شخصبات: شخصية تعليمية من حقبة تأسيس السعودية

طاهر الدباغ (1890 - 1959)

محمد طاهر الدباغ (وسط الصورة)
محمد طاهر الدباغ (وسط الصورة)
TT

شخصبات: شخصية تعليمية من حقبة تأسيس السعودية

محمد طاهر الدباغ (وسط الصورة)
محمد طاهر الدباغ (وسط الصورة)

يُذكر اسمُه في المجتمع السعودي مقترنًا في الأذهان بمسألتين، الأولى كيف حوّل الملك عبد العزيز انتماء الدبّاغ من جانب المعارضة التي خرجت على النظام الجديد، بعد ضمّ مملكة الحجاز إلى الحكم السعودي في منتصف العشرينات من القرن الماضي، بنقله - كما سيأتي - من معارض سياسي مهاجر إلى مشارك إيجابي فاعل في صناعة القرار في حقبة التأسيس تلك.
الثانية: أنه كما سيأتي أيضا - وبما له من خلفية تربويّة سابقة في مكة المكرمة وفي حضرموت وفي جزر إندونيسيا - كان من أفضل من تولّى حقيبة التعليم في العهد السعودي، قبل إنشاء وزارة المعارف عام 1953.
نالت سيرته قدرًا جيّدًا من الإنصاف من جانب المؤلّفين، وورد ذكره كثيرًا في معظم المصادر التي وثّقت ريادات التعليم في السعودية، وإن كان تاريخه يستحق ما هو أكثر، فكان ممن أنصفه تربوي مرموق معاصر له وهو الأستاذ محسن باروم (المتوفّى سنة 2008) في مقال ضاف نشره بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس المملكة العربية السعودية (مجلة الدارة، العددان 3 و4 لعام 2000) كما ألف عنه د. محمد الجوادي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة كتابًا من مائة صفحة، صدر سنة 2008 معتمدًا على معلومات أُسريّة عنه لكنه لم يستفد مما كتبه سابقه الباروم عنه، كما تحدث عنه العلامة حمد الجاسر في سوانح ذكرياته، وعبد الله عبد الجبار في كتابه المعروف: «التيّارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية»، وعبد الله عبد المجيد بغدادي في كتابه: «الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية»، وعمر عبد الجبار في كتابه: «سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة»، وصالح جمال حريري في كتابه: «من وحي البعثات السعودية»، ومحمد علي مغربي في كتابه: «أعلام الحجاز»، هذا بالإضافة إلى مقالات نشرتها المطبوعات التربوية كمجلة «المعرفة»، وأخرى نشرها باحثون مثل حسين بافقيه وغيره، واتفق معظمهم على أن الدباغ يعدّ من أبرز أعلام النهضة التعليمية في السعودية، وأحد زعامات النخب الوطنية، ومن رجال الدولة في العهدين الهاشمي والسعودي.
تقول الروايات المتواترة إن الدباغ المولود في مكة المكرمة عام 1890، من أسرة حجازية الأصول عاد أجدادها من المغرب، درس في مدرسة الفلاح الشهيرة في مكة المكرمة عند افتتاحها سنة 1912، وهي مدرسة أهلية أسسها محمد علي زينل في جدة أولاً ثم في مكة المكرمة. وقد انخرط الدبّاغ في النشاط السياسي، وانضم إلى الحزب الوطني الحجازي أمينًا عامًا له، وعيّنه ملك الحجاز الشريف حسين بن علي مديرًا لمالية جدة، وعندما دخلت مملكة الحجاز في الحكم السعودي سنة 1924 - 1925، آثر الدبّاغ وبعض زملائه في التنظيم الهجرة إلى الخارج، فتنقّل بين عدد من البلدان منها مصر واليمن والهند والعراق وجزر جاوة، وربما شارك بالكتابة في الصحف العربية التي كانت تصدر في إندونيسيا، وتولَّى إدارة إحدى المدارس العربية هناك، وانتهى به المطاف في عدن وحضرموت، إذ انضم مع ابن أخيه حسين عبد الله الدباغ الذي تذكر المصادر أنه نزح إلى حضرموت في الفترة نفسها وأسس مدرسة في المكلَّا، ثم ألقت القوات البريطانية القبض عليه وأعادته إلى السعودية (جازان) وتوفي فيها سنة 1942، وكان أمير جازان في حينه خالد السديري روى لي قصته في حديث تلفزيوني، وتحدثت المصادر الحضرمية عن جهودهما التعليمية الرائدة.
أما بالنسبة لطاهر (شخصيّة هذا المقال)، فاستفاد من عفو الملك عبد العزيز عن رموز المعارضة (شعبان 1354 هـ - 1935 م) وعاد إلى السعودية، فذكّره الملك في مجلسه بما كان يقوله - أي الدبّاغ - عن جهل أهل نجد وأنهم محدودو التعليم، وطلب منه أن يتولّى مديرية المعارف العامة وإحداث مدرسة لتعليم الأمراء في الرياض.
كان التعليم النظامي الرسمي في السعودية بدأ عام 1925 تقريبًا، بتأسيس مديرية المعارف العامة، تولّاها حتى تحويلها إلى وزارة عام 1953 عدد من الشخصيات اللامعة هم على التوالي: صالح بكري شطا (سنة واحدة) ومحمد كامل القصاب (سنة واحدة) ومحمد ماجد كردي (سنة واحدة) وحافظ وهبة (سنتان) ومحمد أمين فودة إمام الحرم الشريف ووالد الأديب إبراهيم فودة (ثلاث سنوات) وإبراهيم الشورى (سنتان) ومحمد طاهر الدباغ (تسع سنوات) وأخيرا محمد بن عبد العزيز المانع (نحو تسع سنوات). بقي الدباغ مديرًا للمعارف العامة نحو تسعة أعوام كما سلف، عُيِّن بعدها (1945) عضوًا في مجلس الشورى قرابة ثمانية أعوام، ثم تنقّل للعلاج بين جدة ولندن والقاهرة، وتوفي في القاهرة ودفن فيها يوم الثلاثاء 27-1-1959 مخلّفًا ستة أبناء وخمسًا من البنات كلهم أشقاء.
وعلاوةً على نشر التعليم أُفقيًّا في سائر مناطق البلاد، يُسجل له تاريخ التعليم تطويره نوعيًّا بفتح باب الابتعاث إلى الخارج، وبإحداث مدرستي تحضير البعثات ودار التوحيد، وبتغيير المناهج وبإعادة توزيع سنوات الدراسة بين مراحل التعليم، وكان ينظم الشعر إلا أنه لم يُذكر له إنتاج تأليفي سوى مشاركته بتأليف بعض كتب المناهج التعليمية.

* إعلامي وباحث سعودي



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.