قد تكون أسهل طريقة للوقوف على مدى قبح الاضطرابات السياسية الذي تمر به بنغلاديش حاليًا هي زيارة وحدة العناية الخاصة بمستشفى دكا الجامعي. ففي هذا الجناح، يرقد ضحايا الحروق جراء هجمات القنابل الحارقة على السيارات التي تمر عبر طرق بنغلاديش. هؤلاء الضحايا هم بمثابة الأضرار الجانبية التي خلفتها معركة طويلة الأمد بين أهم زعيمتين سياسيتين في بنغلاديش أو «السيدتان» كما يطلق عليهما هنا. في صباح أحد الأيام الأخيرة، نظر محمد ناظمول مولا، باتجاه صف الأسرة التي يرقد عليها ثلاثة رجال كانوا يركبون بجانبه على متن شاحنة بعدما أفرغوا شحنة رمال ليفاجأوا بزجاجة حارقة (مولوتوف) ألقاها محتج تهشم الزجاج الأمامي وتسقط عليهم داخل الشاحنة.
كان مولا (25 عامًا)، الأكثر حظًا، حيث تمكن من القفز بسرعة من نافذة السيارة، ولم تتعد أسوأ الإصابات التي لحقت به بضع كسور في العظام والركبتين، بينما كان الثمانية رجال الجالسين بجواره أسوأ حظًا، إذ لقي خمسة منهم حتفهم وأصيب الآخرون بحروق في القصبة الهوائية والوجه أدت إلى تساقط الجلد وانتفاخ الجفون إلى حد التشقق. وعندما سٌئل مولا عما يريد أن يقوله لقادة بلاده السياسيين، أجاب بصوت خافت: «إنهم يعرضون الناس العاديين للقتل، إنهم يعرضون إخوتهم للقتل».
قليلون في بنغلاديش لم يصبهم الشعور بالإرهاق في هذا الربيع، فالبلاد وقعت في أتون الفوضى في يناير (كانون الثاني) بعدما أعلنت زعيمة المعارضة، خالدة ضياء، حملة إضرابات وتعطيل حركة المواصلات بغية الضغط على غريمتها، رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، من أجل عقد انتخابات عامة جديدة. لكن إذا كانت ضياء تتوقع تنازلات من جانب غريمتها فإن توقعاتها ذهبت أدراج الرياح.
شهدت الأسابيع الأخيرة انحسارًا في التوترات السياسية، حيث عادت الحياة إلى حد كبير لطبيعتها في شوارع دكا، ولكن دون ظهور حل طويل الأمد في الأفق. ومن الذين يراقبون الوضع عن كثب، قادة الصناعة في البلاد. فقد أظهر تقرير أصدره البنك الدولي في الآونة الأخيرة خسارة اقتصاد بنغلاديش 2.2 مليار دولار أو ما يعادل نحو 1 في المائة من ناتج الدخل القومي نتيجة الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد هذا العام والتي امتدت طوال 62 يومًا. وذكر التقرير أن معدل النمو الاقتصادي في بنغلاديش سيصل إلى 5.6 في المائة في هذه السنة المالية مقارنة بـ6.6 في المائة، وهو معدل النمو الذي توقعه البنك قبل أن تعصف الإضرابات بالبلاد. وقال زاهد حسين، كبير الخبراء الاقتصاديين في مكتب البنك الدولي في العاصمة دكا: «إلى متى يمكنك البقاء دون تأثر، إذا كنت تعمل يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام على الإضرار بالصناعة، في نهاية المطاف، ستتأثر القدرة على التعافي».
يذكر أن جذور العنف الدائر حاليًا تعود إلى الانتخابات العامة التي أجريت في يناير 2014 والتي نتج عنها صراع إرادات بين السيدتين. وكانت ضياء، التي شغلت منصب رئيسة الوزراء من قبل وتترأس الحزب الوطني البنغالي (بي إن بي) كما تقود تحالفا معارضا من 20 حزبًا، قد هددت بمقاطعة الانتخابات، مرجحة تعرضها للتزوير لصالح الحكومة، وانتهزت حسينة الفرصة مستغلة تهديد ضياء لتجري الانتخابات في ظل غياب تام من تحالف المعارضة مع بذلها وعود مبهمة بإعادة الانتخابات في الأشهر اللاحقة.
في يناير 2015 وبعد مرور عام من الانتظار، أعلنت ضياء حملة احتجاجات ممتدة لقي فيها حتى الآن أكثر من 100 شخص مصرعه كما أصيبت فيها أعداد أكبر بجروح بالغة الخطورة نتيجة العبوات الناسفة المزروعة على جوانب الطرق. وبقطع الطرق السريعة مستخدمين العنف في الغالب، ظل المحتجون يستهدفون الحلقة الأضعف في سلسلة التوريد التجاري، واختارت الحكومة الرد باتخاذ إجراءات متصاعدة في شدتها بينها إلقاء القبض على كثير من قادة حزب ضياء، الأمر الذي دفع آخرين منهم إلى الاختفاء عن الأنظار.
وينفي مسؤولو الحزب الوطني البنغالي مسؤوليتهم عن العنف الدائر لكنهم يقولون إنه لم يتبق بجعبتهم أي خيارات سوى قطع الطرق وشن الإضرابات. ويقول محبوب الرحمن، الجنرال المتقاعد وعضو اللجنة الدائمة للحزب الوطني البنغالي: «رأيت العذاب الذي يمر به ضحايا الحروق وأجسادهم المشوهة وشممت رائحة اللحم البشري المحترق، لكن ما نريد أن نقوله هو أن الحكومة لا تسمح لنا بالحديث ولا بالتجمع ولا بالاحتجاج ولا تسمح لنا بإصدار صحف. في هذا الوضع الذي تهدر فيه حقوقنا الديمقراطية، هل هناك خيار آخر بوسعنا اتخاذه؟».
وتأتي حملة الاحتجاجات بالضرر على البلد بأكمله، حيث أغلقت المدارس أبوابها قبل موعد الامتحانات وفسدت المحاصيل لدى المزارعين وخلت المنتجعات السياحية من السائحين.
وعلى الرغم من أن رجال الصناعة مارسوا ضغوطًا على ضياء وحسينة للجلوس على طاولة المفاوضات والتوصل إلى تسوية من أجل إنقاذ اقتصاد البلاد، إلا أن مساعيهم باءت بالفشل. ويقول مسؤولون حكوميون وبعض الخبراء الاقتصاديين إن اقتصاد بنغلاديش يستطيع الصمود بقدر كاف في مواجهة الاضطرابات السياسية المتوسطة الحجم وأشاروا إلى نجاح أكبر شركة لإنتاج الملابس في نقل شحناتها إلى الميناء في وقت مناسب أثناء شهري يناير وفبراير (شباط) الماضيين واللذين شهدا أسوأ موجة من الاحتجاجات الدائرة حاليًا.
لكن الاضطرابات ضاعفت من المشكلات التي نتجت عن انهيار مصنع «رانا بلازا» للملابس في ضواحي دكا في 2013 والذي أدى إلى مقتل 1100 شخص حيث تحاول مصانع الملابس جاهدة الالتزام بمعايير السلامة والأجور الجديدة وإعادة بناء الثقة لدى المستثمرين في بنغلاديش.
وفي حالة استمرار الأزمة في الربع الثاني من العام الحالي، يتوقع محللون اقتصاديون لدى اتحاد مصنعي الملابس واتحاد المصدرين في بنغلاديش أن تتراجع الصادرات بنسبة بين 25 إلى 30 في المائة بدءًا من مايو (أيار) المقبل. ووصف خوروم صديقي، مدير شركة (سيمكو دريسز المحدودة) في إحدى ضواحي شمال دكا، حالة عدم اليقين التي تسيطر على الوضع السياسي بأنها «كارثة من صنع الإنسان»، وذكر أن شركته قررت إعادة النظر في خطط لزيادة استثماراتها هذا العام. وأضاف صديقي قائلاً: «لا توجد لدينا أي مشكلات عرقية أو لغوية أو طائفية في بنغلاديش، مقارنة مع باكستان أو الهند. لا أفهم لما لا يمكنهم حل هذه المشكلة وهم يحتسون كوبًا من الشاي».
* خدمة «نيويورك تايمز»
معركة «السيدتين» في بنغلاديش.. وضحاياها الكثر
مستشفيات تعج بالجرحى وخسائر اقتصادية بالغة بسبب العنف السياسي المستمر في البلاد
معركة «السيدتين» في بنغلاديش.. وضحاياها الكثر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة