«عصر أدالين»، الذي بوشر بعرضه في كل مكان، والذي كتبه سلفادور باسكوفيتز وج. ميلز غودلو، وأخرجه لي تولان كريغر، دراما حول الخلود المستحيل إلا على الشاشة. بطلته (بلايك ليفلي) امرأة جميلة في التاسعة والعشرين من العمر.. المشكلة هي أنها في التاسعة والعشرين من العمر منذ سنة 1937 عندما صدمتها سيارة. ليس فقط أنها نجت من الموت، بل تجمّد العمر بها عند ذلك الحين، وها هي - ونحن في عصر ما بعد - بعد الحداثة، وهي ما زالت بالوجه الخالي من التجاعيد وعند تلك السن التي تفصل ما بين الصبا والنضج.
لكن أدالين، كما نراها اليوم، ليست سعيدة بشبابها الدائم، والفيلم يطلب منا ألا نتعجّب لذلك، فعلى عكس ما نتوقّعه إذا ما حدث لنا ما حدث لها، الحياة بلا عجز ولا شيب أو وهن تدعو للقلق، وفي حالتها، إلى الكآبة. سبب ذلك هي أنها لم تعد قادرة على ممارسة حياتها الاجتماعية. لا أصدقاء ولا أحباب والكثير من العزلة خوفًا من أن ينكشف أمرها.
«لقد تعبت»، تعترف في النهاية للمرأة التي أدركت سرّها «تعبت من الهروب». تسألها المرأة: «تهربين ممن؟ كل من تعرفينهم ماتوا». وهو السؤال ذاته الذي طرحته على نفسي جالسًا في عتمة الصالة بين نحو خمسين مشهدا معظمها من النساء. الجمهور الذي يتوجه إليه الفيلم أساسًا.
* ارتفاع عن سطح الواقع
لدى أدالين مشكلة حقيقية: ماذا لو التقت بمن قد تحب وتزوّجت منه وكبر هو وبقيت هي في مكانها؟ كيف سيكون شعور كل منهما حيال الآخر وقد بات كهلاً بعد عقود وهي ما زالت في مثل عمرها؟ هذه أسئلة مهمّة تطرحها أدالين مباشرة أو تنساب إلينا على نحو غير مباشر لتعكس الأزمة التي تعانيها. غيرها، مثل سوبرمان وباتمان والأرملة السوداء أو ووندر وومان أو سبايدر مان أو «ذا هلْك»،، تمتع بقدرات خارقة في الوقت ذاته. هؤلاء لا يكبرون لأنهم قدموا من كوكب بعيد أو تعرضوا للدغة سامّة أو لشحنة نووية أو لأن الأفلام قدمتهم على هذا النحو. لكن أدالين ليس لديها أي قدرات خاصة: لا تطير ولا توقف القطارات بيد واحدة أو توجه أشعة قاتلة لتنقذ الآخرين من الأشرار. هي امرأة عادية جدًّا باستثناء هذه الميزة التي لصقت بها صدفة.
الفيلم يقول كيف. لكنه يمضي سريعًا بالتفاصيل لأن لا شيء علميًا ممكن هنا. المشكلة هي أنه في الوقت الذي لا تملك فيه أدالين أي مزايا خارقة للعادة، لا تملك أيضا شخصية تستحق الاهتمام بها لأكثر من فترة تأسيسها. لباقي الفيلم هي شخصية مسطّحة غالبًا وبلا نتوءات تثير الاهتمام أو تعقد الأحداث على نحو تفاعلي حاد. لكن الأزمة تبقى سائدة. تطير فوق سطح الواقع على ارتفاع منخفض حتى لا يفلت الفيلم داخل الفانتازيا كثيرًا. هذا يتضّح جيّدًا من علاقة أدالين بتلك المرأة التي تذكّرها بأن لا شيء هناك يستدعي قلقها لأن كل من تعرفهم ماتوا.. طبعًا باستثنائها. لأن تلك المرأة ذات الشعر الأبيض والسن المتقدّمة ما هي سوى ابنة أدالين. تبدو أكبر سنّا من أمها الشابّة، لكنها أصغر منها في الواقع.
إنها معضلة أراد المخرج وكاتبيه معالجتها واقعيًا ومنحها طرحًا جادًّا كما لو أن مثل هذه الحالات ممكنة. ينطلق الفيلم من فكرة افتراضية (ماذا لو..) وينتهج أسلوبًا واقعيا. هذا يشبه معالجة ديفيد فينشر لفيلمه «القضية الغريبة لبنجامين باتون» (2008) فبطله (براد بت) يشهد حياة غريبة هي الأخرى إذ وُلد، حسب قصّة قصيرة كان ف. سكوت فيتزجرالد كتبها، عجوزًا ثم بدأ الحياة من تلك النقطة عائدًا إلى الرجولة ثم أخذ ينضوي رجوعًا إلى الشباب ثم إلى الطفولة. الفكرة هناك فانتازية خالصة، لكن معالجتها درامية جادّة لا تكترث كثيرًا لما حاول فيتزجرالد الرمز إليه إذ كان رأى أن العالم قد شاخ وأنه سيعود إلى بداياته بالتدريج ثم يموت.
«عصر أدالين» و«القضية الغريبة لبنجامين باتون» ليسا بالطبع الفيلمين الوحيدين الباحثين في تلك الثقوب الزمنية التي من المحتمل لإنسان ما إن يتسلل أو تجذبه هي، كما حال «الثقب الأسود» في الفضاء إليها من دون قرار منه. يمكن للمرء المتابع أن يُحصي ما لا يقل عن مائتي فيلم آخر تتعامل وموضوع خلود الفرد بما فيها أفلام دراكولا ذاتها.
* أصغر من ابنته
في الحقيقة دراكولا، قبل أن يكون مجرد شخصية مرعبة، هو تجسيد لذلك الادعاء بالخلود البشري. وُلد في عصر الاحتلال العثماني لأوروبا ونجا من سيوفه ليجد نفسه وقد أصبح شخصية وحشية لا تموت (إلا بشروط) ولا تشيخ تتجاوز أفعالها كل ما شهده من معارك ضد الأتراك في وسط أوروبا.
كما عهدناه في عشرات الأفلام هو مصاص دماء يعيش فقط على هذا الإدمان. لا يشرب شيئًا آخر ولا يأكل طعامًا. سيموت إذا ما طلع عليه ضوء النهار أو إذا ما تم طعنه بالصليب وهو نائم. بالتالي، ما نواجهه هنا هو جانب آخر من موضوع الشخص الذي توقف الزمن به فلا يشيخ ولا يستطيع أحد النيل منه بسهولة. الثقب الزمني هنا مرهون بإرادة شيطانية كون إحدى الوسائل القليلة المتاحة للتخلّص منه هو فعل ديني محض.
على أعتابه تم استخلاص الكثير من الحكايات. المخرج المستقل جيم يارموش قدّم قبل عام فيلمه الجديد «العشاق فقط بقوا أحياء» الذي لا يذكر اسم دراكولا، لكنه يقدّم حكاية عائلة صغيرة من مصاصي الدماء تعيش ضنك الحياة الحاضرة. ليست هناك تلك البهجة في طلب الدم ولا الرغبة في البقاء ولا الاكتراث لسرمدية الحياة. الأم (اسمها إيف/ حواء وتؤديها تيلدا سوينتون) والأب (آدم، ويؤديه توم هدلستون) عاشا منذ قرون ويمرّان الآن، وربما منذ عقود، بأزمة وجود.
هذا الموضوع الجاد بدوره يخرج من نطاق أفلام الرعب لأنه ليس مصنوعًا لها. كذلك ليس هو من تلك الأفلام المتفرّعة من الأصل الدراكولي والموجّهة إلى جيل تفترض هوليوود أنه لا يمانع مطلقًا فيما أن يكون مصاص الدماء شابًا بوسامة روبرت باتنسون أو أنثى بجمال كرستن ستيوارت، وذلك في السلسلة الناجحة «ملحمة توالايت» (2010 وما بعد).
لكن ما تطرحه أفلام مصاصي الدماء ليس الحديث في الزمن بقدر ما هو حديث في الأشخاص وهذا ما يؤلف منهجًا قائمًا بذاته على العكس من الطرح الجاد للفكرة الفانتازية البادية في «عصر أدالين» أو «القضية الغريبة لبنجامين باتون». مثلهما في هذا الطرح «بين النجوم» لكريستوفر نولان الذي كان عليه أن يختار حكاية تتعامل أساسًا والفضاء الخارجي لكي يثب على موضوع الزمن الشائك.
بطله (ماثيو ماكونوهي) يستجيب لنداء الواجب ويعود إلى الملاحة لعله يستكشف كوكبًا صالحًا لحياة البشر بعدما تم دك كوكبنا هذا بكل أنواع الدمار والتلوّث. عندما تدخل مركبته، بعد أحداث جسام، في ذلك الثقب الأسود يصبح أصغر سنّا من ابنته التي تركها طفلة. هذا الحال غير البعيد تمامًا عن حال بطلة «عصر أدالين» مفسّر هنا علميًا. فسرعة الزمن الخارجي لا تقاس بتلك التي على الأرض، وبالتالي العودة من الفضاء وهو ما زال على هيئته، بينما كبر كل من على سطح الأرض عشرات السنين مسألة قابلة للحدوث.
والتعامل مع هذا الجانب من الموضوع، وتقديم ثقوب زمنية تمنح المرء القدرة على الانتقال من عصره الحاضر إلى الأمس أو إلى المستقبل موجود منذ سنوات بعيدة. رواية ه. ج. وَلز «عربة الزمن» تحوّلت أكثر من مرّة إلى فيلم سينمائي أفضلها ذلك الذي أخرجه جورج بال سنة 1960 من بطولة رود تايلور في دور ذلك العالم الذي يخترع مركبة تستطيع نقله عبر الأزمنة فإذا به يزور عددًا منها في مغامرة كبيرة متواصلة.
المخرج المعتزل نيكولاس ماير قام بالاستناد إلى الحكاية ذاتها سنة 1979 عندما حقق «زمن وراء زمن» Time After Time ليتحدث عن بطله ه ج وَلز نفسه (كما قام بتمثيله مالكولم ماكدوول) الذي يطارد سفاح لندن من زمن لآخر مارًا بأكثر من عصر من دون أن يتقدّم هو أو السفاح عمرًا.
* حكاية نورما
من الثمانينات ألفنا اعتماد الموضوع الماثل هذا في سينما أفلام الحركة والمغامرة والخيال العلمي. أبطال شخصيات الكوميكس جميعًا لديهن عقد مع الزمن لا يستطيع أحد فك شيفراته. سوبرمان وباتمان وسبايدر مان وآيرون مان والشخصيات الأخرى جميعًا، كلها توقف بها الزمن لسبب أو لآخر. يكفي أن بعضها يستطيع الدوران حول الأرض في ثوانٍ. هذا تجميد للزمن. وعندما تستطيع ووندر وومان الوجود في نقطتين متباعدتين خلال ثوانٍ قليلة فهذا أيضا لعب على الزمن.
كل هذه الأفلام والكثير سواها مما ألف مسلسلات سينمائية معروفة من بينها «هيلاندر» و«رجال إكس» وقبلهما «الرجوع إلى المستقبل»، يطرح جانبًا موازيًا. البطل ذو القوى الخارقة لا يمكن أن يكون له أب («سوبرمان») أو أب حي («باتمان»، «سبايدر مان») وذلك في استلهام ديني واضح. كذلك فإن المفهوم يحمل عقدة أوديبية في خلفية الفيلم ولو أن الغالب هو تنفيذ قرار عدم التركيز على هذا الجانب حتى لا يعرقل الخط النفسي أو العاطفي سياق الأحداث وإيقاع سردها.
تلك التي دخلت على خط الفكري استفادت من وجود عملين بارزين في الخط العريض من هذا النوع هما رواية أوسكار وايلد «صورة دوريان غراي» التي عمدت إليها السينما منذ سنة 1916 وأكثرت منها في الستينات تلفزيونيا وسينمائيًا والأسطورة التي كتبت غير مرّة «فاوست» وكلاهما يتحدث عن عقد مبرم مع الشيطان يؤمن لكل من الشخصيّتين الأساسيّتين خلودًا من دون أي عجز أو وهن جسدي. ما تعاني منه أدالين في «عصر أدالين» كانت نورما دزموند تتمناه لنفسها.
ونورما هي الممثلة التي شاخت في فيلم بيلي وايلدر «سنست بوليفارد» (1950)، لكنها ما زالت موهومة بأنها نجمة والنجوم لا تذبل. في لفتة رائعة من فيلم التأم عليه ثلاثة كتّاب بارعين، بينهم تشارلز براكيت ووايلدر نفسه، نشهد قوس قزح بلا ألوان تعيشه امرأة تخشى فتح النافذة على الحقيقة. فنورما كانت نجمة شهيرة بالأمس (أدتها غلوريا سوانسون التي بدورها كانت نجمة كبيرة وانزوت) واليوم هي ذكرى. وهذا التناول يتعلّق أيضا بالزمن، لكنه التناول الخالي من الغش.