يطوي المخرج العراقي قتيبة الجنابي صفحة كبيرة ويبدأ صفحة أخرى، ونقطتا النهاية والبداية تقعان هنا في «كان»، المهرجان الذي قد يخلو من أفلام عربية في مسابقاته، لكنه بالتأكيد يحوز حضورها المتزايد.
منذ بضع سنوات وضع صاحب «الرحيل من بغداد» (الذي كان أحد أهم أفلام 2011 العربية) مشروع فيلمه الروائي الثاني «شتاء داود»، وعمد إلى تقديمه إلى مهرجاني دبي وأبوظبي حيث تم دعمه من قبلهما، كذلك من مؤسسة ميديا أوروبا ومن مهرجان روتردام السينمائي الدولي. لم يتم هذا الدعم كله في سنة واحدة، ولا هو بحد ذاته كان كافيًا للبدء الفعلي في التصوير، لذلك هو الآن في «كان» مستحوذًا على شراكة مؤسسة Alcatraz Film الفرنسية وهناك احتمالات كبيرة لتوقيع عقد آخر مع شركة ألمانية أبدت حماسها للموضوع.
يقول: «بدأت فكرة الفيلم قبل أكثر من ثلاثين سنة عندما كنت ما زلت طالبًا في أكاديمية السينما البلغارية وكنت أود تنفيذها كفيلم تخرّج، لكن المدرّسين قالوا لي أجل هذا المشروع لأن تعود إلى بلدك».
استجاب قتيبة للنصيحة. عوض ذلك الفيلم أنجز الكثير من الأفلام القصيرة التي يحتار المرء في كيفية تصنيف بعضها لكنه لا يداخله ريب في أن صاحبها يملك موهبة فنية رائعة تمنحه الثقة بالمشهد الذي أمامه وكيفية التقاطه لتنفيذ ما يعول عليه من أفكار ورغبات. «شتاء داود» يدور حول جندي عراقي يحاول إنقاذ زميله على الجبهة بعدما وجده بين عشرات الجثث الآيلة إلى الموت: «داود يؤمن بأنه يمكن تأخير الموت والوقوف ضده وذلك انتصارًا لمفهوم الحياة»، كما يقول قتيبة. بسؤاله عن مكان التصوير: «بعض الممثلين وفرق العمل تخشى الوضع في العراق مثلي تمامًا. لذلك قد نصوّره في إسبانيا» ويكمل: «ليست هناك أمور طبيعية في العراق، ولا أنا من الذين يركضون خلف القيادات السياسية للحصول على دعمهم. ولهذا تمشي مشاريعي بطيئة لكني راض عنها».
* إسهامات عربية
* وضع قتيبة ليس فريدًا من نوعه. مهرجان «كان» السينمائي بات المحطّـة التي يقصدها الطامحون لصنع أفلام عربية يدركون كم من الصعب تمويلها من الداخل العربي. تقول مي المصري، وهي مخرجة فلسطينية - أميركية خبرت كل أنواع التجارب السينمائية: «هناك صناديق دعم تم إطلاقها في بعض دول الخليج وهذا كان خشبة خلاص مهمّـة للكثير منا. لكن الحقيقة هي أن معظم ما يحصــل عليه المخرجون من دعم لا يزيــــــــــد عن بضعة ألوف من الدولارات التي لا تكفي مطلقًا لتنفيذ حتى المراحل الأولى من الفيلم».
خبرت المخرجة ما تقوله عمليًا. منذ ثلاث سنوات وهي تحاول تحقيق فيلمها الروائي الأول «ثلاثة آلاف ليلة» عانت خلالها من شح الدفع وعدم اكتمال وضع نظام فعلي يفتح الباب واسعًا أمام طموحات المخرجين: «أتمنّـى لو أن صناديق الدعم العربية تتحرك مبتعدة عن تواضع الإنجازات واعتماد سياسة جديدة تقدم من خلالها على الانتقال فعليًا إلى المحافل العالمية بما يوازي حجم وجدية ما يدور من أعمال. ليتبنّـوا النظام الإنتاجي الذي وضعه المغرب مثلاً الذي يشهد منذ سنوات نشاطًا إنتاجيًا كبيرًا».
الحال أن الحضور العربي هذا العام محدد بتواجد مراكز سينمائية عدّة (الإمارات، المغرب، تونس، الجزائر إلخ…) وبالكثير من السينمائيين الطامحين لتحقيق مشاريعهم. بعضهم كان حضر في العام الماضي مع مشروعه الأثير ويعود اليوم وهو لا يزال يمسك بمشروعه ذاته ويتمسّـك به دلالة على أنه لم يحقق القفزة من السعي إلى التنفيذ. المخرجة مي المصري تضيف: «نعم هناك حضور، وهو مطلوب وضروري وفي مكانه، لكن المخرجين العرب يعرفون أن المطلوب لتبرير هذا الحضور يفوق ما تم توفيره حتى اليوم. على الجهات السينمائية أن تتحرك معًا أو منفردة لا فرق. المهم أن تتجاوز مرحلة البداية التي طالت».
إلى ذلك، الجميع يتحرّك بلا ملل. وبعد الإعلان عن فيلم مصري أوروبي جديد عنوانه «أقبض على القمر»، كما ورد هنا في رسالة سابقة، تتكشّـف أخبار مشاريع أخرى حالية من بينها، على سبيل المثال، فيلم من تحقيق 16 مخرجا مصريا تحت عنوان «القاهرة، رؤى أمل». وحول الوضع الفلسطيني أيضًا، كحال فيلم «أقبض على القمر»، هناك عمل معروض على الموزّعين على أمل دفعه للأسواق العالمية هو «تدرّج» للمنتج رشيد عبد الحميد الذي يعمل من العاصمة الأردنية، وهو من إخراج الشقيقين عرب وطرزان أبو ناصر ويدور حول «الحرب التي شنّـتها حماس على الأهالي لتثبيت سيطرتها» كما يذكر الشقيقان في حديث معهما. الفيلم مشترك في مسابقة جانبية اسمها «أسبوع النقاد» وهو ليس الفيلم الوحيد الذي يحمل اسم «مؤسسة الدوحة للسينما» ويشترك في أحد الأقسام الجانبية. هناك أيضًا «حمل» المقدّم باسم إثيوبيا وفرنسا في قسم «نظرة ما».
في قسم «أسبوع النقاد» كذلك هناك فيلم آخر تسلم دعمًا قطريًا هو «البحر المتوسط» أخرجه الإيطالي جوناس كاربينانو وتقع أحداثه في بوركينا فاسو.
وفي قسم منفصل عن المهرجان إداريًا هو «نصف شهر المخرجين» وجدنا عملاً متعدد الجهات الإنتاجية أيضًا هو «موستانغ» لدنيز غاميز أروغوفن وهو يحمل أعلام قطر وفرنسا وتركيا وألمانيا.
المشكلة هي أن تعدد الجهات المنتجة للأفلام يجعل من الصعب تحديد الجهة المموّلة بالنصيب الأكبر. كذلك تبعًا للشركة الأم التي تبنّـت العمل أساسًا. وفي حين أن ملف المهرجان على موقعه يضم اسم إثيوبيا بين فرقاء إنتاج «حمل» إلا أنه يخفي حقيقة الاشتراك القطري في الوقت ذاته.
وما هو واضح إلى الآن من خلال تجارب صناديق الدعم والتمويل العربية الحاجة الفعلية لرفع مستوى الاشتراك حتى يستطيع الفيلم التمتع بحمل لواء البلد المنتج كجهة أولى والبدء بعدم الاكتفاء بالمكافآت المحدودة والإسهامات المتواضعة التي تنفع كبذور إنتاج لكنها لا تمنح المخرج ما يبحث عنه من اكتفاء.