رغم ترفيع العقوبات التي تسلطها المحاكم التونسية على كل من يقوم بتهريب مهاجرين غير قانونيين عبر البحر المتوسط إلى أكثر من عشرين عاما سجنا وغرامات مالية هائلة، لا يزال عدد من قادة مراكب التهريب تونسيون وليبيون بينهم محمد علي مالك قبطان السفينة التي تسبب غرقها الشهر الماضي في مقتل 800 مهاجر غالبيتهم من السوريين والليبيين والأفارقة، يواصلون أعمالهم المميتة.
القبطان التونسي الشاب، 27 عاما، أحيل مع مساعده السوري محمود بخيت، 25 عاما، على محكمة «كاتانيا» في إيطاليا، في وقت تجمع فيه وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي ثم نظمت قمة أوروبية طارئة عن الهجرة السرية في خطوات كشفت أن زعماء الدول الأوروبية لا يزالون يتعاملون مع هذا الملف تعاملا «أمنيا وقضائيا» رغم تضاعف عدد المغامرين بحياتهم في مياه المتوسط خلال الأشهر الأولى من العام الحالي 30 مرة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي الذي شهد بدوره «قفزة كبيرة» في عدد «الحارقين» لأسباب كثيرة من بينها الفرار من جحيم «حروب الربيع العربي» التي تسببت في تشريد نحو 12 مليون سوري و3 ملايين ليبيي أي نحو نصف شعب ليبيا.
فؤاد الزواري أحد الناجين ال28 من الموت أورد في تصريح بالهاتف قال لـ«الشرق الأوسط» أنه فقد في هذه «الكارثة البحرية العظمى» زوجته وابنه وعشرات من أصدقائه وأقربائه الليبيين والسوريين الذين شاركوه هذه «المغامرة النحسة» والتي تسببت في مقتل نحو 800 راكبا «كانوا واهمين» لأنهم صدقوا أن «الأموال الطائلة التي دفعوها - نحو 4 آلاف دولار عن كل فرد ـ ستضمن لهم السلامة في مركب كبير ومؤمن بخلاف الزوارق التقليدية التي كانت تغرق غالبا خاصة إذا كانت الرحلة في مرحلة اضطراب البحر وأمواجه في الشتاء والربيع».
فؤاد كان يبكي وهو يستحضر على الهاتف قصة اتفاقه مع زوجته وبعض أصدقائه الليبيين واللاجئين السوريين الذين قدموا من إسطنبول إلى ميناء «زوارة» الليبي خصيصا للفرار من «جحيم الحرب»: الحرب المدمرة في ليبيا والاقتتال والفتن الطائفية في سوريا.
تنسيق مع مهاجرين ناجين
الليبي فؤاد الزواري أورد أنه غامر بحياة شريكة عمره ذات الـ26 ربيعا وبابنه ذي 8 أعوام بعد «عملية تنسيق» مع بعض الناجين الليبيين والتونسيين في عمليات هجرة سابقة العام الماضي بينهم ابن عمه حمزة الذي حصل بعد مدة وجيزة من الإيقاف والتتبعات في إيطاليا «وثيقة سفر وقتية تسند إلى المرشحين للجوء الإنساني». انتقل بعدها سويسرا التي تمنح مع ألمانيا فرصا أفضل للإقامة في مراكز إيواء الفارين من الحروب والاضطهاد شمالي شرقي مدينة لوزان وتمكنهم من فرص تعلم اللغة الألمانية ومهنة مع منحة مالية رمزية لفترات تتراوح بين 6 أشهر وعام.
برمج فؤاد مع زوجته الغريقة وابنه أن يتبعا نفس الطريق في انتظار البحث عن «بديل» من خلال التنسيق مع أقارب وأصدقاء ليبيين آخرين انتقلوا إلى البلدان الاسكندنافية أو حصلوا على بطاقات ترسيم في جامعات بريطانية «حيث آلاف الطلاب ورجال الأعمال الليبيين وعائلاتهم منذ عقود».
استياء ونقمة في تونس
وفي ضواحي العاصمة التونسية الفقيرة مثل «دوار هيشر» و» حي التضامن «كان رد الفعل على غرق المركب وعلى متنه 800 راكبا مواكب عزاء و«صلاة الغائب».
في شارع خالد بن الوليد المجاور للسوق الشعبي التقت «الشرق الأوسط» الشابين نور الدين ومحمد علي حيث لخصا معضلة الشباب في حارتهما ذات الـ200 ألف ساكن، والتي فقدت مئات من شبابها في البحر أو في حروب سوريا وليبيا والعراق».
في شارع واحد خسرت العائلات 13 من أبنائها في حروب «الربيع العربي». إنه النفق المظلم ثلث شبابنا يموت في البحر غرقا وثلث يهاجر مع الجماعات المتطرفة للحرب وثلث ممزق بين المخدرات والحشيش في تونس.
زميلهما سليم الوسلاتي ترحم على أرواح «أولاد الجيران» الذين ماتوا غرقا في البحر وتذكر حوادث مؤلمة سابقة تبدأ بقصص «تبرعات» من أفراد العائلة للشباب الذي يحلم بالهجرة «إلى جنة أوروبا» وتنتهي غالبا بالغرق أو بالاعتقال في سجون إيطاليا ومالطا بدءا من مراكز الإيقاف في جزيرة «لمبادوزا» التي يفصلها عن السواحل التونسية 70 ميلا يمكن قطعها في أقل من ساعتين ليلا على زورق متوسط إذا لم تعترضه العواصف أو قوات خفر السواحل التونسية أو الأوروبية والأطلسية.
الرئيس التونسي يحتج
وفي تعقيب من الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على هذه الحادثة وعلى استفحال ظاهرة الهجرة السرية بين السواحل التونسية والليبية وسواحل إيطاليا ومالطا احتج خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الألماني في قصر قرطاج على «وجهة النظر التي تعتبر سلطات تونس وبلدان جنوب المتوسط مكلفة بدور الشرطي لحماية حدود أوروبا الجنوبية ومنع المهاجرين غير القانونيين من التسسل إلى بلدان الشمال».
ومضى قائد السبسي قائلا: «هذا ليس دورنا وليس مطلوبا منا ونحن لا نقبل مثل هذا وليس لدينا تجهيزات وموارد تمكننا من إنجاز ما عجزت عنه الدول الأوروبية» قبل أن يطالب كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي بإعادة فتح ملف الهجرة القانونية وغير القانونية والتفاوض مع تونس وبلدان جنوب المتوسط حول الطرق الأنجع للتعامل معه ضمن رؤية شاملة «لا تختزله في مشكل أمني بحت».
أين الـ25 مليار دولار؟
وخاطب الرئيس التونسي أوروبا بلهجة تحد قائلا: «نحن نستقبل منذ 2011 سنويا أكثر من مليون مهاجر ليبي وفتحنا بلدنا لمهاجرين من كل الجنسيات من بين الفارين من حرب ليبيا، وهو ما يكلف ميزانيتنا سنويا نحو 6 مليارات دولار رغم الصعوبات الكبيرة التي تمر بها البلاد، وأوروبا تقيم الدنيا وتقعدها بسبب آلاف المهاجرين الجدد وتتردد في معالجة الملف من منطلقات إنسانية واقتصادية ولا تقدم لنا إلا الوعود المعسولة بالمساعدة بينما لم نستلم أي فلس من الـ25 مليارا التي وعدتنا بها الدول الغنية السبعة منذ كنت رئيسا للحكومة في 2011».
كما سجل الرئيس التونسي في مؤتمره الصحافي المشترك مع الرئيس الألماني أن «الغالبية الساحقة من المهاجرين الذين يتسللون إلى إيطاليا ومالطا من تونس وليبيا ليسوا تونسيين. وأورد قائد السبسي أن من بين الـ22 ألفا الذي تسللوا إلى أوروبا بعد أسبوع من سقوط حكم بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011 قدر عدد التونسيين بـ80 فقط أي إن تونس وليبيا تعتبران أساسا بلد عبور».
عائلات المفقودين والمعتقلين
في الأثناء تتابع عشرات الجمعيات غير الحكومية التونسية دعم تحركات «عائلات المفقودين والمعتقلين» في حوادث غرق سابقة في البحر الأبيض المتوسط بناء على تقارير أمنية وأخرى صحافية أكدت «نجاة عشرات المهاجرين التونسيين في عمليات هجرة سرية سابقة ثم اعتقالهم في سجون إيطالية لأنهم رفضوا الإدلاء بهوياتهم حتى لا تقع إعادة ترحيلهم إلى مواطنهم».
وتجري منذ 3 أعوام مفاوضات مطولة بين الجانبين التونسي والإيطالي حول ملف هؤلاء المفقودين في محاولة لغلقه لكن الاختلافات كبيرة بين الطرفين لأن تونس ترفض استقبال مهاجرين ليس لديهم ما يثبت هويتهم التونسية في وقت يرفض فيه المعتقلون الكشف عن هوياتهم الحقيقية. وبلغت المفاوضات حد تسخير أجهزة تحليل «دي إن إيه» لكن المهاجرين المعتقلين رفضوا إجراءها حسب مصادر حقوقية تونسية.
عدد قياسي للضحايا
وقد أورد رضا الكزذغلي المدير العام لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية لـ«الشرق الأوسط» أن عام 2014 أكبر عدد من الضحايا بين المهاجرين غير الشرعيين، وأكبر عدد من النازحين واللاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب ما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة، بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين الموافق الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) سنويا.
وأورد المدير العام للمنظمة العالمية للهجرة في مؤتمر نظمه مركز تونس لجامعة الدول العربية ويليان لايسي «إن عام 2014 سجل سقوط 4868 مهاجرا صرعى، إما غرقا في عرض البحر، أو جوعا وعطشا في الصحاري النائية أو الجبال، ما يجعل من هذا العام هو الأكثر دموية على الإطلاق بين من يحاولون البحث عن حياة أفضل، حيث تضاعف عدد الوفيات مقارنة بالعام الماضي».
وأورد لايسي أن «عدد الغرقى في البحر الأبيض المتوسط فاق أكثر من ثلاثة آلاف شخص جراء ركوب قوارب غير صالحة للاستخدام، فيما غرق نحو 540 مهاجرا في خليج البنغال، ووفاة ما لا يقل عن 307 خلال محاولتهم عبور الحدود البرية بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية».
وسجل مدير عام المنظمة العالمية للهجرة أن العام الحالي «شهد أعلى رقم مسجل للنازحين داخل دولهم، وهو 33.3 مليون، وللاجئين خارج دولهم، وهم 16.7 مليون نسمة، وهو أعلى رقم مسجل منذ الحرب العالمية الثانية».
اتفاقية برشلونة 1995
في الأثناء تطالب القيادة الإيطالية شركاءها في فضاء شينغن وبقية دول الاتحاد الأوروبي بـ«تحمل مسؤولياتهم» معها بعد أن قدر عدد المهاجرين غير القانونيين في عام 2014 وحده نحو 130 ألفا.. مقابل تقديرات تحوم حول 40 ألفا قبل «حروب الربيع العربي» و«تدمير» كثير من مؤسسات السلطات المركزية والدولة الوطنية في عدد من دول جنوب المتوسط بينها تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن..
لكن علماء الاجتماع والحقوقيين في جنوب المتوسط - مثل الأستاذ مهدي مبروك المختص في ملف الهجرة غير القانونية - يعتبرون أن سقوط مئات القتلى بصفة منتظمة غرقا في البحر الأبيض المتوسط «من بين مؤشرات فشل اتفاقية برشلونة الأورو متوسطية» المبرمة في 1995 والتي وقع تأكيدها في القمة الأورو متوسطية في برشلونة أيضا في 2005 ثم خلال سلسلة من الاتفاقيات المشتركة ثنائيا وإقليميا.
وكانت كل تلك الاتفاقيات أكدت على بناء «فضاء أورومتوسطي يضمن حرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين دول ضفتي المتوسط أي بين الـ28 بلدا أوروبيا و12 بلدا من جنوب المتوسط».
الموت في بلدانهم أو الغرق
في نفس السياق ينتقد عدد من خبراء السياسة الدولية والحقوقيين المغاربيين والعرب - مثل الجامعيين حسن الرحموني من المغرب ورشيد التلمساني من الجزائر - في اختزال «التعامل مع ملف الهجرة» في ردود فعل أمنيين وعسكريين بينهم ثلة من كبار المسؤولين في الحلف الأطلسي عن «الهجرة السرية»..
وينتقد خبراء ليبيون وسوريون عراقيون - مثل نعمان عثماني - «تجاهل العواصم الأوروبية والأطلسية لحجم المأساة التي يعيشها عشرات ملايين المواطنين العرب منذ تدهورت الأوضاع الأمنية في بلدانهم أي منذ حرب احتلال بغداد في 2003 ثم حروب «الربيع العربي».. فأصبح ملايين المواطنين العرب مخيرين بين الموت قتلا في بلدانهم أو الموت غرقا لا سميا بالنسبة للمواطنين السوريين والليبيين الذين تطل سواحلهم على البحر الأبيض المتوسط ويغامرون بالفرار نحو أوروبا «هربا ن القتل» وإن كان سيناريو الموت غرقا واردا جدا.
15 مليون لاجئ سوري وليبي
وإذ يحمل كثير من الساسة العرب - مثل الجامعيين الليبيين عبد الله زيدان وفؤاد عمر - سلطات باريس ولندن وروما وحلفاءهم الأطلسيين مسؤولية «حروب الربيع العربي» فإنهم يعتبرون أن من بين واجباتها الأخلاقية والسياسة العاجلة «إيجاد حلول جذرية للأسباب العميقة للهجرة السرية» وعلى رأسها غياب الأمن والاستقرار في بلدان كانت مستقرة قبل «التدخل الأطلسي» المباشر وغير المباشر على غرار ما جرى في ليبيا وسوريا والعراق واليمن.
ويستدل الباحث الليبي محمد الفيتوري بوجود نحو 3 ملايين لاجئ ليبي حاليا في كل من تونس ومصر والجزائر ونحو 12 مليون لاجئ سوري في دول كثيرة أغلبهم في تركيا والأردن ولبنان..
ملايين في قائمة الانتظار؟
ولئن سبق لبعض العواصم الأوروبية - خاصة في البلدان الاسكندنافية - أن استضافت خلال الأعوام الماضية آلاف المهاجرين الهاربين من الموت في العراق وسوريا وليبيا والصومال فإن تقديرات المنظمة العالمية للهجرة ترجح أن يكون ما لا يقل عن مليون سوري ومئات آلاف الليبيين والعراقيين واليمنيين والمصريين.. «في قائمة الانتظار» أي أنهم يسعون بكل جهد للرحيل من بلدانهم خوفا من القتل وحملات الانتقام الجماعية و«الثأر» على أسس قبلية وطائفية وعرقية ومذهبية..
تخوفات من أقصى اليمين
لكن اليسار الأوروبي والمنظمات الحقوقية في عدة لبلدان غربية - خاصة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا - تعتبر أن «فتح الحدود أمام أمواج من المهاجرين الجدد «سيعني ببساطة مزيد خدمة» الأحزاب اليمينية المتطرفة و«والمنظمات العنصرية والمعادية للعروبة والإسلام».
إنه الدوران في حلقة مفرغة..