مالي.. المصالحة الصعبة

«إقليم أزواد» بات معضلة لمنطقة الساحل الأفريقي والمتهمين بأمنها

مالي.. المصالحة الصعبة
TT

مالي.. المصالحة الصعبة

مالي.. المصالحة الصعبة

بعد ثمانية أشهر من المفاوضات العصيبة، تسلّمت الوفود التي تمثل حكومة دولة مالي وست حركات مسلحة في شمال البلاد، في أحد فنادق العاصمة الجزائرية، مقترح اتفاق لإنهاء الصراع الذي بدأ منذ عدة عقود وتجدد قبل ثلاث سنوات بتمرد مسلح كاد يعصف بكيان الدولة في مالي. وشكل المقترح الجديد آخر أملٍ لدى الوساطة الدولية في التوصل إلى حل سلمي بين أطراف الأزمة.
الاتفاق الجديد حظي بمباركة الحكومة وثلاث حركات مسلحة موالية لها، ووقعته في 1 مارس (آذار) الماضي، فيما رفضت ثلاث حركات أخرى التوقيع عليه متحفظة على بعض بنوده وخلوه من نقاط تعدها محورية في أي حل للأزمة. وبالتالي، المجموعة الدولية لجأت إلى سياسة الجزرة والعصا في التعامل مع أطراف الأزمة، ولوحت بفرض عقوبات على من يرفض التوقيع على الاتفاق.

مقترح الاتفاق الذي ومن شأنه أن ينهي الصراع في مالي وإن كان يواجه صعوبات كبيرة إلا أنه يحمل معه الأمل في استعادة الاستقرار في هذا البلد الواقع في غرب القارة الأفريقية والذي يعد واحدا من أفقر بلدان العالم، ويعاني من حالة انقسام حادة ما بين الشمال الذي تقطنه أقلية من العرب والطوارق، والجنوب الذي تسكنه عرقيات أفريقية تشكل الأغلبية وتهيمن على الحكم في البلاد، وتتهم من طرف الطوارق والعرب بتهميش الشمال وتركه فريسة للفقر والجهل وانعدام البنية التحتية.
هذا الوضع قاد إلى ظهور حركات تمرد مسلحة مباشرة بعد استقلال مالي عن المستعمر الفرنسي عام 1960. وظلت تتجدد بشكل دائم حتى التمرد الأخير الذي بدأ يناير (كانون الثاني) من عام 2012، وأسفر عن سيطرة الجماعات المسلحة على شمال مالي وإعلان الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وهي واحدة من أكبر الحركات المسلحة المتمردة، استقلال دولة أزواد. ولكن هذا الإعلان ظل من جانب واحد ولم يحظ بأي اعتراف دولي، قبل أن تتراجع عنه الحركة لتدخل في مفاوضات شاقة مع الحكومة المركزية تطالب فيها بـ«الاستقلال الذاتي» أو على الأقل «نظام فيدرالي» يمكنها من إدارة الإقليم.
الجزائر بحكم قربها من شمال مالي، وتأثرها المباشر بتدهور الوضع الأمني في المنطقة، ظلت حاضرة بقوة في المعادلة الأمنية والسياسية في مالي، حيث استطاعت خلال عمليات التمرد التي عاشتها مالي في العقود الثلاثة الماضية أن تكون الحاضنة لمفاوضات شاقة أسفرت عن اتفاقية تمنراست 1991 والميثاق الوطني عام 1992، بالإضافة إلى اتفاقية الجزائر عام 2006. ولكن جميع هذه الاتفاقيات وإن كانت نجحت في إخماد التمرد وتهدئته، إلا أنها لم تنجح في حل معضلة «إقليم أزواد» المزمنة، التي أصبحت تشكل صداعا لمنطقة الساحل الأفريقي المضطربة.

دروس الماضي

تحاول الجزائر في الاتفاق الجديد أن تتفادى أخطاء الاتفاقيات السابقة، والوصول إلى حل نهائي لأزمة شمال مالي، وذلك من خلال قيادتها لفريق الوساطة الدولية الذي يضم بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية والبلدان المجاورة لمالي: النيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد.
واجه فريق الوساطة الدولية في البداية صعوبة كبيرة من خلال تسمية «أزواد»، حيث يصر المتمردون على أن يتضمن الاتفاق اعترافا رسميا بتسمية «أزواد» وذلك بوصفه «هوية جغرافية وسياسية محددة، ولديه شخصيته المستقلة التي تعطيه الحق في حكامة مبنية على تاريخه وواقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي»، وهو المطلب الذي ما تزال الحكومة المالية ترفضه حتى الآن وتعتبره مساسا بوحدتها الترابية.
ومن جهته، حاول فريق الوساطة الدولية أن يخرج من الإحراج باستخدام عبارة مطولة «شمال مالي الذي يسميه البعض أزواد». وفي نص الاتفاق الجديد توجد دعوة صريحة إلى القبول بإقليم أزواد كـ«حقيقة اجتماعية وثقافية مشتركة لدى سكان شمال مالي»، من دون إعطائه أي صبغة سياسية، وفق ما يطالب به المتمردون وترفضه الحكومة.
ولكن الاتفاق الجديد يحاول أن يقدم حلا لما قال إنه «مشكلة الوحدة الوطنية» في مالي وذلك عبر ما سماه «إعادة بناء الوحدة الوطنية في البلد عبر قواعد مبتكرة تحترم وحدته الترابية، وتأخذ في الاعتبار تنوعه الثقافي والعرقي»، حيث توجد في مالي أكثر من 3 آلاف عرقية أغلبها يقطن في الجنوب، بينما تتفاقم أزمة التعايش في شمال البلاد حيث توجد أقلية من العرب والطوارق.
وفي ظل ارتباط أزمة الوحدة الوطنية والتعايش بين المكونات العرقية في مالي، بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية معقدة ظلت تتراكم لعدة عقود، اقترح الاتفاق الجديد اعتماد «التوازن في الميزانية والتنمية» من خلال ما يمكن وصفه بأنه «سياسة تمييز إيجابي» لصالح المناطق الأكثر فقرا وفي مقدمتها شمال البلاد، حيث ينص الاتفاق على أن «تحوّل الحكومة 30 في المائة من عائدات الدولة المركزية إلى السلطات المحلية، مع اهتمام خاص بالمناطق الشمالية»، بالإضافة إلى إنشاء «منطقة تنموية في الشمال» ممولة بالكامل من طرف المجموعة الدولية للرفع من مستوى المعيشة لدى سكان الإقليم في إطار خطة تستمر لخمسة عشر عاما.
وبخصوص آليات إدارة الشأن العام في شمال مالي، تضمن الاتفاق الجديد تشكيل مجالس محلية تنتخب بشكل مباشر، ودعا الحكومة المركزية في باماكو إلى تهيئة الأرضية لانتخابات محلية جديدة ستنظم في غضون 18 شهرا لتشكيل هذه المجالس التي ستتولى إدارة الشأن العام في شمال البلاد بصلاحيات واسعة، مع وصاية من طرف الحكومة المركزية في باماكو.
ومن جهة أخرى، ينص الاتفاق الجديد على إنشاء «جهاز شرطة محلية» يشارك في إنشائه جميع الأطراف التي شاركت في مفاوضات الجزائر؛ وذلك عبر دمج مقاتلي الحركات المتمردة وتلك الموالية للحكومة في الجيش المالي، وتنظيم دوريات مشتركة في انتظار إعادة انتشار القوات المالية في الشمال في غضون شهرين. وما تزال قضية دمج مقاتلي الحركات المتمردة محل جدل بين أطراف الأزمة حيث تصر الحركات على ضرورة احتفاظها بالسلاح لضمان تطبيق بنود الاتفاق، في استحضار واضح للاتفاقيات السابقة التي يقولون إنها لم تطبق لأنهم تخلوا عن أسلحتهم وفقدوا ورقة ضغط مهمة على الحكومة المالية؛ فيما ترفض باماكو أي وجود عسكري خارج إطار الجيش الحكومي.
اتفاق الجزائر الجديد الذي جاء في 30 صفحة باللغة الفرنسية، وإن كان قد تحدث عن جميع محاور الأزمة التي يعيشها شمال مالي، إلا أنه يبقى «مجرد اتفاق مرحلي وليس نهائيا» حيث أوضح أنه لا بد من عقد مؤتمر وطني في غضون عامين لمناقشة «الأسباب الحقيقية والعميقة للصراع في شمال مالي»، بهدف التوصل إلى «اتفاق سلام نهائي وشامل».

الصراع القبلي

الاتفاق الجديد وإن كان قد حظي بمباركة جميع الأطراف المشاركة في المفاوضات، إلا أنه واجه تحفظا من طرف ثلاث حركات مسلحة منخرطة في إطار ما يعرف بمنسقية الحركات الأزوادية التي تضم: الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة العربية الأزوادية؛ حيث اعترضت هذه الحركات على بعض بنود الاتفاق وخلوه من أي إشارة إلى «نظام فيدرالي» لإدارة الإقليم ودعت إلى منحها «مهلة معقولة» للتشاور مع «قواعدها الشعبية»، وذلك في محاولة واضحة لتهدئة الشارع في عدد من مدن شمال مالي شهدت مظاهرات رافضة للاتفاقية التي وصفها بعض السكان المحليين بأنها «مجحفة في حقهم».
الصراع المسلح الدائر بين المتمردين الطوارق والحكومة المركزية في باماكو، يطوي في ثناياه خلافات محلية أكثر عمقا ويحمل خطورة كبيرة على مشروع المصالحة في البلد الهش، حيث تبرز على السطح صراعات ذات طابع قبلي داخل الطوارق أنفسهم، يشير مراقبون إلى أن الحكومة المالية لعبت دورا كبيرا في إذكائها لشق صف المتمردين.
في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء؛ الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيس لجميع هذه العوامل.
قبيلة «إيفوغاس» هي الأكثر عددا من بين قبائل الطوارق، تتمركز هذه القبيلة في منطقة كيدال التي تعد معقل المتمردين الطوارق. وينحدر من «إيفوغاس» أغلب قيادات الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد؛ كما ينحدر منها جميع قيادات المجلس الأعلى لوحدة أزواد، وهو المجلس الذي قام على أنقاض «جماعة أنصار الدين» التي أسسها إياد أغ غالي عام 2012 من أجل إقامة «إمارة إسلامية» في مالي، والمفارقة هي أن أغ غالي هو الآخر ينحدر من نفس القبيلة.
تتحالف قبيلة «إيفوغاس» ذات الشوكة مع قبائل عربية تملك نفوذا كبيرا وتنحدر منها قيادات «الحركة العربية الأزوادية»؛ وذلك من أجل مواجهة قبائل «إيمغاد» الطوارقية ذات العداء التاريخي مع «إيفوغاس» والطامحة للمزيد من النفوذ في الإقليم الصحراوي الشاسع. مع مرور الوقت يتصاعد نفوذ قبيلة «إيمغاد» التي شكلت مؤخرا ميليشيات تعرف باسم «غاتيا» وتحالفت مع الجيش المالي، قبل أن تدخل في مواجهات مسلحة عنيفة مع المتمردين خلال الأشهر الماضية، كادت أن تعصف بالمساعي الدولية للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي.
ويشير مراقبون إلى أن قبيلة «إيفوغاس» كانت خلال العقود الماضية الحليف القوي للحكومة المركزية ولعبت أدوارا كبيرة في إخماد عمليات التمرد السابقة، ولكن باماكو بدأت في السنوات الأخيرة تعتمد أكثر على قبيلة «إيمغاد» التي وصل أحد أبرز قادتها العسكريين إلى رتبة جنرال في الجيش المالي؛ ما أثار حفيظة «إيفوغاس» التي استخدمت الحركات المسلحة التابعة لها من أجل تأزيم الوضع لتؤكد لباماكو أن أي مساعي لتحقيق السلام في شمال مالي يجب أن تمر عبرها وليس عبر «إيمغاد»؛ وأن استقرار إقليم أزواد لن يتحقق من دون موافقة رجال «إيفوغاس».
من جهة أخرى يزداد الوضع في شمال مالي تعقيدا في ظل النشاط المتزايد لشبكات التهريب والتنظيمات الإرهابية التي تصب الزيت على النار لتعميق الخلافات بين قبائل الطوارق حتى تسد الطريق أمام التوقيع على أي اتفاق سلام قد يهدد تحالفاتها السرية التي تؤمن لها طرق التهريب عبر الصحراء الشاسعة والبعيدة عن أي رقيب.

المستقبل الغامض

رغم الإعلان رسميا عن موعد التوقيع على الاتفاق الجديد يوم 26 مارس (آذار) الحالي في العاصمة المالية باماكو، فإن عدة أصوات أعلنت معارضتها للاتفاق سواء في صفوف المتمردين أو حتى في جنوب البلاد. ذلك ما عبر عنه القيادي في الحركة الوطنية لتحرير أزواد موسى أغ السعيد، لـ«الشرق الأوسط» حين قال إن «الاتفاق تم فرضه من طرف المجموعة الدولية التي هددت من يرفض توقعيه بالعقوبات». وأضاف أغ السعيد الذي يقيم في فرنسا أن «الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار تطلعات سكان إقليم أزواد، إنه وثيقة تقوم على اللامركزية ولا تتحدث عن أي حكم ذاتي أو فيدرالي؛ واللامركزية لا تلبي مطالب الشعب الأزوادي، الاتفاق الجديد أقل قيمة من الميثاق الوطني الذي وقع في الجزائر عام 1992، ولن يحل المشكلة حتى ولو تم التوقيع عليه».
في المقابل، كان معارضو الاتفاق في العاصمة باماكو يمن دون مخاوفهم من التمييز الإيجابي الذي سيحظى به الشمال على حساب مناطق أخرى من البلاد. وقال المحلل عمر بامبا في اتصال مع «الشرق الأوسط» من باماكو إن «الاتفاق الجديد يمنح امتيازات كبيرة للمناطق الشمالية، رغم أنه تفادي تسمية الشمال بأزواد، فإنه بدا واضحا أن هنالك دولة داخل الدولة، وبالتالي لن نستغرب إذا عاد الانفصاليون للمطالبة بالاستقلال بعد عشر سنوات، ويستخدمون الوسائل التي منحناهم لمحاربتنا.. إنه نفس السيناريو الذي وقع في السودان».

في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والجريمة المنظمة والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء. الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيسي لجميع هذه العوامل.
ذلك ما يتضح أكثر عندما نلقي نظرة خاطفة على الحركات المسلحة التي تنتشر في الإقليم وتتكاثر يومًا بعد يوم:
> الحركة الوطنية لتحرير أزواد: تأسست عام 2011 من طرف قيادات عسكرية من قبائل «إيفوغاس» الطوارقية، وبدأت بقوة عسكرية اعتمدت فيها على سلاح مقاتلي الطوارق المنشقين من «الكتيبة الخضراء» للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد.
> المجلس الأعلى لوحدة أزواد: تأسس عام 2013 من طرف قيادات قبلية من «إيفوغاس» كانت في واجهة جماعة «أنصار الدين» التي سيطرت في عام 2012 على مناطق واسعة من شمال مالي بالتحالف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
> الحركة العربية الأزوادية: تأسست عام 2012 بعد أن تمكن المتمردون الطوارق من طرد الجيش المالي من شمال البلاد، حيث بدأت القيادات القبلية العربية في التحرك من أجل إيجاد موطئ قدم لها في الإقليم، ولكن الحركة ظلت تعاني من التفكك والانقسام؛ فيما ظلت النواة الأولية متحالفة مع قبائل «إيفوغاس» وتتفق في المشروع الانفصالي مع الحركتين السابقتين.
> الحركة العربية الأزوادية (المنشقة): انشقت عام 2014 عن الحركة الأم بسبب خلافات داخلية، ويتحالف المنشقون مع قبائل «إيمغاد»، ويعلنون رفضهم لتقسيم دولة مالي.
> الائتلاف الشعبي من أجل أزواد: تأسس عام 2014 على يد منسحبين من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ويوصف بأنه مقرب من الحكومة المالية، فيما يحاول أن يظهر على أنه منحاز لسكان إقليم أزواد.
> تنسيقية الحركات والجبهات الوطنية للمقاومة: تأسست على يد قبائل السونغاي الزنجية في تسعينات القرن الماضي كردة فعل على حمل الطوارق والعرب للسلاح، وبدأت كقوة للدفاع الذاتي من أجل تأمين السكان، قبل أن تتحول إلى ميليشيات ارتكبت مجازر بشعة ضد البدو الرحل من الطوارق والعرب خلال تمرد التسعينات.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».