بابتسامته الأفريقية الطيبة والواثقة، جلس محمد بخاري، وهو يتابع نتائج الانتخابات الرئاسية التي ستحمله إلى هرم السلطة في نيجيريا، أكبر دولة في القارة الأفريقية من حيث تعداد السكان والنمو الاقتصادي؛ حملت ابتسامته مسحة من الأمل وشيئًا من القلق وهو يستعد لقيادة بلد ينخره الفساد وتهدده «بوكو حرام»، ذلك التنظيم الإرهابي الذي أصبح رمزًا للرعب في القارة السمراء.
في صورة تداولتها الوكالات واطلع عليها كثير من النيجيريين، كان بخاري يجلس في غرفة لا توحي بثراء فاحش تأكيدًا لما اشتهر به من التقشف على الأقل مقارنة بمن يتصدرون المشهد السياسي في بلاده، الذين لا يظهرون إلا نادرًا ويسكنون في قصور كبيرة ويتحركون على متن طائراتهم الخاصة.
كان يجلس إلى جانب بخاري أحد كبار أئمة المسلمين في شمال نيجيريا وواحد من أشهر الأساقفة المسيحيين في الجنوب، رسالة مررها بخاري بذكاء عبر صورة حرص على أن تصل إلى الصحافيين وتكون مادة دسمة لهم، وهو يريد أن يؤكد للنيجيريين رغبته الجامحة في تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء سنوات من الاقتتال سالت فيها الكثير من الدماء.
وفي نفس الغرفة كان يقف رجل خلف بخاري وهو يوزع ابتساماته بسخاء كبير، إنه أليكو دانجوتي أغنى أغنياء القارة الأفريقية وأشهر رجال الأعمال وأصحاب النفوذ في نيجيريا؛ بدت على ملامح دانجوتي علامات الاطمئنان والراحة، ما اعتبره مراقبون رسالة موجهة إلى المستثمرين بأن نيجيريا بخاري تختلف عن سابقاتها، وأن رأس المال الجبان سيكون في أمان.
ولكن في مقابل هذه الصورة التي أمر بخاري بالتقاطها لتظهره كما يريد وبكثير من الوردية، هنالك صورة أخرى قاتمة وغامضة، صورة تلخص ما يواجه الرجل من تحديات لن يكون من السهل التعامل معها، فبالإضافة إلى الملف الأمني وتزايد خطر جماعة بوكو حرام التي تحولت إلى تهديد إقليمي يقترب أكثر فأكثر من أن يكون ملفًا دوليًا، تنتظر بخاري حربا أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، ألا وهي الحرب على الفساد في بلد تستأثر فيه نسبة قليلة من مواطنيه بالثروات فيما تعيش الأغلبية الساحقة تحت خط الفقر ولا تتوفر على أبسط مقومات الحياة؛ فهل ينجح بخاري في رفع التحدي؟
بخاري البالغ من العمر 72 عامًا، هو أحد مواليد دولة كاتسينا في شمال نيجيريا الفيدرالية، ينحدر من قبائل «الفلان» ذات الشهرة الواسعة في القارة السمراء؛ ينتمي لأسرة مسلمة محافظة يصل عدد إخوته إلى 23 هو الأصغر من بينهم، حظي بتعليم متوسط قبل أن يدخل الجيش على غرار أقرانه من المراهقين الطامحين لمستوى معيشي أفضل، قد لا توفره سوى المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت.
استفاد بخاري وهو شاب يحركه الحماس من تكوينات عسكرية في سلوفينيا والمملكة المتحدة، ليصل إلى رتبة ضابط في الجيش النيجيري، حيث شارك في انقلاب ناجح عام 1966، وتقلد بعد ذلك عدة مناصب مهمة، قبل أن يقود انقلابًا أوصله إلى السلطة يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) 1983، فأحكم قبضته الحديدية على البلاد في واحد من أقسى الأحكام الديكتاتورية التي حكمت نيجيريا.
لم يدم حكمه أكثر من عشرين شهرًا فقط، اشتهر خلالها بصرامته في محاربة الفساد وعدم تهاونه مع من يخرجون على القانون؛ فقد أمر بإعدام ثلاثة أشخاص متهمين بالمتاجرة بالمخدرات، علنًا على أحد شواطئ العاصمة لاغوس؛ كما أصدر قانونًا يحرم التظاهر في الشارع، ويسمح بالعقوبة من دون محاكمة في حق أي شخص يهدد «الأمن الوطني»، وأعطى سلطات واسعة لأجهزة المخابرات.
في مارس (آذار) من عام 1984 بدأ بخاري حربًا ضد ما كان يسميه «عدم الانضباط»، وخصوصًا في صفوف موظفي الدولة الذين فصل منهم 200 ألف موظف، وخضع من أصبحوا يوصفون بـ«الكسل» لعقوبات مذلة تحمل الكثير من الإهانة.
سقط نظام الجنرال بخاري بانقلاب عسكري شهر أغسطس (آب) 1985 ليشرب من نفس الكأس التي سقى منها النيجيريين، فخضع للسجن لعدة أشهر، واختفى بعد ذلك بشكل تام من الساحة السياسية قبل أن يظهر بعد ذلك بأعوام على رأس وكالة حكومية مكلفة تمويل مشروعات تنموية عن طريق عائدات النفط.
ومع وصول الديمقراطية التعددية إلى البلاد عام 1999، ظهر بخاري كواحد من وجوه المشهد السياسي في نيجيريا، فأسس حزبًا سياسيًا ترشح من خلاله ثلاث مرات للانتخابات الرئاسية من دون أن ينجح، قبل أن يتحقق حلمه بالعودة إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في ترشحه الرابع هذا العام، وذلك نتيجة عدة عوامل من أبرزها نجاحه في توحيد صفوف المعارضة خلفه، والاستفادة من أخطاء الرئيس السابق غودلاك جوناثان، الذي عصفت به التحديات الأمنية وملفات الفساد، نفس التحديات التي ستحدد مصير الجنرال العائد إلى السلطة بعد ثلاثة عقود.
يقول آدم تيام، رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» التي تصدر في عاصمة مالي باماكو، إن بخاري يتمتع بصفات مهمة قد تخدمه كثيرًا خلال إدارته لدفة الحكم في نيجيريا، ولكن تاريخه السياسي والعسكري لا يخلو من نقاط سلبية؛ ويشير تيام في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن بخاري «ينحدر من الطائفة المسلمة السنية في الشمال، ولا تنقصه الحكمة والتجربة، حيث سبق أن حكم البلاد لعشرين شهرًا خلال ثمانينات القرن الماضي، لذا من خلال تقييم ماضيه يمكننا أن نستشرف مستقبله».
وأضاف تيام: «كونه انقلابيًا سابقًا فتلك ليست نقطة مضيئة في تاريخه السياسي والعسكري؛ هذا بالإضافة إلى أن اسمه ظهر قبل عقود في عدة قضايا فساد من أبرزها اختفاء قرابة 3 مليارات دولار من شركة نفطية كان يديرها، كل ذلك يضاف إلى مشاركته في التخطيط لانقلاب عسكري عام 1966 حمل مورتالا محمد إلى السلطة؛ غير أن شهرة بخاري أخذها من التضييق على الحريات العامة خلال حكمه؛ كل ما سبق يجعلنا نتساءل إن كان النيجيريون لم يختاروا بخاري، وإنما صوتوا ضد جوناثان؟ من دون أدنى شك هنالك شيء من ذلك؛ ولكن يجب ألا ننسى أن النيجيريين انجرفوا وراء الخطاب القوي للجنرال السابق».
في مقابل الانتقادات التي توجه لتاريخ الرجل، يقول عليون إنجاي، وهو باحث سنغالي مختص في العلاقات الدولية، إنه «من الضروري أن نواجه حديث البعض عن ماضي بخاري الديكتاتوري، بالقول إن الأمور تبقى نسبية ومحكومة بالظروف، ففي ثمانينات القرن الماضي لم يكن في نيجيريا طريقة أخرى لممارسة السلطة».
ويضيف إنجاي في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «هنالك نقاطًا إيجابية يجب التوقف عندها في مسيرة الرجل، خاصة خلال حكمه القصير للبلاد، مثل الحرب الشرسة التي خاضها ضد الفساد، وإطلاقه لنداء واضح وصريح يدعو فيه المواطنين النيجيريين من أصحاب الخبرة والكفاءة الموجودين في الخارج إلى العودة ومساعدته في إنعاش الاقتصاد، إنها دعوة كانت ثورية آنذاك».
ولكن إنجاي في سياق حديثه عن القبضة الحديدة التي حكم بها بخاري البلاد في السابق، يقول: «صحيح، إن مصادرة الحريات كانت حاضرة بقوة في ممارسته للسلطة، ولكن نيجيريا تغيرت وتقدمت كثيرًا في هذا الطريق، وبالتالي استحضار الماضي الديكتاتوري للرجل في هذا الوقت غير موضوعي».
وبالنظر إلى التحديات التي تواجه بخاري في المستقبل، يبرز الملف الأمني إلى الواجهة، ذلك ما يؤكده الخبير السنغالي في العلاقات الدولية، حيث يقول: «التحديات التي تواجه بخاري هي في المقام الأول تحديات أمنية؛ فمن واجبه إعادة الاستقرار إلى شمال نيجيريا، وخلال الحملة أكد أنه سيحقق هذا الهدف خلال شهر فقط، إنه وعد في غاية الطموح، ولكنه ليس مستحيلاً».
وتعهد بخاري في مواجهته لجماعة بوكو حرام التي تسيطر على مناطق واسعة من شمال نيجيريا، على خطة لا تكتفي بالجانب الأمني والعسكري فقط، وإنما تعتمد بالإضافة إلى ذلك على جانب تنموي موازٍ، حيث أكد بخاري خلال حملته الانتخابية سعيه إلى القضاء على الفقر وإقامة مشاريع تنموية في الشمال، من أجل محاصرة الجماعة الإرهابية التي تستفيد بشكل كبير من جيوب الفقر والجهل لاكتتاب أكبر قدر من المقاتلين؛ غير أن المراقبين للوضع في نيجيريا يؤكدون صعوبة القضاء على جماعة بوكو حرام، خصوصا أن بخاري يرث جيشًا منهكًا ينخره الفساد، ولكنهم في نفس الوقت لا يستبعدون نجاح الجنرال السابق في الحد من خطورة الجماعة الإرهابية.
وبالإضافة إلى الملف الأمني وتهديد «بوكو حرام»، يواجه الرئيس النيجيري الجديد تحديًا من نوع آخر؛ إنه الحرب على الفساد والخروج بنيجيريا من الوضع الاقتصادي المتردي، وكان بخاري قد أعلن في حملته الانتخابية، أنه «إذا لم تقتل نيجيريا الفساد، فسيقتل الفساد نيجيريا».
وبالنظر إلى لغة الأرقام نجد أن الوضع الاقتصادي في البلاد غير متوازن، فخلال السنوات الست الماضية (ما بين 2007 و2013) ارتفع عدد المليونيرات النيجيريين بنسبة 44 في المائة، في حين تشير الإحصائيات إلى أن نسبة 80 في المائة من سكان الشمال لا يزيد دخلهم اليومي على دولار ونصف الدولار.
ويشير عليون إنجاي إلى أن «بخاري يرث وضعية اقتصادية ليست سهلة، خاصة في ظل الهبوط الحاد في أسعار النفط عالميًا، فيما لا يتجاوز مخزون نيجيريا من العملة الصعبة في صندوق عائدات النفط حاجز الثلاثين مليار دولار أميركي».
أمام هذه الوضعية يواجه بخاري تحد جديد يتمثل في تنويع الاقتصاد في بلاده التي تعتمد بشكل كبير على المحروقات ومشتقاتها، حيث تمثل نحو 80 في المائة من عائدات الدولة، خاصة في ظل التخطيط لاستغلال النفط الصخري من طرف الولايات المتحدة الأميركية، أكبر زبون لنيجيريا.
ولا تتوقف التحديات الاقتصادية عند هذا الحد، خاصة في ظل الوعود الكبيرة التي قطعها بخاري على نفسه، ولعل من أبرز هذه الوعود تعهده بمحارة البطالة في صفوف الشباب، وهي معركة أخرى لن تكون سهلة في بلد تشير الأرقام إلى أن 70 في المائة من سكانه تحت سن الأربعين، و400 ألف شاب تدخل سنويًا سوق العمل يبقى أزيد من 60 في المائة منهم دون عمل؛ فهل ينجح بخاري في تحقيق وعده بخلق 720 ألف فرصة عمل سنويًا، ولعل هذا هو الأسهل من بين وعوده الانتخابية الكبيرة لشعب ذاق للمرة الأولى حلاوة التغيير عبر صناديق الاقتراع.