باريس طرحت السؤال على مثقفيها: حقا.. بم أنتم معجبون؟

الإجابة كثيرا ما تدل على شخصية المعجب

الرئيس هولاند أمي أولا  -  فيري معجب بالحضارة الأوروبية العلمانية الحديثة  -   سوليرز: اللامُعدب تافه لا يستحق الحياة  -  زمور: المتشائم الأكبر
الرئيس هولاند أمي أولا - فيري معجب بالحضارة الأوروبية العلمانية الحديثة - سوليرز: اللامُعدب تافه لا يستحق الحياة - زمور: المتشائم الأكبر
TT

باريس طرحت السؤال على مثقفيها: حقا.. بم أنتم معجبون؟

الرئيس هولاند أمي أولا  -  فيري معجب بالحضارة الأوروبية العلمانية الحديثة  -   سوليرز: اللامُعدب تافه لا يستحق الحياة  -  زمور: المتشائم الأكبر
الرئيس هولاند أمي أولا - فيري معجب بالحضارة الأوروبية العلمانية الحديثة - سوليرز: اللامُعدب تافه لا يستحق الحياة - زمور: المتشائم الأكبر

قل لي بأي شيء أنت معجب, أقل لك من أنت. فأن تكون معجبا بتلك الغليظة التافهة بريجيت باردو غير أن تكون معجبا بتلك الإنسانة الملائكية صوفيا لورين. أن تكون معجبا بكانط غير أن تكون معجبا بنيتشه. أنا شخصيا معجب بالاثنين معا. أو قل إن قلبي مع نيتشه وعقلي مع كانط. أن تكون معجبا بفيكتور هيغو غير أن تكون معجبا ببودلير. أن تكون معجبا بفصل الربيع غير أن تكون معجبا بفصل الشتاء. كل من يحب الشتاء لا أحبه. نقطة على السطر.
باختصار، أعجبتني تلك الفكرة التي طرحتها إحدى المجلات الفرنسية على مجموعة من المثقفين والشخصيات، وتنطلق من السؤال التالي: بمن أنتم معجبون؟ أو بأي شيء أنتم معجبون؟
بالطبع، كانت الإجابات شديدة الاختلاف والتنوع بتنوع هذه الشخصيات واختلاف مشاربها. فالكاتب المعروف فيليب سوليرز قال بأنه معجب بالإعجاب! بمعنى أنك إذا كنت غير معجب بأي شيء فهذا يعني أنك شخص تافه لا تستحق حتى الحياة. ما معنى حياة من دون دهشة وإعجاب؟ وأضيف: ما معنى حياة من دون حب أو عشق وغرام؟ هل تستحق أن تعاش؟ بإمكانكم أن تشطبوا على إضافاتي وثرثراتي، أنتم أحرار. دائما أخرج عن السكة غصبا عني. غلب الطبع التطبع. اعتبروها مراهقات متأخرة أو زلة لسان. الآتي أعظم!
أما الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فقد كان معجبا بأمه التي ماتت لكن ليس بأبيه الذي ما يزال حيا. وهذا من حقه. كان يعبد أمه عبادة، كما يقال، وإني لأتفهمه جيدا وأقدره لهذا السبب بالذات. ولكني أرفض كليا إصراره على زواج المثليين وكسره لإرادة الشعب الفرنسي الرافض لذلك والمشمئز. وأعتقد أنه ارتكب خطيئة تاريخية قد يدفع ثمنها غاليا في الانتخابات المقبلة. أما أكبر فيلسوف في التاريخ، أي أفلاطون، فقال هذه العبارة: غاية الحياة الإعجاب بالجمال. لكن لا نستطيع شرحها، لأن ذلك يتطلب صفحات وربما مجلدات، على فرض أننا قادرون على ذلك. وعلى ذكر الجمال، فقد كدت أفقد عقلي مؤخرا في المطار، عندما مرت من أمامي إحدى الفاتنات ورمقتني بنظرة عدائية خاطفة ذبحتني ذبحا، وأكاد أقول دمرتني تدميرا. فذهلت عن نفسي إلى درجة أنني نسيت حقيبتي وبطاقة الطائرة، بل وحتى اسم البلد الذي أنا متوجه إليه. تخربطت تماما، تشوش الرادار.. هل يعني ذلك أنني من جماعة أفلاطون؟ من دون شك. أنا أفلاطوني أبحث عن النصف الآخر من زمان، من دون أن أجده. ويفضّل ألا أجده على الإطلاق. أحيانا أتساءل: هل أنا ملاحق من قبل جاسوسات جيمس بوند؟ إذا كان الأمر كذلك، فأنا لست ممانعا على الإطلاق. على العكس تماما: يا أهلا ومرحبا. أنا لست من جماعة المقاومة والممانعة ولا الصمود والتصدي. أنا من جماعة السلام والاستسلام على طول الخط، خصوصا أمام مخلوقات من هذا النوع. لكن لنكف عن هذه الثرثرات والترهات ولنعط حق الكلام لشخصيات جدية محترمة.
فالقاضي الشهير رينو فان رمبيك، الذي يرعب السياسيين الفرنسيين بواسطة ملاحقاته وتحرياته، قال: إنه معجب بسقراط. لماذا؟ لأن سقراط علمنا كيف نشك بيقينياتنا الراسخة. وأفهمنا بأن هذه اليقينيات ليست حقائق كما نتوهم، وإنما عبارة عن أحكام مسبقة وأفكار تعصبية غرست في أذهاننا من قبل البيئة والعائلة والطفولة. وبالتالي ينبغي أن نضعها على محك التساؤل والشك إذا ما أردنا أن نتوصل إلى الحقائق الحقيقية. ولكن من يتجرأ على ذلك؟ من يتجرأ على مساءلة الأفكار الطائفية التي تلقاها في طفولته الأولى وكأنها حقائق معصومة لا تقبل النقاش؟ ليس كل الناس فلاسفة. ليس كل الناس سقراط! ينبغي أن نعترف: نحن لسنا جديرين بأن نكون تلامذة لهذا الفيلسوف العظيم. لكن ينبغي ألا ننسى أن هذه المنهجية التنويرية أدت به إلى حتفه. فقد أجبروه على تجرع السم الزعاف متهمين إياه بإفساد الشبيبة والنيل من العقائد الدينية المقدسة لأهل أثينا وشعب اليونان. دائما تتكرر التهمة نفسها على مدار العصور. ممنوع أن تفكر بشكل شخصي حر. أو قل هناك خطوط حمراء ممنوع منعا باتا تجاوزها. فلا تغامر بنفسك أكثر من اللزوم أيها الإنسان.
أما رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسيين، أي أهم من رئيس الدولة، فقال بأنه معجب بشخصيتين اثنتين: الجنرال ديغول، والزعيم الصيني دينغ هزياو بينغ. فالجنرال ديغول انتشل فرنسا من الحضيض بعد الاحتلال الألماني وأعاد إليها كرامتها وشرفها في ظرف سنوات معدودات. لقد أعاد لها ثقتها بنفسها، بل ووضعها في صف الأمم الظافرة، بعد أن كانت مستباحة، مهانة، مذلة. وهذا دليل على مدى أهمية الرجال العظام في التاريخ. أما دينغ هزياو بينغ، فقد أنقذ الصين من جحيم الآيديولوجيات الفارغة والشعارات الديماغوجية لماو تسي تونغ والشيوعية. لقد انعطف بالصين 180 درجة عندما أدخلها في «الثورة الرأسمالية» بعد خمسين سنة قاحلة من الاقتصاد الاشتراكي الموجه والعقيم. لقد كان رجلا براغماتيا لا يغره بريق الشعارات المؤدلجة، فتجرأ على أحداث القطيعة مع إرث زعيمه ماو تسي تونغ، رغم كل الهالة الأسطورية التي كانت تحيط به. لقد كان قائدا رؤيويا عرف كيف يفتح الصين على العالم وعلى الحداثة في آن معا. إنه الرجل الذي جلب للصين الرفاهية الاقتصادية. كما أنه انتهج سياسة تربوية جديدة وحازمة أتاحت نهضة البلاد، وتشكل نخبة مثقفة تكنولوجية وانبثاق طبقة وسطى. لقد عرف كيف يدخل الصين في عصر العولمة، حين أصبحت قوة عظمى بالمعنى الحقيقي للكلمة، قوة يحسب لها الحساب. وكل ذلك بفضل القطيعة مع الأدلجة والآيديولوجيا التي طالما استلبت عقول المثقفين العرب، وليس فقط الصينيين. متى سيخرج العرب من العصر الآيديولوجي العقيم؟
أما الفيلسوف لوك فيري، أحد نجوم الفكر الفرنسي حاليا، فقال بأنه معجب بالحضارة الأوروبية العلمانية الحديثة: أي الحضارة الناتجة عن عصر الأنوار. وفهمنا منه أنه ضد كل هذه الموجة التشاؤمية التي تطغى على فرنسا حاليا بعد صدور كتاب «الانتحار الفرنسي» للصحافي إريك زمور، وبعض الكتب السوداوية الأخرى أيضا. وقال ما معناه: قارنوا الحضارة الأوروبية بكل حضارات العالم الأخرى لكي تروا بأم أعينكم، حجم النعيم الذي نعيش فيه قياسا إلى الآخرين. فنحن نتمتع بكل الحريات، وبكل أنواع الضمان الصحي والاجتماعي. هذا في حين أن الآخرين غارقون في الفقر والبؤس، ولا يستطيعون أن يتعالجوا بالمجان مثلنا وفي أحدث المستشفيات والعيادات الطبية. هل هذا قليل؟ العالم كله يحسدنا على هذا التقدم، ومع ذلك فلا نكف عن الشكوى والتذمر والنعيق والنعيب. عيب عليكم أيها الفرنسيون! اخجلوا على حالكم واعترفوا بميزات الحضارة والتقدم والرقي. أين كنا وأين أصبحنا؟ كنا غارقين في ظلمات الجهل والتعصب الديني ومحاكم التفتيش والحروب المذهبية. والآن تخلصنا من كل ذلك، بعد أن تنورنا ونضجنا عقليا وحضاريا.
ويضيف لوك فيري: انظروا إلى الشعوب الأخرى المواجهة لنا على الضفة الأخرى من المتوسط، كيف تتخبط في حروبها الأهلية وصراعاتها الطائفية، كما كنا نحن سابقا. واحسدوا أنفسكم أو احمدوا ربكم على السلامة.. ولو خرج فيكتور هيغو من قبره ورأى كل هذا التقدم الذي حققناه منذ موته عام 1885 لجن جنونه فرحا ولما صدق عينيه. فصاحب رواية «البؤساء» الشهيرة، كان يعرف حجم الفقر ومعنى العذاب. إذا كانت فرنسا تشكو من واقعها فماذا ستقول الصومال أو أفغانستان والباكستان والحبل على الجرار... ويحكم أفلا تخجلون!



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.