر للتيار الديني وأحكم سيطرته على مؤسسات الدولة، واجه معاقل التيارين؛ الليبرالي واليساري، في الجامعات. فوظّف الثورة ضد الشاه ليستخدم مصطلح «الثورة» (انقلاب) كذلك في الجامعات، انطلاقًا من أن ما يدور في الجامعات الإيرانية عبارة عن تغريب (غرب زدگی) بمعنى الميل للأفكار الغربية التي تأتي بالتالي مناهضة لـ«الجمهورية الإسلامية». لذا أطلق النظام الجديد ما عُرف بـ«الثورة الثقافية» (انقلاب فرﻫﻨﮕﻰ) بعدما رأى الخميني وجوب أن «تكون الثورة الإسلامية في سائر الجامعات الإيرانية، لتصفية الأساتذة ذوي الميول الشرقية (الفكر اليساري) والميول الغربية (الفكر الليبرالي)، وتكون الجامعة بيئة سليمة لتدريس العلوم الإسلامية». ثم بعد الاضطرابات التي صاحبت نتائج انتخابات الرئاسة العاشرة التي أُعيد فيها انتخاب أحمدي نجاد، أمر المرشد آية الله علي خامنئي بإعادة النظر في مناهج التدريس في كليات العلوم الإنسانية مطالبًا بأن تتماشى والتوجهات الإسلامية، وهو ما عُرف اصطلاحًا بـ«الثورة الثقافية الثالثة» (انقلاب فرﻫﻨﮕﻰ سوم).
أهمية الإعلام ودوره تجلّيا أيضًا عبر ربط هيئة الإذاعة والتلفزيون مباشرةً بالمرشد وصلاحياته؛ إذ حدّدت المادة 110 حول وظائف المرشد وصلاحياته بأن من صلاحياته تعيين رئيس الهيئة وعزله وقبول استقالته. أضف إلى ذلك ظهور كثير من وسائل الإعلام التابعة للنظام، فبالإضافة إلى «وكالة الأنباء الإيرانية» (إرنا) ظهر كثير من الصحف - مثل صحيفة «جمهوري إسلامي» - ووكالات أنباء ومواقع إلكترونية كلها تُعد لسان حال النظام ومؤسّساته.
وبين الأمثلة التي سوقتها وسائل الإعلام التابعة للنظام الإيراني ولا تزال، مصطلح «المنافقين» و«المفسدين في الأرض». فما أن أطلق الخميني على «منظمة مجاهدي خلق» (سازمان مجاهدين خلق) مصطلح «زمرة المنافقين» متّهمًا إياهم بأنهم يَدّعُون بأنهم مسلمون لكنهم في حقيقة الأمر يعملون ضد الإسلام حتى بدأ مسؤولو النظام ترديد هذا المصطلح واستخدامه في وسائل الإعلام. وهو ما أتاح تصفية عناصر هذه المنظمة وإلغاءهم من الساحة السياسية باعتبارهم «مفسدين في الأرض». واستمر استخدام هذا المصطلح، إلا أنه لا يقتصر اليوم على «مجاهدي خلق»، بل تعدّاها ليصل حتى إلى من كانوا من وجوه النظام وتقلدوا مناصب مهمة فيه. فبعد الأحداث التي صاحبت إعادة انتخاب أحمدي نجاد لدورة رئاسية ثانية، اندلعت موجة احتجاجات رافضة النتائج بقيادة المرشحَين الآخرين: مير حسين موسوي الذي كان رئيسًا للوزراء فترة الثمانينات، ومهدي كروبي الذي شغل منصب رئيس البرلمان في دورته السادسة. فردّت السلطات أمنيًا للقضاء على الاحتجاجات، وصاحبها وصف ما حدث بـ«فتنة»، واعتبار موسوي وكروبي «رؤوس الفتنة»، وبالتالي نزع مشروعية الاحتجاجات التي وصفت بأنها «تآمر لقلب النظام». وهكذا، عاد مصطلح «المنافقين» وتزامن معه مصطلحات من قبيل «فتنة 88» أي الفتنة التي وقعت أحداثها عام 1388 هجري شمسي (الموافق 2013) بعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد وصار يُطلق على من شارك في تلك الاحتجاجات «أصحاب الفتنة» (فتنه ﮔران) واعتبارهم خارج دائرة النظام.
أيضًا، يمكن الإشارة إلى بعض المصطلحات ذات البعد الديني مثل «الجهاد»؛ إذ أطلق على وزارة الزراعة مسمى «وزارة الجهاد الزراعي» (وزارت جهاد كشاورزي) ووزارة التعمير «وزارة جهاد التعمير/ أو البناء» (وزارت جهاد سازندگى). كما بات مصطلح «الاقتصاد المقاوم» (اقتصاد مقاومتي) أحد المصطلحات المهمة في الاستراتيجية الإعلامية الإيرانية. وبعد فرض العقوبات تلو الأخرى على النظام الإيراني نتيجة برنامجه النووي وملف حقوق الإنسان وبرنامجه الصاروخي وغيره، طرح النظام مصطلح «الاقتصاد المقاوم» بوصفه الأداة القوية في مواجهة تلك العقوبات، الذي قال عنه عباس قائد رحمت، عضو اللجنة الاجتماعية في البرلمان، إنه «الطريق للخروج من العقوبات الظالمة».
ثانيًا: الإقليمي: تتضح التوجهات الطائفية والقومية لنظام طهران بصورة أوضح على مستوى الاستراتيجية الإعلامية الإقليمية. ولقراءة الخطاب السياسي وتوظيف اللغة في هذا المحور، ينبغي بدايةً قراءة المنظور الإيراني للمنطقة الذي ينطلق من أن إيران هي «القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة»، وهو ما يجعل النظام يطرح على الدوام فكرة الأمن الجماعي الذي يجب أن يكون رهنًا بالدول المطلة على الخليج.
هناك كثير من التصريحات سواءً العسكرية أو السياسية التي تشير إلى أن إيران هي «القوة الكبرى في منطقة الخليج»، وبالتالي ضرورة مشاركتها، بل وقيادتها، في أي ترتيبات أمنية للمنطقة. هذه النظرة لا تخلو من الاستعلاء واستحضار تاريخ الإمبراطورية الفارسية، وما كان تصريح يحيى رحيم صفوي، مستشار المرشد للشؤون العسكرية وقائد الحرس الثوري السابق، حين قال إن «نفوذ إيران قد تجاوز العراق وسوريا لتصل حدود إيران إلى البحر المتوسط وهذه هي المرة الثالثة التي نصل له»، إلا تأكيدًا لهذا الأمر.
ولدى استعراض بعض الأمثلة لتوظيف اللغة، فأول ما يلفت هو الإصرار على إطلاق مسمى «الخليج الفارسي» (خليج فارس) على الخليج العربي لما له من اعتبارات مهمة جدًا عند الشخصية الإيرانية. ولا يتوقف الأمر عند هذا المسمى، بل يأتي في إطار رؤية منطقة الخليج بأسرها؛ إذ صرّح الرئيس السابق أحمدي نجاد خلال زيارته لسواحل جنوب إيران، بأنه من الطبيعي أن يكون لـ«الحضارة المسيطرة – يقصد بها الحضارة الإيرانية – تأثير حتى على الأسماء التي تطلق على الأماكن، وأن هذا التأثير لم تقتصر حدوده على المنطقة فحسب، بل وصل حتى شبه القارة الهندية». هذا الأمر يجعل الإعلام الإيراني يتصدّى بقوة لأي محاولة يعتبرها من منظوره تحريفًا لاسم الخليج، وبلغ حد منع طهران شركات طيران العمل معها في حال استخدمت مسمى غير مسمى «الخليج الفارسي». ومما قاله حبيب الله سياري، قائد القوات البحرية التابعة للجيش النظامي: «الخليج فارسي على الدوام وسيظل كذلك للأبد»، وهو ما أكد عليه أيضًا حجة الإسلام محمود علوي، وزير المخابرات، بقوله إن «الخليج الفارسي للجميع وسيظل فارسي إلى الأبد. وسيكون رد شعبنا على المتخرّصين ساحقًا». وهكذا، فمسمى «الخليج الفارسي»، بالتالي، أبعد من مجرد تسمية، بل تمسّ الحضور والنفوذ الإيراني في المنطقة.
الإعلام الإيراني الرسمي دأب أيضًا على استخدام لفظ «أعراب» بدلاً من «عرب» في وصفه لدول الخليج العربي في كثير من المناسبات، وهو ملحوظ، خصوصًا مع تزايد الضغوط على النظام الإيراني. فلقد جاء الموقع الإلكتروني «إيران دبلوماسي» بالعنوان التالي: «أعراب الخليج الفارسي يرحبون بالاتفاق الأميركي الإيراني». إن دلالة لفظ «أعراب» تأتي من مُنطَلقين سلبيين متّصلين بالنظرة الاستعلائية للشخصية الإيرانية (بما فيها استدعاء التاريخ الإمبراطوري الفارسي): الأول، اعتبار شعوب هذه الدول سكان بادية غير متحضّرين، والثاني من الآية القرآنية «الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا».
وفي العنوان التالي استعاضت «وكالة أنباء مهر» الإيرانية عن مسمى «دول الخليج العربي» بـ«أعراب الخليج الفارسي» في خبر «الصين ترفع مستوى العلاقات الاقتصادية مع أعراب الخليج الفارسي وإسرائيل». وفي عنوان آخر لـ«إرنا» أوردت: «الاتحاد الأوروبي يطالب تشكيل ائتلاف ضد الإرهاب مع الأعراب» ويلاحظ أن السياق الزمني والظرفي المتمثل في الإحجام عن دعوة إيران للمشاركة في التحالف الدولي، وخشية طهران النتيجة النهائية لهذا التحالف الذي من شأنه التأثير على الحليف الاستراتيجي لها في المنطقة (أي النظام السوري الحالي) لها تأثيرها وإسقاطاتها على ذلك العنوان باعتبار أن دول الخليج من المنظور الإيراني هي من عارضت مشاركة إيران في هذا التحالف.
ومن المصطلحات الأخرى التي تؤكد مواصلة النظام الإيراني وإعلامه توجهاتهما السلبية، مسمى «المشيخة» (شيخ نشين) وهو مصطلح كان يُطلق قبل استقلال دول الخليج وظهورها كدول مُعترف بها دوليًا. غير أن الإعلام الإيراني يواصل استحضار مثل هذه المصطلحات للتقليل من شأن هذه الدول وأنظمتها التي تصفها طهران أحيانًا بـ«الأنظمة الرجعية». كما تظهر مصطلحات أخرى كـ«النظام الخليفي» (نظام خليفي) نسبة لعائلة «آل خليفة» الحاكمة في مملكة البحرين التي يزعم إعلام طهران أن حكمها لا يمثل الشعب بل العائلة فقط. ويواصل هذا الإعلام «لغويًا: محاولاته نزع الشرعية عن الحكم البحريني، فعوضًا عن تسمية «قوات الأمن والشرطة لمملكة البحرين» يستخدم «ضباط أمن آل خليفة» (افسران امنيتي آل خليفه). وتعنون «مهر» أيضًا «آخر خطوات كيان آل خليفة ضد العلماء والزعماء الدينيين البحرينيين» (جديد ترين اقدامات رژیم آل خلیفة علیه علماء ورهبران ديني بحرين)، وكذلك «قوات الكيان البحريني» (نيروهاي رژیم بحرين) (قوى الكيان البحريني). ونلاحظ هنا استخدامه مصطلح «كيان» (رژیم) بدلاً من نظام، وهو مصطلح ما فتئ النظام الإيراني يستخدمه للدلالة على رفضه الاعتراف بالنظام القائم مثل «الكيان الإسرائيلي» (رژیم صهیونیستی)، وكذلك «الكيان الحاكم على مصر» (رژیم حاكم بر مصر)، وكذلك «كيان مبارك» (رژیم مبارك). ولعل في الموقف الإيراني من مملكة البحرين واستمرار تدخلات طهران في شؤونها، وادعاءات علي ناطق نوري، مدير التفتيش في مكتب المرشد الإيراني ورئيس البرلمان الأسبق، أن البحرين هي «المحافظة الرابعة عشر لإيران»، مما يوضح سبب إصرار إعلام طهران على استخدام هذا المسمى.
ما سبق دفع وسائل الإعلام والمسؤولين في إيران إلى وصف وجود قوات «درع الجزيرة» في البحرين «احتلالاً» (اشغال).
ويتجلّى على المستوى الإقليمي، كذلك، مصطلح «الصحوة الإسلامية» (پیداری إسلامی) وهو المسمى البديل لما يُعرف بـ«ثورات الربيع العربي» لدى نظام طهران الذي ربط تلك الثورات بالثورة الإيرانية عام 1979، واعتباره أنها استلهمت فكرها من الخميني. وفي هذا المجال، يقول وزير الخارجية السابق علي أكبر صالحي «طريق الإمام الخميني نموذج للصحوة الإسلامية». هذا الواقع حمل نظام طهران على السير قدمًا نحو تعزيز علاقاته مع الدول التي قامت فيها تلك الثورات. ومن ثم، عقد النظام كثيرًا من المؤتمرات حول ما يطلق عليه بـ«الصحوة الإسلامية»، وأسّس في إيران «مجمع الصحوة الإسلامية» وتولّى علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد في الشؤون السياسية والدولية ورئيس مركز البحوث الاستراتيجية التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام، منصب الأمين العام. ويصار خلال مؤتمرات «المجمع» تناول تأثير الثورة الإيرانية على تلك «الصحوات»، مما دفع بالنظام لأن يختار العنوان التالي لأحد تلك المؤتمرات «مؤتمر نظرية الصحوة الإسلامية في الفكر السياسي لآية الله الخميني وآية الله خامنئي».
ويأتي دور الإعلام الإيراني هنا لنقل بعض مقتطفات من الأوراق المقدمة في هذا المؤتمر والتصريحات المرافقة له التي تُبرز دور الثورة الخمينية و«تأثيرها على الصحوات الإسلامية» كما يصفها. ولقد جاء في «وكالة أنباء فارس» العنوان التالي: الشيخ (الفلسطيني محمد نمر أحمد) الزغموت: «الصحوة الإسلامية نتاج للحركة التاريخية للإمام الخميني». ثم نأتي لتسويق الإعلام الإيراني ما يُعرف بـ«محور المقاومة» (محور مقاومت) الذي يضم، بالإضافة إلى إيران واعتبارها مركز هذا المحور، كلاً من نظام سوريا وحزب الله وبعض التنظيمات الفلسطينية كحركة حماس والجهاد الإسلامي. وكمثال جاء العنوان التالي في الموقع التابع لقوات التعبئة «إيران محور الصحوة الإسلامية ومحور حركت المقاومة في العالم».
ومن المصطلحات الأخرى الدارجة في الخطاب السياسي الإيراني مصطلح «الإسلام المحمدي الخالص» (إسلام ناب محمدي) في مقابل «الإسلام الأميركي» (إسلام أميركايي)، وكذلك «التشيع الإنجليزي» (تشيع انگلیسد) و«التسنن الأميركي» (تسنن أميركايى)؛ إذ قال أحد نواب البرلمان الإيراني: «إن التشيع الإنجليزي والتسنن الأميركي يؤديان إلى تفريق الأمة الإسلامية».
ثم ما أن بدأت عملية «عاصفة الحزم» في اليمن ضد التمرد الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح حتى بدأ النظام الإيراني تحريك سلاحه الإعلامي ضد العملية في محاولة لإنقاذ الحوثيين. وهنا ساهم تمادي الحوثيين ومحاولتهم السيطرة على كامل اليمن، وكذلك التصريحات الإيرانية المتتالية دعمًا لهم، في فضح مدى ما استثمره وما حققه النظام الإيراني من نفوذ في المنطقة. فبعد قول رحيم صفوي إن «حدود إيران تصل إلى بحر المتوسط»، جاء تصريح عضو البرلمان محمد رضا زاكاني بـ«أن إيران باتت مسيطرة على أربع عواصم عربية» متزامنًا مع احتلال التمرد الحوثي للعاصمة اليمنية صنعاء. كذلك زعم بعض المسؤولين الإيرانيين أن ما يحدث في اليمن ما هو إلا نتاج لـ«الثورة الإسلامية» وامتدادها.
عملية «عاصفة الحزم» كشفت ببلاغة توظيف اللغة من جديد في استراتيجية طهران الإعلامية، فبدلاً من إطلاق مسمى «التحالف العربي» على «عاصفة الحزم» بدأ الإعلام الإيراني في تأطير تلك العملية على أنها «هجوم سعودي» ومحاولة إعطائها صبغة مذهبية موجهة ضد الحوثيين. ولم يكتفِ بذلك، بل اعتبر أن «عاصفة الحزم» في اليمن «جاءت تنفيذًا لأجندة الولايات المتحدة في المنطقة وخدمة لمصالح الكيان الإسرائيلي»؛ فقد أوردت «قناة العالم الإيرانية» عبارة لعضو مجلس الخبراء آية الله شاهرودي هي «جرائم» التحالف التي «قد تغير أوضاع المنطقة». كما جاء عنوان في قناة العالم كالتالي: «تكريم الطيار الإيراني الذي واجه قرصنة الطيران السعودي» في حادثة محاولة الطيار الإيراني الهبوط في مطار صنعاء عنوةً وعدم الامتثال والتقيد بالإجراءات المتبعة. ولا يزال توظيف اللغة في هذا الحيّز مستمرًا في محاولة لممارسة مزيد من الضغوط على التحالف العربي ضد التمرّد الحوثي.



مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

TT

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)
الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)

ظل محمود الرخّ متردداً في الدخول إلى مخيمه الذي ولد وعاش فيه، مخيم جنين، بعدما حولته إسرائيل إلى كومة ركام كبيرة، ومصيدة للموت، قبل أن يحسم أمره، ويتجرأ ويعبر إلى داخل المخيم متغطياً بمجموعة صحافيين قرروا الدخول أيضاً بعد مشاورات كثيرة، وطول تردد. فالكل يدرك جيداً أنه قد يتعرض لإطلاق نار، قد يقتل، وقد يصاب، وقد يعتقل.

كان الشارع من دوار السينما الشهير في جنين إلى مداخل المخيم يعطيك انطباعاً سريعاً عما ستشاهده لاحقاً، وقبل المستشفى الحكومي الذي يقبع في آخر الشارع، حول الجنود المدججون بكل أنواع الأسلحة، المدخل الرئيسي للمخيم إلى ثكنة عسكرية. لكن شبان المخيم وأهله وصحافيي المدينة قالوا لنا إنه يمكن أن نتسلل إلى المخيم من خلف المستشفى، في جولة بدت صادمة للغاية.

«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح»، تذكرت ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش وأنا أعبر إلى المخيم. «لا أحد» في المخيم. «لا أحد»، لا سلطة ولا ناس ولا مقاتلين، «دب الإبرة بتسمع صوتها» على ما نقول. فقط جنود إسرائيليون حولوه إلى كومة ركام كبيرة شاهدة على تاريخ وصمود ومعارك وحياة وذكريات وحكايات كثيرة، يتربصون بأي أحد، ويحلمون كما يبدو بتحويل المكان من فلسطيني إلى إسرائيلي بالكامل.

منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

لمحنا على مسافة بعيدة لافتات زرعها الجنود، تحمل أسماء عبرية مثل «محور يائير» في محاولة يائسة للسطو على المكان. وكانت مثار سخرية؛ إذ لا يخطئ الجنينيون في لفظ أسماء حاراتهم في المخيم من «الحواشين» إلى «الدمج» و«الألوب»... إلخ.

لم تكن حرباً على المسلحين، لقد كانت حرباً على المكان والناس والتاريخ والحاضر والرواية كذلك، وليست مجرد عملية عسكرية أطلقتها إسرائيل في المخيم في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، في بداية تحرك يتسع نطاقاً في باقي الضفة، بعد إدراجها على قائمة أهداف الحرب.

«السور الحديدي» وقواعد ثابتة

كانت العملية التي تعدّ تغييراً في الاتجاه الإسرائيلي، واتخذت اسم «السور الحديدي»، في تذكير واضح بالعملية الواسعة التي شنتها إسرائيل في الضفة عام 2002 في أثناء الانتفاضة الثانية، وأطلقت عليها اسم «السور الواقي»، واجتاحت معها كل الضفة الغربية، بدأت بهجوم جوي نفذته طائرة مسيرة على عدة بنى تحتية هناك، قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة والشاباك والشرطة العسكرية مناطق واسعة في جنين، ثم ينفذ الطيران غارات أخرى.

بعد 25 يوماً، حين وصلنا إلى المخيم كانت إسرائيل قتلت 26 فلسطينياً وجرحت آخرين، وهجّرت 20 ألفاً بالتمام والكمال هم كل سكان المخيم، بلا استثناء.

سألت أحمد الشاويش، وهو صحافي من جنين تطوع للدخول معنا: إذاً ماذا يفعلون في المخيم؟ قال إنهم في مناطق لا نستطيع الوصول إليها يبنون قواعد ثابتة، ما يذكّر بكلام وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنهم لن يغادروا المكان.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أعلن شخصياً عن بدء العملية في جنين، قائلاً إنها أطلقت «بتوجيه الكابينت»، بوصفها «خطوة أخرى نحو تحقيق الهدف، وهو تعزيز الأمن في الضفة الغربية». وتابع حينذاك: «نحن نتحرك بشكل منهجيّ وحازم ضد المحور الإيرانيّ، أينما يرسل أذرعه؛ في غزة ولبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية».

مسألة توقيت لا قرار

لم يكن قرار الهجوم على جنين مستحدثاً، لكنهم قرروا انتظار الهدنة في غزة، وبعد 3 أيام من بدء سريانها هناك، حولوا البوصلة إلى الضفة بعد توصية رئيس الشاباك رونين بار الذي أبلغ المجلس الأمني والوزاري المصغر أنه يجب اتخاذ إجراءات أوسع لتغيير الواقع، والقضاء على المجموعات المسلحة في الضفة، مطالباً «بالتعلم من الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)»، ومحذراً من أن الانخفاض الكبير في العمليات في الضفة الغربية «مخادع ومضلل»، و«لا يعكس حجم تطور الإرهاب على الأرض».

آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)

مسألة أخرى قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها ساهمت في اتخاذ قرار الهجوم على الضفة الغربية، هي الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة غزة، باعتبار ذلك «سيثير حماس الإرهابيين في المنطقة، ويزيد من دوافعهم لتنفيذ الهجمات».

لم أصدق ما شاهدت بأم العين رغم أنني رأيت مئات الفيديوهات من جنين قبل ذلك.

كان الدمار هائلاً؛ بيوت مهدمة، وجدران متهاوية، وشوارع مجرفة، وأكوام من الركام في كل مكان، فيما رائحة الحرائق تفوح من كل زقاق.

مضينا بحذر شديد فيما كانت طائرات «الدرون» التي يسميها الفلسطينيون «زنانات»؛ لفرط الإزعاج الذي تسببه، تحوم فوق المخيم 24 ساعة في اليوم والليلة.

قال الرخ إنه يريد العودة. تردد كثيراً لأن زوجته و2 من أولاده الصغار معه، لكن زوجته أصرّت على أن تواصل؛ لأنها بحاجة إلى جلب معاطف من المنزل. وفعلاً عبرت مع ابنتها إلى هناك، وأحضرت بعض الملابس، أما هو فوقف عاجزاً عن وصف مشاعره وهو يشاهد منزله المهدم جزئياً.

غزّة ثانية

لا أعرف كيف سيشعر أي شخص حين يرى منزله الذي بناه من تعب وعرق واحتضنه مع عائلته قد تبخر بلمح البصر؟! الابن أحمد قطع علينا أفكارنا وهو ينادي والده بفرح: «يابا يابا... جابت ستر جابت ستر (معاطف)».

لم يغادر الرخ سريعاً رغم أن المهمة أُنجزت، وظل يراقب منزله في حارة الحواشين، ثم أشار إلى بيته المحروق والمهدم وقال: «ما خلو اشي ما خلو بيوت ولا سكان».

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

قال لنا إنه تسلل قبل ذلك وتعرض لإطلاق نار، وأضاف: «لولاكم ما دخلت. خايف يطخوا علينا معي زوجتي وأولادي. شفتكم وتشجعت... والله الحامي».

وأضاف: «إشي لا يصدق شوف شوف. غزة ثانية عملوها».

سألته: ماذا ستفعل بعد ذلك؟ قال: «سنعود. سأنصب خيمة وراح أنام فيها».

فعلاً كان مخيم جنين غزة صغيرة، عبرنا فوق أكوام الركام، ودخلنا عبر البيوت المهدمة والمفتوحة لتجنب الجيش في الشوارع.

وكان فادي، أحد أبناء المخيم، خبيراً في أزقته، وحاول إلى حد كبير توجيه جولتنا مع كثير من التحذيرات.

طلب منا الوقوف فجأة عندما سمع صوت جيب إسرائيلي يسميه الفلسطينيون «بوز النمر». صاح: «وقفوا بوز نمر قريب». لم يصدر أحد صوتاً، وخيم السكون. تدخل صديقه وقال: «من هنا»، فاضطرنا إلى تسلق ما يشبه جبلاً من الركام، ثم هبوط جبل آخر لنعبر إلى حارة أخرى.

كان شيئاً لم نشهده في الضفة الغربية في الانتفاضتين: الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن كل الفلسطينيين اختبروا كل أشكال الحرب، بما في ذلك غارات الطيران الحربي وتوغل الدبابات في قلب المدن، فإن مخيم جنين بدا شيئاً آخر. ولا حتى ما تبثه الشاشات يمكن أن يعكس هول المشهد.

حزن كبير يغمر المكان. حزن الحجارة والشوارع على المكان والناس الذين كانوا قد تشردوا عند أقارب لهم في مراكز نزوح تقام لأول مرة في الضفة الغربية.

تجريف لتسهيل الاقتحام

لم أعرف أين وقف كاتس، نهاية الشهر الماضي، عندما وصل إلى المخيم، لكني تخيلته وهو منتشٍ بما شاهده من دمار يوازي دمار غزة.

قال من هنا إنه سيواصل الهجوم، ولن يخرج من المخيم الذي لن يعود كما كان حتى بعد انتهاء العملية.

نظرت إلى المخيم وفهمت أنه لن يعود كما كان، لكني لم أفهم ضد من سيواصل الهجوم في مكان بلا أحد!

سألت الصحافيين والناس مرة أخرى إن كان هناك مسلحون فقالوا: «لا، لا يوجد أي أحد. لا يوجد أي بشر هنا فقط هذا الدمار».

لكن إسرائيل مصرّة وتقول إن العملية في جنين مستمرة، وهدفها «تحييد المسلحين بالكامل»، ويتحدثون عن عملية قد تستمر عدة أشهر.

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

في الأثناء كانت الجرافات تصل إلى المخيم، وانطلق نقاش حول تجريف إسرائيل شوارع واسعة في المخيم قد تحوله إلى مربعات سكنية صغيرة، بما يسمح للجيش بالبقاء والاقتحام وقتما يشاء.

وربما أنهم مثل ما يحلمون في غزة يحلمون في مخيمات الضفة، تهجير الناس وتقليص المساحات للوجود الدائم، واستيطان إذا تسنى لهم.

في أحد أزقة المخيم التي تحولت إلى «طينة» بفعل تدمير البنية التحتية، كان ثمة بيانات سابقة ألقاها الجنود ما زالت موجودة تطالب أهل المخيم بنبذ المسلحين، وتقول إنهم السبب بتدمير المخيم، وإنهم هم من يدفع الثمن.

والبيانات أسلوب إسرائيلي قديم جداً لم يتوقف، وطالما ألقى الجيش طيلة الانتفاضة الثانية في كل مكان في الضفة بيانات تقول للفلسطينيين: «قف وفكر. لا تدعم المسلحين».

لم يتوقف الفلسطينيون ولا المسلحون ولا إسرائيل.

لكن في مخيم جنين بعد معارك طويلة ومستمرة، لم يكن هناك اليوم أي مسلحين، ولكن أكوام. أكوام من كل شيء، أكوام حجارة، أكوام حديد، أكوام سيارات محترقة، أكوام رمل، ولا شيء سوى الأكوام.

السجن الكبير

لا تكفي جولة سريعة تقوم بها تحت الضغط والقلق. فأنت بوصفك فلسطينياً أولاً، وإنساناً ثانياً، تنسى أنك صحافي، وتغرق في دهشة وحزن وكثير من الأمنيات بالتخلص من واقع معقد وصعب حوّل الجميع إلى سجناء في سجن كبير بعنابر متفاوتة، ينتظرون الموت أو الإذلال المستمر.

في الطريق إلى جنين عبرنا حواجز عديدة، وكان علينا متابعة أخبار الحواجز؛ لمعرفة إن كانت مفتوحة أو مغلقة أو مزدحمة. وكان علينا أن نلتف عليها في رحلة تحولت إلى مضنية، وأكثر من مضنية خصوصاً في طريق العودة حين أصر الجنود على تفتيش السيارة والجوالات، وبدأوا يطرحون أسئلة سخيفة.

لم نصدق أننا خرجنا سالمين من مصيدة الموت في المخيم.

مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)

«لقد نجونا»، صرنا نفكر قبل أن يهمهم الجميع بعد العودة إلى المستشفى الحكومي، الحمد لله على السلامة.

قال الشاويش إنهم في آخر محاولة للدخول تعرضوا لإطلاق النار، وقد أصيب مواطنون حاولوا الدخول إلى المخيم. وفي المرة التي سبقت ذلك اضطر الصليب الأحمر للتدخل من أجل إخراج صحافيين حوصروا داخل المخيم.

خارج المخيم صادفنا شباناً يتصيدون الفرصة للدخول، يراقبون تحرك الآليات ويستطلعون المداخل، وبادروا بسؤالنا: «كيف الوضع؟ وين وصلتوا؟ لاقكم جيش؟».

قال أحمد سمارة إنه يدخل بشكل شبه متكرر متسللاً إلى حارة الدمج، إحدى الحارات التي لم نستطع الوصول إليها ودُمرت بشكل كبير.

وسألته: لماذا يخاطر هكذا؟ فقال باستنفار: «أنا داخل على بيتي مش على بيتهم، بدي أدخل غصب عنهم. خليهم يطخوني».

وفي كل مرة، يصل سمارة إلى بيته المدمر يُلقي نظرة عليه، ويسلّم ويغادر. ومثل الرخ ينتظر سمارة نهاية العملية العسكرية من أجل أن ينصب خيمته هناك، ويقول: «أنا راح أرجع على مخيمي، أنا بحب مخيمي وراح نعمره بأيدينا».

تهجير قسري وتمسّك بالعودة

وبحسب منسق القوى الوطنية والإسلامية في جنين، راغب أبو دياك، فإن الاحتلال هجّر قسراً ما يزيد على 20 ألف مواطن من مخيم جنين، بعدما دمر وعاث خراباً في 470 منزلاً بشكل كامل وجزئي.

لم تكن هذه معركة المخيم الذي بني عام 1953 بحسب وكالة «أونروا» الوحيدة، فقد خاض رجاله مواجهة كانت الأعنف في الضفة الغربية عام 2002.

لكن الناس لم يغادروا آنذاك.

وشرح سكان من المخيم كيف أنهم اضطروا للمغادرة تحت تهديد الجنود والطائرات المسيرة التي كانت تطلق النار.

بعضهم كان محظوظاً لأن له أقارب وأنسباء خارج المخيم، لكن عدداً آخر كان عليه أن يجرب ما جربه الفلسطينيون في قطاع غزة.

كانت جنين المدينة هادئة إلى حد ما لكنها أيضاً متعبة.

وفي جمعية «الكفيف» الخيرية، وجدنا العشرات من سكان المخيم يعيشون هناك، ومثلهم مئات في مراكز نزوح أخرى في المدينة والقرى المجاورة.

رجال يقتلون الوقت في نقاشات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأولاد يلعبون في حديقة متواضعة، ونساء يتدبرن أمور الحياة، وجميعهم يربون الأمل فقط من أجل عودة قريبة.

لم يتخيل نظمي تركمان أنه سيكون نازحاً يوماً، وقال إن الموقف صعب وحزين للغاية.

وأضاف: «شفت بحياتي كتير. عشت اجتياحات وقتل وضرب وهدم بس هاي المرة غير».

ومثل غيره، يتسلل تركان إلى المخيم كل يوم مأخوذاً بالحنين: « كل يوم برجع بروح بتفرج على البيت المحروق».

سألته أيضاً: ماذا سيفعل بعد انتهاء العملية؟ فأجاب مثل الآخرين: «راجعين مش بس على المخيم وبدنا نرجع كمان على 48. بفكروا يهجرونا من المخيم لا! أنا من حيفا وبدي أرجع على حيفا».

زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)

غضب على السلطة

وصلت سيارات إلى المكان تحمل بعض المساعدات التي بدت متواضعة، ولا تلبي الاحتياجات، وبعد أيام قليلة فقط أصدر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى توجيهات بتوفير الإيواء والإغاثة اللازمة للنازحين في محافظات شمال الضفة الغربية، خاصة في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس.

لكن الحاجة حليمة، وهي معروفة على نطاق واسع في المخيم ونزحت هي الأخرى منه إلى مركز المكفوفين لم تكن راضية عن دور السلطة.

وقالت الحاجة حليمة، وهي عضو سابق في اللجنة الشعبية في مخيم جنين، إن المخيم دفع ثمناً كبيراً عندما حاصرته السلطة في السابق.

وأضافت بكثير من الألم: «شوف بعد كل هذا العمر وين صرنا إشي بحزن إشي قاتل بالآخر نتشرد من دورنا».

تفهم الحاجة حليمة أن الحرب الحالية أكبر من مجرد عملية، وتعتقد أنها تستهدف حق العودة باستهداف المخيمات ووكالة «أونروا».

في أثناء ذلك، كانت إسرائيل تعيد في مخيم نور شمس بطولكرم ما فعلته في مخيم جنين.

لقد بدت حرباً واضحة على المخيمات. لكن الحاجة حليمة استخفت بهم وبحربهم وقالت: «أنا مولودة بالمخيم وراح أرجع... وزي ما بقول المثل: المربى قتال».