طموحات «داعش».. والبحر

الأراضي اللبنانية تشكل المسار المثالي بعد سقوط تدمر لتأمين مرفأ للتنظيم

طموحات «داعش».. والبحر
TT

طموحات «داعش».. والبحر

طموحات «داعش».. والبحر

كبرت مساحة الأرض التي يسعى تنظيم داعش المتطرف إلى إقامة دولته عليها، بعد سيطرته على مدينتي تدمر السورية والرمادي العراقية، حتى فاقت مساحة فرنسا وساوت مساحة بريطانيا. ويبدو أن دولة «داعش» تقارب شعارها.. «باقية وتتمدد» بانتظار نجاح استراتيجيات الاحتواء التي تقودها الولايات المتحدة، والتي أثبتت حتى الساعة فشلا ذريعا.
ويبقى السؤال الأساسي، هو إلى أي مدى سيستكمل هذا التنظيم توسعه، وإلى أين ستقوده خطوته التالية في سوريا. فبعد تدمر، يقف التنظيم على مفترق طرق. فهو أكمل سيطرته على الحدود العراقية – السورية بشكل شبه كامل، ما عدا الجانب الكردي منها. فهل تحتاج هذه الدولة بحرا؟ وأي بحر سيختار؟.. هنا يخاف اللبنانيون.

يتوقع الخبراء العسكريون أن يكمل تنظيم داعش زحفه شرقا لإنهاء وجود النظام في بلدة الفرقلس، بعد سقوط تدمر. أما بعد تلك البلدة التي أصبحت حدود نظام الرئيس السوري بشار الأسد مع البادية السورية، فسيكون أمام 3 خيارات، أولها، الاتجاه نحو الجنوب السوري والاصطدام بقوات المعارضة التي تشن حربا على خلاياه في الجنوب، أو العودة شمالا لاستكمال سيطرته على مدينة دير الزور التي أصبح ظهر قوات النظام فيها مكشوفا بعد سقوط تدمر. أما الخيار الثالث، فالذهاب نحو البحر، عبر الأراضي اللبنانية التي قد تشكل خاصرة رخوة مقارنة بالساحل السوري المحصن.
وكان قائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي أكد في وقت سابق أن تنظيم داعش يريد إقامة ممر آمن إلى البحر، وهو ما لم يتوافر له حتى الآن، لا في سوريا ولا في العراق، ويعتقد أن هذا ممكن تحقيقه في لبنان، ولذلك يعمل لربط جبال القلمون في سوريا بعرسال، ثم بمنطقة عكار وأخيرا بالشمال. لكن مصادر دبلوماسية في باريس كانت كشفت لـ«الشرق الوسط» عن أن الجانب الفرنسي كرر على مسامع المسؤولين والسياسيين اللبنانيين أخيرا رسالة، مفادها أن «وصول (داعش) إلى مياه البحر الأبيض المتوسط خط أحمر، لا يمكن لفرنسا أن تقبله».
ويعتقد البعض أن تفكير «داعش» المنطقي هو الاتجاه نحو الأراضي اللبنانية بحثا عن «البيئة الحاضنة» التي قد يجدها. ففي شمال لبنان ثمة عواطف لا تزال تربط المتطرفين في طرابلس بالجماعات المتطرفة في عرسال، لكن الكثيرين منهم يقولون إنهم باتوا على حذر شديد، وخطب أئمة المساجد تغيرت جذريًا، خاصة بعد أن لجأت، هذه المجموعات إلى قتل عسكريين لبنانيين. وعندما نسأل المصدر، الذي يرفض الكشف عن اسمه، عن السبب يقول: «كنا ننتظر منهم أن يحافظوا على أرواح العسكريين، ليخرجوا في مقابلهم المساجين الإسلاميين من السجون اللبنانية فهؤلاء لدينا رغبة شديدة في إطلاق سراحهم، لكن ما ارتكبته هذه الجماعات من ذبح ووحشية، يعني أن مشروعهم في مكان آخر». ويستطرد شارحًا: «هناك قناعة لدى كثير من المشايخ في طرابلس أن القابعين في جرود عرسال، ليسوا معنيين بهم ولا بالمتشددين الآخرين في السجون، لكنهم يخططون لمشروع مختلف». «داعش» لها مشروع في لبنان وبحاجة لكل لبناني. علينا ألا ننسى مجموع ما تسيطر عليه في العراق وسوريا. لبنان اليوم، هو أهم عنوان لهذه الجماعات، بسبب تعدديته الطائفية، وكون أي حدث فيه يحدث ضجة إعلامية كبيرة عالمية، وهو ما يحتاجونه تمامًا».
ويرى المصدر أن طرابلس وصيدا لم تعودا في حسابات «داعش»، موضحا: «ما يخططون له الآن هو الاستيلاء على مناطق ولو صغيرة في البقاع، تنضم إلى ما يعتبرونه دولتهم اليوم في جرود عرسال التي باتت قائمة، وهي محاذية لبلدات شيعية ومسيحية». ويضيف: «أقولها صراحة إن نجحوا في مخططهم فلا هم يستطيعون تحمل التبعات ولا الشارع السني، لذلك هناك مخاوف كبيرة جدًا لدى المشايخ السنة. نحن لا نريد الانجرار إلى ما يريدون أخذنا إليه».
ويقول رئيس مركز «الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية» الدكتور هشام جابر، إن «(داعش)، هو التنظيم الأول في تاريخ حرب العصابات، منذ فيتنام، يعتمد نوعين من التكتيك يمارسهما بالتزامن، ويقدم أحدهما على الآخر في الوقت المناسب، إذ يعتمد حرب العصابات بالإغارة والكمائن والتفجيرات، والاعتماد على الانتحاريين، كما أنه يقلب دوره ليصبح جيشًا نظاميًا»، معتبرًا أن هذا التنظيم لا ينقصه الآن إلا سلاح الجو، ليصبح جيشًا كاملاً، وذلك بالنظر إلى نوعية تسليحه، وامتلاكه الدبابات والمدافع والصواريخ وأحدث الأسلحة.
ويشرح جابر لـ«الشرق الأوسط» استـراتيجية التنظيم العسكرية التي ساعدته على تسجيل إنجازات ميدانية، قائلاً: «في الاستراتيجية، يعتمد طريقة الهجوم الكاسح، بعد استخدام حرب تكتيكات العصابات، إذ يرسل الانتحاريين والسيارات المفخخة وينفذ الكمائن ويستهدف ويبث الرعب، فيخلق حالة لا استقرار في مواقع استهدافاته، قبل أن تدخـــــــل جحافل لتكمــل المعارك».
ويضيف: «يعتمد بشكل أساسي على الحرب النفسية، وهو ما استخدمه في الموصل التي سقطت فعليا قبل أن تدخلها (داعش)، كما الرمادي اليوم». وقد أثرت الانتكاسة للجيش العراقي على التخطيط لصد «داعش»، حيث يشرح جابر: «العراقيون لم يقاتلوا، بسبب التهويل ودب الرعب والعمليات والتفخيخ والتفجير والنسف، فضلا عن أن صيته يسبقه، وهو ما أسهم في سيطرته السريعة على المدن العراقية».
وإضافة إلى الحرب النفسية التي يعتمدها مقاتلو «داعش»، والتكتيك العسكري، يؤكد جابر أن «الموارد المالية لم تنقطع عن (داعش)، كذلك الموارد البشرية العابرة للحدود». وأشار إلى أن تسليح «داعش»، «يتحمل مسؤوليته الجيش العراقي، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي شرع إلى حد كبير الفساد»، موضحًا أنه «في الموصل، أخذ (داعش) سلاحًا جديدًا غير مستخدم، يقدر ثمنه بمئات ملايين الدولارات، كذلك في الرمادي، حيث ترك الجيش العراقي عشرات الدبابات والعربات المدرعة والمدافع، واستفاد منها (داعش) ويستخدمها».
ويعرب جابر عن مخاوفه من أن يبحث التنظيم عن مصادر سلاح إضافية «فتكون قاعدة الحبانية، وهي واحدة من أكبر القواعد العسكرية للجيش العراقي قرب بغداد، هدفًا له، فيسيطر على ما تبقى من أسلحة الجيش العراقي».
وإذ يؤكد أن «داعش» استفاد من التناقضات السياسية في العراق، يرى جابر أن المعضلة الكبيرة في العراق التي تواجه رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي «تتمثل في عدم قدرته حتى الآن على تجميع فرق مقاتلة من الجيش يتخطى عددها المائة ألف مقاتل من أصل مليون، ينقسمون بين جيش وقوى أمن، ويتقاضون رواتبهم، وذلك رغم الجهود الجبارة التي يبذلها العبادي، لكنه يصطدم بموروث ثقيل من الفساد تركه المالكي».
وعلى عكس الأداء العسكري المضاد في العراق، يقول جابر إن القوات الحكومية السورية «حاولت القتال لمدة أسبوع، ونفذت طائراتها يوميًا ما يزيد على 12 غارة جوية فضلاً عن البراميل (المتفجرة)»، لكنه يشير إلى أن «الهجوم كان أكبر من قدرة النظام على استيعابه».
وإذ يرى أن تدمر «لا تعني بشار الأسد بقدر ما تعني المجتمع الدولي نظرًا إلى رمزيتها»، يتساءل عن دور طائرات التحالف في رصد واستهداف جحافل «داعش» التي عبرت 120 كيلومترًا من الرقة السورية، و80 كيلومترًا من دير الزور بالسيارات والآليات، قبل الوصول إلى تدمر. ويرى أن التحالف عمل على احتواء «داعش»، وليس محاربته خلال الفترة الماضية، و«داعش» سيضع اليوم حدود كيانه، التي تناهز مساحة بريطانيا، عبر جميع مساحة نصف سوريا، مع مساحة ثلث العراق.
هذا الكيان، أو ما يسميه «داعش» بـ«دولته المزعومة»، لا يمكن استكماله من غير مرفأ وإطلالة على البحر، بحسب ما يقول جابر، وهو «ما يسعى التنظيم لتحقيقه عبر التقدم إلى البحر، وسيبحث عن الخاصرة الرخوة للتمدد إلى البحر، ولن تكون إلا عبر الحدود اللبنانية الشمالية».
وإذ يؤكد جابر أن تحقيق هذا الهدف «صعب على الأقل في الفترة الحالية، إلا أنه ليس مستبعدًا على المدى الطويل إذا لم يتم احتواء (داعش) بجهود دولية»، قائلاً إن «محاولة العبور عبر الأراضي اللبنانية، من حمص باتجاه القلمون الشرقي، ثم جبال الهرمل، والنزول بعدها عبر سلسلة جبال عكار في لبنان باتجاه البحر، هي الأسهل، لأنها تجنبه الاصطدام بفصائل المعارضة السورية قبل الوصول إلى البحر في الساحل السوري، مما يعني أن لبنان هو الاحتمال الأكبر». لكنه يشدد على أن هذا الخيار «مستبعد في الفترة الحالية».
ويفصل الباحث في مركز «كارنيغي للشرق اﻷوسط» ماريو أبو زيد بين أسباب تمدد «داعش» في سوريا وأسباب تمدده في العراق، لافتا إلى أن العناصر التي أدّت إلى نشوء التنظيم في العراق هي نفسها التي تؤدي حاليا إلى تمدده وأخيرا سيطرته على الرمادي.
واعتبر أبو زيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تلكؤ الحكومة العراقية عن دعم قادة القبائل السنية لمحاربة «داعش» واحتضان البيئة السنية بالحياة السياسية، إضافة إلى توسع الميليشيات الشيعية، كلها عوامل جعلت من المناطق السنية تفضل احتضان وتقبل «داعش» كقوة سنية على التعامل مع الميليشيات العراقية المدعومة إيرانيا.
ونبّه أبو زيد إلى أن تفاقم أخطاء الحكومة العراقية التي تضاف إلى ضعف الجيش الذي يؤكد مع كل تجربة ألا قدرة له ولا كفاءة وأن عناصره غير مستعدين للقتال، أدت لسقوط الرمادي. وقال: «لا يبدو أن لدى الجيش العراقي دافع يقاتل من أجله ولا هوية وطنية بعدما اتخذ الصراع منحى مذهبيا إلى حد بعيد».
وأوضح أبو زيد أن «المعادلة السورية تختلف تماما عن تلك العراقية، فـ(داعش) ما كان ليتمدد في سوريا وأخيرا في تدمر لو لا تسهيل النظام السوري لتمدده، فهو يفضل الانسحاب تكتيكيا للتنظيم المتطرف في الأماكن التي يشعر بها بعدم قدرة وضعف، ما يتيح لـ(داعش) الدخول لمقاتلة قوى المعارضة الأخرى عنه». وأضاف: «النظام السوري يفضّل أن تتصارع القوى المعارضة له والتي تقاتله مع بعضها البعض لذلك يسهل تمدد (داعش)».
وأشار أبو زيد إلى «عامل رئيسي آخر يدفع بالنظام السوري لفتح الطريق لـ(داعش) في أكثر من منطقة، وذلك ليقول للمجتمع الدولي إنّه يحارب قوى متطرفة تتمادى بقتل الشعب واحتلال الأراضي ليثبت وجهة نظره القائلة إنه لا وجود لقوى معارضة معتدلة وإنّه منذ 4 سنوات يقاتل متطرفين». ورأى أبو زيد أن ما حصل في تدمر بمثابة عملية تسلم وتسليم بين النظام و«داعش» وهذا ما حصل قبلا في مخيم اليرموك حين كان يسعى النظام لفتح الطريق للتنظيم للوصول إلى الجنوب السوري.
واعتبر أبو زيد أن التحالف العربي – الدولي غير قادر على القضاء على «داعش» أو منع تمدده في المناطق السورية والعراقية بإطار الخطة التي يتبعها حاليا، وقد يكون أقصى ما يمكنه فعله هو منع التمدد في دول أخرى. وقال: «مجرد دخول التنظيم في بيئة مدنية يجعل عمل طائرات التحالف غير متاح، من هنا المطلوب قوات برية تخوض المعركة بالتنسيق مع التحالف».
وشدّد أبو زيد على أن أي تدخل بري غربي من شأنه أن يزيد «داعش» قوة وتنظيمات أخرى تطرفا، لافتا إلى وجوب وضع «استراتيجيتين جديدتين لمواجهة التنظيم واحدة لسوريا وأخرى للعراق، على أن تنص الأولى على دعم ما تبقى من قوات معتدلة وهي عبارة عن 59 فصيلا متمركزا في الجبهة الجنوبية، على أن يُتاح لها قدرة مواجهة (داعش) و(النصرة) والنظام على حد سواء».
أما عراقيا، فـ«المطلوب دعم قادة العشائر السنية ومدّهم بالسلاح وتدريبهم على أن يقترن ذلك مع التزام الحكومة العراقية بإعادة السنة إلى الحكم كطرف مقرر بالسياسة العراقية».
وبعد أن أعلنت الحكومة العراقية بدء العملية العسكرية لاستعادة الرمادي، مع تأخير عمليات تحرير الموصل، هناك تساؤلات حول خطط «داعش» للتوسع وفتح جبهة جديدة، لإبعاد الأنظار عن معارك العراق.. قد تشمل لبنان والطموح للوصول إلى البحر.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.