قراصنة الكتب.. «فاعلو خير» أم «لصوص» يفلتون من العقاب؟

مؤسسات تعمل على تطوير «إي ـ بوك» بالعربية أملاً في الحد من أذاهم

إعلان لمكتبة «نيل وفرات» الإلكترونية
إعلان لمكتبة «نيل وفرات» الإلكترونية
TT

قراصنة الكتب.. «فاعلو خير» أم «لصوص» يفلتون من العقاب؟

إعلان لمكتبة «نيل وفرات» الإلكترونية
إعلان لمكتبة «نيل وفرات» الإلكترونية

هل ثمة من لا يعرف «أبو عبدو البغل»؟
يكاد كل عشاق الكتب العرب، والمدمنون منهم تحديدًا على القراءة الإلكترونية، يزورون صفحة هذا المقرصن المحترف، الذي لا يترك كتابًا إلا ويوفره للراغبين فيه بالمجان. وإضافة إلى العربية، بمقدورك أن تكتب لأبو عبدو وتطالب بمؤلفات إنجليزية لا تستطيع الوصول إليها، والرجل لن يتردد في فعل المستحيل لخدمتك وبالسرعة الممكنة. «فيترين» أبو عبدو مليئة بالكتب القديمة والجديدة كما المجلات والمفقود من المؤلفات، ومثله ستجد صفحات إلكترونية كثيرة أخرى لا هم لها سوى توفير الكتب التي تحتاج تنزيلها بالمجان، وثمة تسابق أيضا للحصول على ما يصدر حديثًا، وفور وجوده في المكتبات. فمفهوم كثير من هؤلاء المتطوعين لسرقة الكتب وتعميمها، أنهم «فاعلو خير»، ويكدّون في خدمة القراء ونشر المعرفة.
رنا إدريس، صاحبة «دار الآداب»، تعترف وهي تضحك أن 99 في المائة من كتب دارها موجودة على الإنترنت إن لم يكن مائة في المائة منها: «هؤلاء المتطوعون يسابقوننا بسرعة قياسية لتنزيل الكتب فور إصدارنا لها»، وتكمل: «فور إصدار الكتاب، المقرصنون يشترون نسخة، يصورونها، ويضعونها على الإنترنت. حاولنا ردع بعضهم بالكتابة إليهم وتنبيههم حين نستطيع. هناك من تجاوب وسحب النسخ، لكن مقابل من نكتب لهم يوجد عشرات آخرين، يفلتون منا. من نتابع؟ وكيف؟ الموضوع معقد، ونحن لا قدرة لنا على ملاحقة الجميع».
رشا الأمير، صاحبة «دار الجديد»، تعكف على إصدار كتابين جديدين، تبذل من أجلهما جهدًا كبيرًا في الوقت الحالي، وتعرف أنها بمجرد أن تصدرهما سيكونان قد تمت قرصنتهما، ونشرهما في الإنترنت مجانًا: «لكن ماذا نفعل؟ هل نتوقف عن العمل؟ هؤلاء يجففون مصادر رزق الناشرين. يوجد ما يشبه الحرب، الموضوع يتخطى قرصنة الكتب الأدبية البسيطة وإيذاء ناشرين ليصل إلى قرصنة أسرار علمية وربما نووية، على المستوى العالمي. وهناك مؤشرات تدل أحيانا على أن دولاً كبيرة قد تقف وراء أنواع من القرصنة بلغة ما ضد لغة أخرى، أو أمة ضد غيرها. لعله من التبسيط الوقوف عند حدود القرصنة الأدبية أو الأكاديمية وحدها».
يختلف الناشرون، حول مدى ما ألحقه بهم القراصنة الإلكترونيون من أذى، منهم من يعتبر أن البيع انخفض بنسب كبيرة، والبعض الآخر، يرى أن الإلكتروني لا يغني القارئ عن الورقي.
بشار شبارو، مدير «دار ضفاف»، يرى أن النشر الورقي تأذى بشكل كبير من القرصنة، بينما رنا إدريس ترى أن انخفاض المبيع جاء بسبب إقفال الأسواق العربية ونتيجة الحروب والأزمات الكبيرة، وإغلاق كثير من الحدود، وإفقار الناس، وليس على الإطلاق وجود الكتب على الإنترنت. وتكمل إدريس: «نحن محظوظون أننا متخصصون في الرواية التي يحب القارئ أن يسترخي عند قراءتها ويقلب صفحات كتابه. نلحظ أن هناك من يقرأ جزءًا من رواية على الإنترنت ثم يعود ويشتريها ليكملها بهدوء. بعكس الدراسات والكتب الأكاديمية التي يكتفي المستخدم، بمراجعة المقطع الذي يعنيه منها».
ثمة سؤال يطرح نفسه أيضًا، كيف لا يلجأ القارئ العربي، مهما كبرت نخوته وحرصه على حقوق الملكية الفكرية والأدبية، إلى القرصنة، طالما أن الكتاب الجديد لا يصله أحيانا إلا في معرض الكتاب والقديم مفقود؟ سوء التوزيع أحد الأمراض المزمنة في سوق الكتب، وزادت الوطأة مع تعذر التنقل بسبب الحروب. هذه المشكلة بات التغلب عليها ممكنًا عبر الإنترنت، وقد يكون الحل ببدء نشر الكتب إلكترونيًا، أو بصيغة الـ«إي - بوك» وبيعه على هذا النحو، وحفظ حقوق الجميع.
لا يبدو الناشرون العرب، حين تتحدث إليهم، متحمسين لفكرة تسويق كتبهم إلكترونيًا، بدل تركها نهبًا للقراصنة، ولهم في ذلك أسبابهم، منها أن الكتاب الإلكتروني لا يزال تقنيًا غير متقن باللغة العربية. وهنا تشرح رشا الأمير أنها قضت 10 أيام مع أحد المبرمجين للتغلب على عقدة الشدة والهمزات، لكنها لم تصل إلى نتيجة، بينما تتحدث رنا إدريس عن وسيلة أخرى للنشر الإلكتروني تطرحها بعض المؤسسات القليلة التي باتت تعمل في هذا المجال، وهي نشر الكتاب مرفقًا بإعلانات إلى جانب صفحة الكتاب المزود بعداد. وتعرف الشركة المشغلة عدد الذين قرأوا الكتاب، وبالتالي تدفع لدار النشر تبعًا لعدد المتصفحين.
هناك ريبة من الناشرين، وخوف فعلي، وتردد كبير في الدخول في أي نشر إلكتروني، وهناك من يسأل: من يستطيع أن يضبط العداد ويخبرنا إن كان التلاعب فيه ممكنًا أم لا؟ ماذا إذا أبحنا كتبنا إلكترونيًا، بنسخة «إي - بوك» وتمت قرصنتها؟ ألن يقال لنا بعد ذلك أنتم الذين استبحتم كتبكم، وسهلتم قرصنتها.
وبينما ينتاب الرعب الناشرين، من متغيرات لا يعرفون كيف يتعاملون معها، وما هو مستقبل مهنتهم في ظلها، يستفيد المغامرون والمؤمنون بالتكنولوجيا من الفرصة، ويحاولون أن يواكبوا ويجددوا، وهم يراهنون على أن الجميع سيضطر للحاق بالركب مهما كابروا وترددوا.
في مؤسسة «نيل وفرات» التي تضم نحو 30 موظفًا، وعرفت لدى جمهور القراء ببيع الكتب بالنسختين الورقية والإلكترونية عبر الإنترنت، ورشة عمل دائمة لتطوير الـ«إي - بوك» بنسخته العربية. فريق عمل تقني صغير لكنه فعال، يواصل البحث عن حلول لمشكلات تقنية لا تزال عالقة. فالكتابة بالإنجليزية تطبيقاتها متوفرة، لكن النشر الإلكتروني بالحرف العربي له خصوصيته، ويحتاج تطبيقات مختلفة يتوجب العمل عليها، وهو ما يقومون به هنا. وهم مؤمنون أن لكل عقدة حلاً، والمسألة تحتاج إلى وقت بسيط، وجهد مستمر.
ولكن، ما معنى صرف كل هذه الجهود على تطوير «إي - بوك»، لبيعه لقارئ يستطيع تنزيل الكتاب الذي يريده بالمجان؟ لا تريد «النيل وفرات» الاستسلام لهذه الفكرة. غيدا برّاج، مسؤولة التسويق في المؤسسة، تعتبر أن تنزيل كتاب مقرصن بصيغة «بي دي إف» يختلف تمامًا عن «إي - بوك» بكل ما له من مميزات وما يقدمه من خدمات «فالكتاب بهذه النسخة، الذي تنتجه (نيل وفرات)، مزود بقاموس عربي - عربي، ليقدم معنى أي كلمة يتعذر معرفة معناها. وهو أيضا معد للقراءة الليلية المريحة بخلفية سوداء بينما الأسطر بالخط الأبيض، وكذلك قد يكون النص مقرونًا بفيديو، في حال أرادت دار النشر ذلك، ويتم العمل حاليًا على خاصية «أوديو»، كي يصبح الكتاب مقروءًا ومسموعًا في آن معًا، إضافة إلى أن المؤسسة تعمل على نظام (الصفحة الحقيقية) مما يتيح للباحثين، الاستشهاد بالمقطع الذي يريدون وكأنهم يتعاملون مع كتاب ورقي، بحيث إن الصفحة الإلكترونية تكون موازية تمامًا ومطابقة في محتواها للصفحة الورقية وتحمل الترقيم نفسه.
وحفاظًا على حقوق المؤلف ومنعا للنسخ والتصوير، فإن خاصية الاقتباس، التي تظهر مقرونة باسم الكاتب والكتاب ورقم الصفحة، لا يمكن أن تتجاوز الأسطر الثلاثة. وهناك إيجابية أخرى وهي توفير البحث عن كلمة في الكتاب أو عبارة مما يسهل العمل على الباحثين. هذا كله سيشجع على شراء نسخة «إي - بوك» التي هي أقل ثمنًا بـ30 في المائة من النسخة الورقية، وبالتالي ينافس التنزيل المجان بشكل كبير، أو هكذا يفترض.
«نيل وفرات» بات في جعبتها 5 آلاف كتاب بنسخة إلكترونية تبيعها لقرائها. وحين نتحدث عن فتور لدى الناشرين في مواكبة هذه التطورات، وتخوف من فقدان حقوقهم، ترى غيدا برّاج أن «الأيام المقبلة ستثبت أن هذه خطوات لا بد منها. وفي الوقت الحالي، هناك طلب من مدارس وجامعات، لتشكيل مكتبة إلكترونية إلى جانب مكتباتهم الورقية، وثمة دور نشر ترغب فعلا في مجاراة هذا التطور». تتابع غيدا: «العمل جار على قدم وساق، وسيرى الكتاب والناشرون تدريجيًا، أن حقوقهم محمية معنا، وأن ملفاتنا لن تقرصن ولن تسرق». غيدا تشرح أن كل مؤسسة عربية تنشط حاليًا في هذا المجال، تحاول أن تبتكر نظامها الخاص، «ونحن لنا نظامنا الذي نطوره ونعتقد أن له ميزات ليست لغيره، خصوصا نظام الصفحة الحقيقية، التي لا أعتقد أن أحدًا قد سبقنا إليها فيما يخص الكتاب العربي».
الكتاب الورقي لا يزال هو الأكثر رواجًا بالتأكيد، لكنه يخسر رصيده تدريجيًا، ولو ببطء. قرصنة الكتاب العربي، باتت لبعض الدور هاجسًا مرعبًا ليس له من مرد. «بعض الناشرين حاولوا مخاطبة غوغل لمنع ظهور المواقع المقرصنة على محركها، لكنها لم تتجاوب ولم تحرك ساكنًا»، بحسب ما تقول رنا إدريس. يجمع الناشرون على أن سرقة الحقوق الفكرية والأدبية هي ثقافة كما أن حمايتها واحترامها من قبل الأفراد هي ثقافة أيضًا. و«القارئ العربي الذي تربى على فكرة أن الناشر يسرق المؤلف، يجد، ربما أن سرقة الأول تصبح حلالا»، بحسب إدريس. لكن رشا الأمير تحمل المسؤولية للجميع، وتعتبر «أننا كلنا متواطئون، بشكل أو بآخر، لأننا نصمت حين نستفيد، ونوافق لحظة تكون القرصنة مواتية لنا، ونثور حين تمسنا بسوء. وبالتالي فالقرصان سينتصر دومًا بحماية الدول والجمعيات والمؤسّسات المارقة».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!