ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

باتت وكرًا للجريمة.. و«حكومة الوحدة» أمام تحدي إسكات الميليشيات أو الانهيار

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب
TT

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

تسبب إعلان حكومة طبرق الليبية المعترف بها دوليا عن مقتل الصحافيين التونسيين المخطوفين في ليبيا منذ 8 أشهر في زوبعة إعلامية وسياسية داخل تونس وفي المنطقة خاصة أن الإعلان كشف كذلك عن مقتل مجموعة جديدة من الصحافيين المصريين والليبيين في بلد «ليس فيه سلطة قادرة على حفظ الأمن في البلاد».
وتزامنت الانتقادات في تونس للسلطات الليبية والتونسية - بسبب ملف الصحافيين نذير القطاري وسفيان الشورابي مع انتقادات تونسية وأوروبية لتطور ليبيا إلى وكر لجماعات الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب بما انعكس على تضاعف عدد المهاجرين غير القانونيين نحو أوروبا انطلاقا من أراضيها أكثر من 30 مرة في ظرف بضعة أشهر. فإلى أين ستسير ليبيا والأوضاع على ما هي عليه؟ وكيف تحركت السلطات التونسية بالتنسيق مع البلدان المجاورة لليبيا ودول الاتحاد الأوروبي في محاولة لتغيير الواقع على الأرض وتشكيل «حكومة وحدة وطنية» توقف النزيف وتدهور الأوضاع؟

وفي الوقت الذي تتابع فيه منظمات الصحافيين التونسيين وأطراف تونسية وليبية انتقاداتها لأداء السلطات الليبية في طبرق وطرابلس ولنظيرتها في تونس بسبب فشلها في إنقاذ حياة الصحافيين التونسيين نذير القطاري وسفيان الشورابي قام وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بـ«مبادرة علنية غير مسبوقة حول ليبيا» تمثلت في عقد لقاء تشاوري رسمي مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية حول «التسوية السياسية» للأزمة الليبية ودعم جهود الحوار السياسي الأممية حول الأزمة الليبية التي تنظم منذ أشهر في الجزائر والمغرب.

* تحت ضغط بروكسل وروما
هذا التحرك الأوروبي التونسي المغاربي لمحاولة «تسوية الأزمة الليبية» تحت ضغط من مفوضية الاتحاد الأوروبي ببروكسيل في أعقاب القمة الأوروبية الطارئة التي نظمت موفى الشهر الماضي ردا على «موجات المهاجرين السوريين والليبيين والأفارقة الذين أصبحوا يتسللون بكثافة إلى أوروبا عبر الجزر الإيطالية مستفيدين من غياب أي سلطة مركزية موحدة في ليبيا» حسب المسؤول السياسي في مفوضية الاتحاد الأوروبي بتونس حضر الاجتماع.
ولئن أعلنت العواصم الأوروبية منذ استفحال «الحرب الأهلية» في ليبيا أنها تلتزم» الحياد» في النزاعات الداخلية الليبية الليبية ثم اعترفت بـ«شرعية» برلمان مدينة طبرق - 1700 كلم شرقي العاصمة طرابلس - فقد اكتشفت أن «التحكم في كل السواحل الليبية المطلة على المتوسط التي تمتد على ألفي كلم غير ممكن إذا تواصل الفراغ السياسي في العاصمة طرابلس وفي غالبية مدنها وقراها المنتشرة في مساحة شاسعة جدا تقدر بمليون و800 ألف كلم مربع غالبيتها من الصحاري والأرياف والمناطق المهجورة».

* إيطاليا المتضرر الأول
ولئن تحافظ إيطاليا الشريك الاقتصادي الأوروبي الأول لليبيا لأسباب كثيرة من بينها قربها الجغرافي من السواحل الليبية، فإن حكومتها تعتبر نفسها «الضحية الأكبر» لانتشار ظواهر العنف السياسي والإرهاب والتهريب في ليبيا، لأن تلك الظواهر ساهمت في ترفيع منسوب تدفق المهاجرين «السريين» نحو الجزر والموانئ الإيطالية منذ اندلاع «الربيع العربي».
وتدعم روما والعواصم الأوروبية المخطط الأممية والدولية لإنهاء الاقتتال والصراعات في ليبيا بقيادة مبعوث الأمم المتحدة الإيطالي برناردينو ليون، وهي جهود ترمي أساسا إلى تشكيل «حكومة توافق وطني تضع حدا لتقسيم سلطات البلاد بين حكومتين الأولى «شرعية» في طبرق شرقا والثانية «فعلية» في العاصمة طرابلس.
ويجمع المراقبون المختصون في الشؤون الليبية على التقليل من أهمية الحكومتين الحاليتين و«كلتاهما لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من البلاد» على حد تعبير زعيم الحزب الناصري القومي التونسي ومنسق «منظمات الليبيين اللاّجئين» المحامي البشير الصيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

* نار الحرب ونار الحصار
في الأثناء تؤكد مصادر إعلامية وسياسية ليبية مختلفة التوجهات أنه «لا بديل عن تشكيل حكومة توافق وطني» بالتنسيق مع الأمم المتحدة ودول الجوار والدول الأوروبية. ويخشى الخبير الليبي مصطفى العبيدي أن يتسبب تأجيل تشكل حكومة وحدة وطنية في تمديد مرحلة عدم الاستقرار بما سيعني مزيدا من زوارق الهجرة غير القانونية وسقوط مزيد من القتلى بين الليبيين وبين الحقوقيين والصحافيين والعمال التونسيين والمصريين والأجانب على غرار جريمة قتل الصحافيين المصريين والليبيين والتونسيين مؤخرا.
وحذر الخبير الليبي فؤاد عمر من أن يجد الليبيون أنفسهم بين «ناري الحرب والحصار الإقليمي لأن تونس ومصر والجزائر قد تقوم بمضايقة المليوني ليبي اللاجئين على أراضيهم احتجاجا على قتل الصحافيين واختطاف الدبلوماسيين والعمال في ليبيا».

* خطوط حمراء اقتصادية
ويقدم عدد من الساسة الليبيين من مختلف الأطراف المتحاورة منذ مدة في تونس والجزائر والمغرب - بمشاركة رؤساء القبائل والبلديات الكبرى - أسماء كثيرة لرئاسة «حكومة التوافق الوطني» أو «الوحدة الوطنية» من بينها وزير الخارجية في عهد القذافي عبد الرحمن شلغم وأول رئيس منتخب للمؤتمر الوطني العام في 2012 محمد المقريف سفير ليبيا لدى الهند مطلع الثمانينات وأحد أبرز زعماء المعارضة الليبية طوال 30 عاما.. لكن استمرار هيمنة ميليشيات متعددة الألوان على مناطق مختلفة في ليبيا - وبينها ميلشيات محسوبة على «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» ـ معطى قد يعقد أوضاع ليبيا المنهكة بعقود من القمع وسنوات من الحرب «الأهلية» والتدمير لكل رموز الوحدة الوطنية.
وقد استفحلت المخاطر بعد بروز «خطوط حمراء اقتصادية» بالجملة حسب تصريح رئيس البنك الليبي الخارجي للاستثمار عبد الفتاح عبد الغفار لـ«الشرق الأوسط». المسؤول الاقتصادي الليبي أورد أن «احتياطي ليبيا من العملة الصعبة تدحرج من 321 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 106 فقط الآن أي إلى أقل من قيمة الاحتياطي قبل ثورة 17 يناير (كانون الثاني) 2011».

* المصرف المركزي يحذر
وحسب تأكيدات مصادر ليبية لـ«الشرق الأوسط» فإن تقرير ديوان المحاسبة الليبي أكد أن نسبة «الفساد المالي وسوء التصرف في موارد الدولة في ارتفاع «وأن قيمة النفقات العسكرية تجاوزت الـ17 مليار دولار في وقت يعتقد فيه كثيرون أن تلك الأموال ترصد أساسا لتمويل الميليشيات المتحزبة والمنحازة لبعض اللوبيات المالية والسياسية». كما حذر مصدر مسؤول من المصرف المركزي الليبيين من تراجع قيمة الاحتياطي الليبي ن العملة الصعبة بعد أن «أنفقت ما يزيد على ربع احتياطياتها من النقد الأجنبي في 2014 لتعويض الهبوط في إيرادات النفط الحيوية».
إلا أن ديوان المحاسبة الليبي في طرابلس فيقدم حقائق وأرقاما أكثر «إثارة للفزع» من بينها أن احتياطيات مصرف ليبيا المركزي من النقد الأجنبي بلغت 76.6 مليار دولار في نهاية 2014 مقارنة بنحو 106 مليار دولار قبل عام.
ويعتبر هذا الانخفاض أن «ليبيا ربما تقترب من الانهيار المالي والاقتصادي الشامل».

* عضو في الأوبك؟
وتعاني «ليبيا الجديدة» اليوم من رهانها على قطاع المحروقات - من نفط وغاز - وعدم تنويع مواردها الاقتصادية والمالية وعدم تطوير قطاعات الخدمات والإنتاج الصناعي والزراعي. واستفحلت الحصيلة السلبية لهذا الرهان بعد إغلاق أكبر ميناءين نفطيين «السدر» و«راس لانوف» في ديسمبر (كانون الأول) بسبب القتال الدائر بين فصائل موالية للحكومتين المتنافستين للسيطرة على ثروات البلاد ومؤسساتها السياسية.
كما كشفت تقارير ديوان المحاسبة والمصرف المركزي وأخرى حكومية إغلاق «ما يزيد عن اثني عشر حقل نفط هذا العام وهو ما تسبب في خفض إنتاج ليبيا من الخام إلى أقل من 500 ألف برميل يوميا وهو ثلث مستوى الإنتاج في 2010». كما ازدادت السلطات السياسية ضعفا والصراعات المسلحة على الحكم وعلى المواقع حدة بعد أن تراجعت إيرادات النفط 30 في المائة إلى 14.6 مليار دولار في 2014 أي إلى ثلث الإيرادات في 2010.

* الانهيار الشامل بعد عامين
وحذر البرلماني الليبي أبوبكر بعيبرة من سلبيات «عدم حقن دماء الليبيين فورا» وسجل أن الشعب الليبي «تعب كثيرا» وأن الدولة الليبية ومؤسساتها السيادية مثل البنك المركزي باتت مهددة بالانهيار الشامل. كما حذر مسؤولون في «ديوان المحاسبة» من أن تواصل الانخفاض الحاد في الاحتياطيات الأجنبية وسياسة الأنفاق الحالية سيتسببان في انهيار شامل للمصرف المركزي والاقتصاد الليبي سينهاران في أقل من عامين.
ويعتقد دبلوماسيون من بين المتابعين عن قرب للملف الليبي أن «الإحساس بحجم الكارثة المالية التي تهدد كل الفرقاء في صورة انهيار البنك المركزي وإنفاق ما تبقى من احتياطي العملات الأجنبية قد يدفعهم إلى التعجيل بالموافقة على إخراج البلاد من أزمتها السياسية عبر «التوافق» على حكومة وحدة وطنية تمهد لانتخاب برلمان موحد جديد.
ولعل من بين ما سيضغط على السياسيين في حكومتي طبرق وطرابلس أكثر أن «ميزانية ليبيا تخصص أساسا لتوفير مرتبات الموظفين الحكوميين ونفقات لأسعار البنزين والخبز وسلع غذائية أخرى أساسية».

* المصالحة والحسم العسكري
لكن تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية والأمنية في ليبيا لن يكون كافيا لدفع الأوضاع نحو بناء «سلطة مركزية موحدة ودولة حقيقية» حسب عالم الاجتماع والعلوم السياسية التونسي الخبير في الشؤون الليبية المنصف وناس. وفي هذا السياق تطرح مسألة الحسم بين موقفين متناقضين في طريقة «الحسم» في ليبيا هل يكون سياسيا - مثلما تريد الأمم المتحدة وتونس والجزائر وبعض العواصم الدولية ـ أم عسكريا مثلما يريد بعض «أمراء الحرب» في ليبيا الذين يحصلون على دعم من قوى إقليمية ودولية مهمة؟
ولعل العنصر الجديد هو خروج بعض القوى الإقليمية - مثل حكومات إيطاليا ومصر - عن صمتها وتلويحها بالتدخل العسكري في ليبيا إذا تمادت الفوضى التي ستتسبب في قتل مزيد من الأبرياء وفي إرسال مزيد من المهاجرين نحو أوروبا عبر الجزر الإيطالية ومالطا.
قد يحسم مثل هذا الخلاف قريبا. لكن المدير العام السابق للأمن العسكري في تونس أمير اللواء محمد المؤدب يعتبر أن «الأزمة الأمنية والعسكرية الليبية قد تستمر 20 عاما كاملة بسب تعقيداتها وتورط بعض الأطراف في عمليات ثأرية في مجتمع قبلي وهو ما سيزيد من مخاطر انتشار عصابات التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة في تونس وفي كامل المنطقة».
في نفس السياق حذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا الفريق أول سعيد الكاتب من «مخاطر التسامح مع العصابات الإرهابية التي تنتشر بسرعة في ليبيا ودول الساحل والصحراء مشكلة تهديدات جدية على تونس ومصر وبقية دول الجوار العربية والأفريقية والأوروبية».

* ورقة الأقليات
ولعل من بين ما يزيد الأوضاع في ليبيا خطورة بالنسبة لشعبها والدول المجاورة لها شمالي المتوسط وجنوبه معارضة بعض الفرقاء السياسيين لخيار إعلان مسار وطني للإنصاف والمصالحة «يساعد شعب ليبيا على فتح صفحة جديدة حقيقية» حسب تصريح الخبير الليبي عبد السلام زاقود لـ«الشرق الأوسط». لكن الكاتب الليبي السنوسي وهلي وعددا من أنصار تيار «احترام الأقليات في ليبيا» يقدمون شروطا لتحقيق المصالحة وإخراج ليبيا من نيران الحرب والحصار والفوضى من بينها «التوقف عن اعتبار القومية العربية والهوية العربية جامعة في ليبيا مع ما يعنيه ذلك من تجاهل لواقع التعدد في الألوان والتعدد العرقي واللغوي والمذهبي والغوي».
ويعتبر أنصار هذا التيار أنه «آن الأوان للحديث عن الهوية الليبية الحقيقية، التي شوهها النظام السياسي القائم على العروبة، بتغليبه للعرقية العربية على باقي الهويات الليبية الأخرى، وفرضها كهوية جامعة لليبيين مع تجاهل تام للأمازيغية والتباوية والتارقية (نسبة إلى التوارق) التي لها أراضيها وتاريخها، ولغاتها، ورموزها، كشعوب قديمة متمسكة ومحافظة على نظمها الاجتماعية والثقافية المتميزة منذ آلاف السنين رغم اعتناقها الإسلام».

* الحوار السياسي هو الحل
وزير الخارجية التونسي السابق ونائب الأمين للأمم المتحدة حاليا المنجي الحامدي أورد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحكومة التونسية وبقية الحكومات الصديقة لليبيا تتابع ما يجري من مستجدات في الشقيقة ليبيا باهتمام وهي لن تكون طرفا في الصراعات الداخلية في ليبيا وتساهم بجهود سياسية ودبلوماسية لمحاولة إنجاح جهود الحوار السياسي بين مختلف الأطراف المتصارعة إيمانا منها بأن السلاح لن يمكن من معالجة الخلافات مهما صعبت».
وذكر وزير الخارجية بكون مدينة الحمامات السياحية التونسية سبق أن استضافت مؤتمرا لدول جوار ليبيا في سياق جهود الوساطة السياسية. وقد توج مؤتمر الحمامات بمؤتمرين في كل من القاهرة والخرطوم وسلسلة من مؤتمرات الحوار السياسي في الجزائر والمغرب.

* التزام الحياد
في نفس السياق أكد السفير التونسي السابق بليبيا رضا بوكادي - الذي أعيد إلى تونس منذ نجاحه في استرجاع الدبلوماسيين المخطوفين من ليبيا واستفحال معارك مطار طرابلس - أن «من مصلحة تونس ومصر وكل الدول الأوروبية والأفريقية المعنية بالحرب في ليبيا التزام الحياد في التصعيد العسكري الميداني وتشجيع الحلول السياسية».
وفي تونس أيضا أورد القائم بالأعمال الليبي بتونس محمد المعلول لـ«الشرق الأوسط» أنه بتابع مع الجانب الليبي ومع سلطاته الشرعية «أي حكومة عبد الله الثني وبرلمان طبرق» كل مجالات التنسيق مع تونس في المجالين الأمني والعسكري والسياسي بهدف تأمين الحدود المشتركة والبوابات وحركة المسافرين في الاتجاهين وأوضاع مئات آلاف اللاجئين الليبيين في تونس الذين يراهنون على أن تسوى الأزمات الحالية في بلدهم حتى يتمكنوا من استئناف حياة طبيعية قريبا في مواطنهم وطي صفحة الماضي.

* إمّا.. وإمّا
تتقاطع المبادرات السياسية وجهود التسوية السلمية للأزمة المستفحلة في ليبيا منذ أكثر من 4 أعوام.. وتتعمق التناقضات بين عدد من أبرز الفاعلين في ليبيا.. لكن بعض المستجدات مثل قتل الصحافيين التونسيين واستفحال ملفي الهجرة والإرهاب قد تضغط على كل الفرقاء حتى يقبلوا بحقن الدماء وإخراج بلدهم والمنطقة من المأزق وإطفاء نيران الحرب التي لا تهدد ليبيا وحدها بل توشك شظاياها أن تفجر صراعات مسلحة وتتسبب في هزات عنيفة جدا في كامل المنطقة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.