انتحار المزارعين في الهند.. ظاهرة متفاقمة تؤرق المجتمع وتهدد الحكومة

ضياع المحاصيل وراء الأزمة.. ومعارضو مودي ينتقدون توجهه نحو الشركات الكبرى على حساب الزراعة

ناشطون من حزب المؤتمر المعارض يشعلون الشموع تضامنا مع مزارع أقدم على الانتحار في نيودلهي الأسبوع الماضي (رويترز)
ناشطون من حزب المؤتمر المعارض يشعلون الشموع تضامنا مع مزارع أقدم على الانتحار في نيودلهي الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

انتحار المزارعين في الهند.. ظاهرة متفاقمة تؤرق المجتمع وتهدد الحكومة

ناشطون من حزب المؤتمر المعارض يشعلون الشموع تضامنا مع مزارع أقدم على الانتحار في نيودلهي الأسبوع الماضي (رويترز)
ناشطون من حزب المؤتمر المعارض يشعلون الشموع تضامنا مع مزارع أقدم على الانتحار في نيودلهي الأسبوع الماضي (رويترز)

تشهد الهند جدلا سياسيا واجتماعيا متزايدا إثر تصاعد حوادث انتحار المزارعين، علما بأن 60 في المائة من سكان البلد يعتمدون بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الزراعة. وتلوح في الأفق أزمة زراعية طاحنة في الهند، خصوصا في المناطق التي دمرت فيها ملايين الأفدنة من المحاصيل الزراعية فيها إثر الأمطار الغزيرة والعواصف الجليدية، التي هبت في غير مواسمها خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) الماضيين. وتسببت هذه الخسائر الكبيرة في إثقال المزارعين بالديون الباهظة ودفعت العشرات منهم إلى الانتحار.
وجاءت حالة الانتحار المأساوية لأحد المزارعين الأسبوع الماضي، على مرأى ومسمع من الجميع، خلال مظاهرة سياسية حاشدة نظمت في العاصمة نيودلهي احتجاجا على قانون جديد أقرته حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، يقضي بالسيطرة على أراضي المزارعين. ودفع هذا القانون بالأزمة الزراعية الكبيرة التي تواجه الهند إلى واجهة الأحداث.
بانتحاره انضم المزارع غاجيندرا سينغ، إلى نحو 225 ألف مزارع هندي لقوا حتفهم انتحارا بين عامي 2000 و2013. وهي الفترة التي تتوافر بشأنها بيانات مكتب سجلات الجرائم الوطنية الهندية. ولم يعرف أحد شيئا عن قصص أولئك المزارعين المنكوبين - باستثناء سينغ - كما أن العدد يقترب من 1000 منتحر عام 2015.
ومن بين عشرات القرى التي زارتها «الشرق الأوسط» في ولايات نيودلهي وأوتار براديش وهاريانا وبنجاب، التي يخرج منها غالبية مشرعي البرلمان الهندي كما تعد سلة الغذاء الأولى للهند، وتنتج معظم احتياجات البلاد من القمح، كان الضرر منتشرا على نطاق كبير، وجاءت الآثار في بعض الأحيان مدمرة.
لم تكن الأمطار غير الموسمية والعواصف الرعدية والرياح العاتية المصاحبة لها، متوقعة، حيث غرقت الأراضي الزراعية في موجات من الفيضانات في غضون ساعات قليلة. وسيقان القمح التي كانت جاهزة للحصاد تقريبا إما أنها غُمرت بالمياه أو استوت بالأرض بفعل الرياح. كما تضررت الأراضي الزراعية لمحاصيل البطاطا والبصل، وهي من أساسيات المواد الغذائية الهندية. وفي حين أن غالبية المزارعين الهنود هم من متوسطي أو صغار المزارعين، فإن الكثير منهم ذوو حساسية بالغة لتقلبات الطقس العنيفة. وكان هذا هو الحال مع محمد صابر من قرية وزيربور في ولاية أوتار براديش، حيث أصابته صدمة شديدة لرؤيته الدمار الذي لحق بحقول القمح الخاصة به، حتى أنه شنق نفسه في شجرة المانجو بمزرعته في بداية أبريل الماضي. وكذلك فعل بابو سينغ، الذي عمد إلى الانتحار بعدما دمرت الأمطار حقول القمح في مزرعته ذات الخمسة أفدنة التي يستأجرها من أحد الملاك.
ويدور جدل كبير حول من يتحمل مسؤولية انتحار المزارعين. في عام 1995، أعيد توجيه الزراعة الهندية من التركيز على الأمن الغذائي الوطني، الذي يعتمد على سبل العيش والأمني البيئي لصغار المزارعين، إلى التركيز على سيطرة الشركات وأرباح المؤسسات، والذي صار ممكنا نتيجة لقواعد التجارة الحرة المعمول بها لدى الشركات، وتحرير التجارة، والعولمة. وبموجب تلك القواعد تمكن عمالقة الكيماويات الزراعية من دخول السوق الهندية وشرعوا في السيطرة على قطاع البذور. كان المزارعون قبل ذلك يزرعون ويحفظون، ويعيدون زراعة البذور، صاروا الآن مضطرين إلى شراء عبوات البذور المعالجة كيماويا التي تسمح للشركات بجني أرباح مضاعفة من المزارعين عن طريق جمع الإتاوات.
حصرت تكاليف البذور المرتفعة الزارعين في حلقة مفرغة من الديون، وشرع المزارعون المثقلون بالديون في الانتحار - بدءا من مناطق زراعة القطن بالهند، مثل فيدهاربا، وهي حزام زراعة القطن المعرض للجفاف في شرق ولاية ماهاراشترا الهندية.
في هذا العام، انتشرت حالات الانتحار إلى شمالي الهند. فهناك 20 مزارع من ولاية البنغال الغربية، الذين تحولوا من زراعة الأرز إلى زراعة البطاطا لصالح شركة بيبسي، عمدوا إلى الانتحار في مارس 2015. تجني شركة بيبسي الأموال عبر شراء البطاطا من المزارعين بأسعار زهيدة، في حين تقوم ببيعها في صورة مدخلات كيميائية باهظة التكاليف. وفي ولاية أوتار براديش، بدأ مزارعو قصب السكر في الانتحار نظرا لأن مصانع السكر لا تسدد لهم حقوقهم. وهناك أكثر من 50 مليار روبية تدين بها المصانع للمزارعين. وقد انتحر أكثر من 100 مزارع من ولاية أوتار براديش في شهري مارس وأبريل، حيث تضررت محاصيلهم جراء الأمطار غير الموسمية. ويلقي البرلمانيون الهنود بالاتهامات والتجاوزات تجاه بعضهم البعض إثر القضية التي عصفت بالبرلمان وبالشوارع في صورة مظاهرات واحتجاجات عارمة إلى جانب وسائل الإعلام.
وأمام تفاقم ظاهرة انتحار المزارعين تكثفت الانتقادات السياسية لحكومة مودي بإهمال وسوء تدبير قطاع الزراعة على حساب الاهتمام بقطاع الصناعة والشركات الكبرى. وبدأ راؤول غاندي، زعيم حزب المؤتمر المعارض، يستعرض عضلاته السياسية بعد خسارة حزبه الانتخابات الوطنية العام الماضي، وانتقد رئيس الوزراء مودي بمحاولة إضعاف القاعدة الشعبية الهندية من خلال تدابيره الموالية للشركات الكبرى. وشرع غاندي في القيام بجولات إلى مختلف الولايات الهندية التي شهدت حالات انتحار بين المزارعين. ويقول راؤول غاندي «نسيت الحكومة أن الهند هي بلاد مزارعين وليست بلاد كبريات الشركات. لقد أسس الفلاحون القاعدة الهندية الأصيلة»، قبل أن يشير إلى أن رئيس الوزراء يسعى لإضعاف تلك القاعدة الشعبية.
ووسط الهجمات التي تشنها المعارضة على الحكومة التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا حول قضية انتحار المزارعين، يقول أحد الوزراء المنتمين إلى الحزب الحاكم إن المزارعين المنتحرين ليسوا سوى «جبناء» يفرون بعيدا عن مسؤولياتهم ولا ينبغي على الحكومة توفير الدعم لهم. وبدوره، قال رئيس الوزراء مودي معبرا عن «ألمه» إنه لا يجب أبدا ترك المزارع «عاجزا» لعدة سنوات. وأضاف: «لقد كان انتحار المزارعين من مصادر القلق العميقة للبلاد، لكن المشكلة قديمة، وجذورها عميقة وواسعة. علينا البحث عن حلول ضمن ذلك السياق، وينبغي أن تكون هناك تسوية مشتركة في هذا الصدد». وتابع أن الحكومة منفتحة أمام أي مقترحات تأتي من أي جهة لحل الأزمة.
يقول اشوق غولاتي، وهو أستاذ في موضوع الاقتصاد الزراعي وعضو في القسم الزراعي التابع للجنة السياسية بالمعهد القومي للتحول الهندي، إن الهند في حاجة، أولا وقبل كل شيء، إلى تأمين زراعي شامل للمزارعين. ومن شأن ذلك التقليل من الأضرار في أوقات الجفاف والأمطار غير الموسمية. وأضاف أن الهند لديها تغطية تأمينية منخفضة للغاية للمزارعين. من بين 190 مليون هكتار من إجمالي المساحات المزروعة، هناك 15 مليون هكتار فقط ذات تغطية تأمينية. مما يعني أن التأمين لا يغطي سوى كبار المزارعين.
من الناحية السياسية، تعد هذه المشكلة بمثابة قنبلة داخلية موقوتة، خصوصا بالنسبة للتجمع الوطني الديمقراطي تحت قيادة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم. ليس فقط لأنه الحزب الأول الذي يتحمل المسؤولية بل أيضا لأنه يسعى كذلك لتوسيع رقعته السياسية في الانتخابات البرلمانية المقبلة في ولاية بيهار - وهي ولاية الاقتصاد الزراعي الأولى في البلاد.



أعمال العنف بين السنة والشيعة في باكستان عابرة للحدود والعقود

مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)
مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)
TT

أعمال العنف بين السنة والشيعة في باكستان عابرة للحدود والعقود

مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)
مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)

مرة أخرى، وقف علي غلام يتلقى التعازي، فبعد مقتل شقيقه عام 1987 في أعمال عنف بين السنة والشيعة، سقط ابن شقيقه بدوره في شمال غرب باكستان الذي «لم يعرف يوماً السلام»، على حد قوله.

متظاهرون يتجمعون بالقرب من أشياء أضرمت فيها النيران في أحد الشوارع في جارانوالا بباكستان 16 أغسطس 2023 (رويترز)

منذ يوليو (تموز)، تفيد مصادر عدة بأن 212 شخصاً قُتلوا في إقليم كورام بسبب نزاعات قديمة على الأراضي كان يفترض بسلسلة من الاتفاقات برعاية وجهاء قبليين وسياسيين وعسكريين، أن تبت بها.

إلا أنه تم انتهاك هذه الاتفاقات على مر العقود مع عجز السلطات الفيدرالية وفي مقاطعة خيبر بختونخوا عن القضاء على العنف.

فقدت القوات الأمنية الباكستانية مئات من أفرادها خلال الأشهر الماضية في الموجة الإرهابية الجديدة (أ.ف.ب)

والأسوأ من ذلك أن الهجوم الذي أجج أعمال العنف في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) استهدف السلطات أيضاً، إذ إن نحو 10 مهاجمين أمطروا موكبي سيارات تنقل عائلات شيعية كانت بحماية الشرطة.

وكان ابن شقيق علي غلام في هذا الموكب. وكان هذا الرجل البالغ 42 عاماً ينتظر منذ أيام فتح الطرق في كورام عند الحدود مع أفغانستان.

أطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق الطلاب أثناء مسيراتهم خلال مظاهرة للتنديد باغتصاب طالبة مزعوم في لاهور بباكستان 17 أكتوبر 2024 (إ.ب.أ)

«لا ثقة مطلقاً بالدولة»

وكانت الطرق الرئيسية قد قُطعت بسبب تجدد القتال بالأسلحة الثقيلة والقذائف بين السنة والشيعة.

وفي غضون أربعين عاماً، خسر علي غلام شقيقه وابن شقيقه فيما جُرح ثلاثة من أشقائه أيضاً.

ويؤكد الرجل الشيعي البالغ 72 عاماً: «لم أعرف السلام يوماً وليس لدي أمل كبير لأولادي وأحفادي لأن لا ثقة لي مطلقاً بالدولة».

ويقول أكبر خان من لجنة حقوق الإنسان في باكستان إنه في السابق «كانت الدولة تساند مجالس الجيرغا وكانت هذه المجالس القبلية تنجح في تحقيق نتائج».

ويضيف: «لكن اليوم لم تعد الدولة تغطي تكلفة استدعائهم»، لأن المسؤولين السياسيين في إسلام آباد منغمسون في الاضطرابات السياسية «ولا يتعاملون بجدية مع أعمال العنف هذه».

قتل 8 أشخاص بينهم 5 عناصر أمن جراء اشتباكات مسلحة مع «إرهابيين» في 3 مناطق بإقليم خيبر بختونخوا شمال غربي باكستان الأسبوع الماضي (متداولة)

لكن في إقليم كورما الشاسع اعتمدت السلطات والقوى الأمنية موقفاً متأنياً. فالإقليم على غرار 6 أقاليم أخرى مجاورة، لم يُضم رسمياً إلى مقاطعة باكستانية إلا في عام 2018.

وكان قبل ذلك ضمن ما يسمى «مناطق قبلية تحت الإدارة الفيدرالية» وكان يحظى تالياً بوضع خاص وكانت المؤسسات الرسمية تترك مجالس الجيرغا تتصرف.

وفي حين كانت حركة «طالبان» الأفغانية تقوم بدور الوسيط في خضم العنف الطائفي في نهاية العقد الأول من الألفية، يؤكد سكان راهناً أن بعض القضاة يفضلون أن توافق مجالس جيرغا على أحكامهم لكي تحترم.

بن لادن - «طالبان»

يقول مالك عطاء الله خان، وهو من الوجهاء القبليين الذين وقعوا اتفاقاً في 2007 كان من شأنه إحلال السلام في كورام، إن «السلطات لا تتولى مسؤولياتها».

ويشير خصوصاً إلى مفارقة بأن كورام هو الإقليم الوحيد بين الأقاليم التي ضمت حديثاً، حيث «السجل العقاري مكتمل». لكنه يضيف: «رغم ذلك تستمر النزاعات على أراضٍ وغابات في 7 أو 8 مناطق».

ويرى أن في بلد يشكل السنة غالبية سكانه في حين يشكل الشيعة من 10 إلى 15 في المائة، «تحول جماعات دينية هذه الخلافات المحلية إلى نزاعات دينية».

فلا يكفي أن كورام تقع في منطقة نائية عند حدود باكستان وأفغانستان. فيجد هذا الإقليم نفسه أيضاً في قلب تشرذمات العالم الإسلامي بين ميليشيات شيعية مدعومة من طهران وجماعات سنية تلقى دعماً مالياً.

في عام 1979، أحدث الشيعة ثورتهم في إيران فيما دخل المجاهدون السنة في كابل في حرب مع الجيش السوفياتي الذي غزا البلاد، في حين اختار الديكتاتور الباكستاني ضياء الحق معسكر المتشددين السنة.

وقد تحول الكثير من هؤلاء إلى حركة «طالبان» في وقت لاحق لمواجهة إيران وإقامة «دولة إسلامية» وتوفير عناصر للتمرد المناهض للهند في كشمير.

«سننتقم له»

تقع كورام بمحاذاة كهوف أفغانية كان يختبئ فيها زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، وكانت حتى الآن معروفة، خصوصاً بأزهارها التي تتغنى بها قصائد الباشتون. ويقول خان: «إلا أنها استحالت الآن منصة لإرسال أسلحة إلى أفغانستان. كل عائلة كانت تملك ترسانة في منزلها».

لم يسلم أحد هذه الأسلحة إلى السلطات. في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) عندما أضرم شيعة النار في منازل ومتاجر في سوق سنية في باغان رداً على الهجوم على الموكب قبل يومين، سمع إطلاق النار من الطرفين.

وقد حاصرت النيران ابن عم سيد غني شاه في متجره.

ويروي شاه لوكالة الصحافة الفرنسية: «منعنا والديه من رؤية جثته لأنه كان يستحيل التعرف عليها. كيف عسانا نقيم السلام بعد ذلك؟ ما إن تسنح الفرصة سننتقم له».

أما فاطمة أحمد فقد فقدت كل أمل في 21 نوفمبر. فقد كان زوجها في طريقه لتسجيلها في كلية الطب في إسلام آباد بعدما ناضلت من أجل إقناع عائلتها بالسماح لها بمتابعة دروسها.

إلا أنه لم يعد. وتقول أرملته البالغة 21 عاماً إنها لا تريد «العيش بعد الآن من دونه». وتؤكد: «لم يقتلوا زوجي فحسب بل قتلوا كل أحلامي معه».