حسب منتج أوروبي معروف، فإن المساعي التي تقوم بها بعض الدول العربية لأجل تنشيط صناعات السينما في بلدانها لا تؤكد بالضرورة أن هناك مستقبلاً كبيرًا لتلك الصناعات. يقول: «المسألة هي أكثر من مجرد نيّـة مدعومة بالقدرة المالية. هي مسألة اتخاذ موقع في العملية السينمائية العالمية بعد دراسة وافية».
حين أذكر له أن مؤسسات السينما في الإمارات وفي قطر درست جيّـدًا حاليًا من دعم وفتح أسواق وإقامة ورش عمل. يرد: «وهل سمعت عن صناعة سينمائية في أي مكان من العالم تقوم على دعم الإنتاجات فقط؟ ثم دعنا نقول: إن هذا الدعم مفيد ويجري بصورة مطردة، أين هي الأفلام التي تم إنتاجها عربيًا؟ لماذا لا وجود لها هذا العام ولم يكن لها وجود في الأعوام الماضية؟».
مهرجان «كان» هو الأفضل حول العالم حين يأتي الأمر إلى كشف حقيقة كل نشاط وحجمه ومستواه ونتائجه. والحضور العربي يستفيد من هذه الفرصة للإعلام والترويج والتعريف. يندفع لاستغلال فرصة تواجده بعمليات تنشيط مختلفة لفعالياته: افتتاح مكاتب ومراكز في أنحاء السوق التجارية. التواجد عبر رؤساء ومديرين ومندوبين وموظّـفين، إقامة الحفلات التي يتم توجيه الدعوة لها إلى خليط من العرب والأجانب، وتوزيع الأخبار إلكترونيا على نحو يعكس كيف أن «كان» يصبح مركز النشاط الأول.
كل هذا في المقام السليم، لكن ماذا عن الأفلام العربية ذاتها، ولماذا تفشل مرّة بعد مرّة في التواجد هنا على نحو رسمي؟
* سقف مرتفع
يعترف المدير العام للمهرجان تييري فريمو لمنتج فرنسي أن هناك تقصيرًا من «كان» بخصوص عرض اشتراكات عربية. حسب المنتج فإن كلام فريمو تحديدًا ورد على النحو التالي: «نعم. صحيح. هناك قوالب جاهزة منعت من استقبال الأفلام العربية خلال السنوات الماضية وخلال هذه الدورة ومن فتح المجال أمام مخرجيها…».
لكن… هناك «ولكن»: «إنه من الصعب أن تجد أفلامًا تتمتع بالعناصر الإنتاجية التي تجعلها قادرة على التنافس. ربما علينا أن نجد مكانًا لها على أي حال».
هل يبدو هذا الكلام منطقيًا؟ بالتأكيد - لكن ما أخفاه فريمو في حديثه هو أنه أتاح سابقًا لأفلام عربية الاشتراك حتى في المسابقة الرئيسية ومنها بالطبع أفلام لإيليا سليمان ويسري نصر الله ويوسف شاهين قبل ذلك. خارج المسابقة، كانت هناك اشتراكات لآن ماري - جاسر ورشيد مشهراوي وأسامة محمد ومرزاق علواش وفي هذه الدورة لعرب وطرزان ناصر (فلسطينيان) ونبيل عيوش (في إطار «نصف شهر المخرجين» المنفصل إداريا وتنظيميًا عن إدارة المهرجان نفسه).
هذا ما يعني أن اللوم الأول عليه أن يقع على السينمائيين العرب الذين ما زالوا يحققون أفلامهم من دون رؤى فنية عالية تخرج من القوالب والصناديق التي يضع الكثيرون أنفسهم فيها.
لكن المسألة لا تتوقف عند نقد جهة واحدة. نعم سقف الاشتراك في مسابقة «كان» مرتفع، لكن بعض عروض المسابقة في «كان» هذا العام لم تكن تستحق هذا الغطاء السخي من القبول. أين هي مثلاً تلك العناصر الإنتاجية الكبيرة في فيلم مثل «معيار رجل» الفرنسي؟ وإذا لم تكن العناصر الإنتاجية هي التي يؤخذ بها في عمليات الاختيار فماذا عن تلك الأخرى التي فشلت في تسجيل نقاط عالية من الإبداع، أفلام مثل «بحر من الشجر» أو «مرغريت وجوليان»؟
من ناحية أخرى، يمكن أن يقال: إن الأفلام العربية تخفق في كسر التوقعات أسوة بما فعلته أفلام إيليا سليمان وعلى غرار ما حققه يوسف شاهين أكثر من مرّة. وإخفاقها ينعكس على وضعها. الناقد البريطاني ديفيد تومسون، في حديث جانبي، قال: «لعل السبب عائد إلى عدم نضج التجارب الفردية ما يمنع الكثيرين من تجاوز المواضيع التي باتت متآكلة».
لكن الحقيقة هي أنها حلقات متّـصلة كل حلقة فارغة تؤدي إلى أخرى: هناك اهتمام أوروبي بإنتاج أفلام مع مخرجين عرب (أو مع جهات إنتاجية عربية) لكن ليست هناك نصوص غير تقليدية تمنح الجهات المختلفة لمعانًا جديدًا مختلفًا. فيلم التوأمين عرب وطرزان ناصر يرغب في كسر التقليد عبر عدم التحدّث عن حرب قطاع غزة مع إسرائيل (فقط أصوات الطائرات الإسرائيلية) وتوجيه دفّة النقد إلى الوضع الفلسطيني في الداخل (ضد حماس وفتح على حد سواء). لكن شكل العمل ومعالجته ما زالا تقليديين تمامًا.
فيلم المغربي نبيل عيّوش الجديد «الزين اللي فيك» (وهو العنوان الأصلي للفيلم الذي تم تقديمه في «تظاهرة نصف شهر المخرجين») جريء في موضوعه (قبل أن يكون جريئًا في مشاهده) لكنه يفيض عن الحاجة ويخفق في الوصول إلى خاتمته بعدما عرض كل ما يمكن عرضه من حالات تخص تلك الكوكبة من نساء الليل وزبائنهن.
* مشروع كبير
أفلام أفضل مما يتم تقديمه لمهرجانات السينما العالمية (وفي مقدمّتها «كان») يمكن التقاطها في المهرجانات العربية التي انحسرت الآن إلى حفنة. لكن ما هو جيّد هنا ليس جيدًا بما فيه الكفاية هناك لاختلاف المعايير. إلى ذلك، فإن الجهات الداعمة حتى اليوم لا تريد خوض المسار حتى نهايته وتتوقف قبل بلوغ الغاية طالما أن تلك الغاية تشمل تعاملاً نديًّا مع الجهات الأخرى بميزانيات أعلى.
مؤخرًا تم تحريك مشروع أوروبي كبير (لست في حل للإفضاء بأسماء) صوب جهات عربية. حظي المشروع بالإعجاب ثم… تم بلورة هذا الإعجاب إلى مساهمة تقترب من 10 في المائة فقط، علمًا بأن المعطيات جميعًا تشير إلى إمكانية نجاحه عالميًا.
السنوات الماضية تشير إلى أن هناك توهانًا فيما يمكن فعله لوضع بعض العواصم العربية على الخارطة العالمية. إلى الآن تتمتع المغرب وحدها بالمركز الأول لناحية القدرة على جذب الاستثمارات من دون أن تكون فاعلاً تمويليًا لها. في الوقت ذاته تمنح الحكومة دعمها الفعلي للسينمائيين المغاربة ما يتسبب في إنتاج نحو 30 فيلما روائيا في السنة (والبعض يذكر أكثر). لكن المغرب ليس سواه رغم أن بلدانًا عربية (غير خليجية) تستطيع تطبيق الأسلوب ذاته وسبق لبعضها أن فعل. سيتطلب الأمر، من السينما المصرية مثلاً، دعمًا كبيرًا من الدولة ومرافقها (يتجنّـب الكثيرون من السينمائيين الغربيين تحقيق أفلامهم في مصر بسبب شروط العمل وقوانينه).
التجربة الخليجية بدورها منفصلة وتستحق تحقيقًا منفصلاً، لكن ما يمكن تسجيله هنا هو أن الطريق مفتوح أمامها لتسجل انتصارات كبيرة في مهام الإنتاجات المشتركة، لكن بخطّـة تلغي الخطّـة الحالية لو أرادت.