يتابع المراقبون في تونس وفي المنطقة ودوليا باهتمام خاص مستجدات الأحداث في تونس التي تتراوح بين انتصار «العقلانية والواقعية» من جهة، وتراكم «التناقضات السياسية» من جهة ثانية.
وقد استفحل الغموض خاصة بعد تعاقب المواقف السياسية والدبلوماسية المتناقضة الصادرة عن عدد من الرسميين التونسيين بما في ذلك في ما يتعلق بمستجدات مواقف الحكومة الجديدة من النظام السوري ومن تركيا الحليف التقليدي لتونس منذ 60 عاما ومن السلطات الليبية. وإذ يطنب كبار الساسة في واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية في التنويه بـ«نجاح النموذج التونسي» تعاقبت نقاط الاستفهام حول «مهنية» بعض كبار المسؤولين الجدد في الحكومة والأحزاب الكبرى المؤثرة في القرار السياسي الداخلي والخارجي.
استفحلت «الانتقادات» وردود الفعل «المتوترة» داخليا وخارجيا لبعض مواقف تونس الدبلوماسية بعد أول مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية التونسي والأمين العام للحزب الحاكم الطيب البكوش الأسبوع الماضي. وقد أسفر ذلك المؤتمر الصحافي عن تصريحات ومواقف «مثيرة للجدل» عن تركيا وعن تطبيع العلاقات بين تونس وكل من سوريا وحكومة طرابلس.
وتفاعلت ردود الفعل بنسق أسرع لأن البكوش نظم في نفس اليوم حوارا علنيا مع السفراء العرب والأجانب المعتمدين في تونس بحضور الإعلاميين ونشطاء في المجتمع المدني التونسي وعدد من السياسيين والسفراء التونسيين السابقين بزعامة السفير نور الدين حشاد نائب الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ورئيس مؤسسة «الشهيد فرحات حشاد» للدراسات.
وقد قوبلت بعض تصريحات البكوش في المناسبتين بـ«تحفظات» بعض السفراء العرب بينهم السفير المصري بتونس أيمن مشرفة الذي تدخل علنا بحضور الصحافيين لإعلان تحفظاته على قرار حكومة تونس التعامل مع حكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا خلافا للقرار الدولي الذي نص على الاعتراف بشرعية برلمان «طبرق» (1700 كلم شرق طرابلس) وحكومته وسحب الاعتراف من سلطات طرابلس.
وفي الوقت الذي قدر فيه غالبية صناع القرار في العالم «هدوء الانتقال السياسي» في تونس رغم الاضطرابات الأمنية الخطيرة في بقية دول الربيع العربي كثرت التساؤلات عن «خفايا» استفحال «التناقضات» في المواقف السياسية للرسميين التونسيين بما في ذلك في المجال الدبلوماسي.
وأخذت «الزوبعة الإعلامية والسياسية» حجما أكبر بعد تصريح أدلى به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي حاول فيه التنصل من تصريحات وزير خارجيته والأمين العام للحزب الحاكم الذي أسساه معا قبل 3 أعوام.
عشية زيارة فرنسا
الرئيس التونسي «تبرأ» من تصريحات وزير خارجيته في نفس اليوم في حوار مع قناة فرنسية دولية حول زيارته الأولى لفرنسا (اليوم). لكن عوضت أن ترفع تصريحات قائد السبسي «الالتباس» تعاقبت ردود الفعل الشعبية والدبلوماسية على ما وصفته بعض وسائل الإعلام التونسية والدولية بـ«اللخبطة» و«التناقضات المتعاقبة» في المواقف الرسمية لسلطات تونس «التي يعلق الجميع آمالا عريضة على نجاح تجربتها التعددية والديمقراطية»، على حد تعبير رئيس حكومتها الجديد الحبيب الصيد.
وقد أكدت مصادر دبلوماسية وسياسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، أن «مسؤولين فرنسيين وعرب لم يفهموا سر إعلان تونس عن تطبيع علاقاتها مع النظام السوري عشية زيارة الرئيس التونسي الأولى من نوعها منذ انتخابه وبعد أيام قليلة من مشاركته في القمة العربية في شرم الشيخ التي أدلى خلالها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بموقف معارض واضح للنظام السوري الحالي ولحلفائه».
خروج عن «الإجماع العربي»
في الأثناء تناقضت تفاعلات السياسيين التونسيين من المواقف التي صدرت عن وزير الخارجية والأمين العام لحزب «نداء تونس» الحاكم الطيب البكوش. وبدا من أبرز المدافعين عن تصريحات وزير الخارجية الوزير الأزهر العكرمي القيادي في نفس الحزب الذي اتهم منتقدي البكوش بـ«إخراج التصريحات من سياقها» وبـ«سوء فهمها». كما دافع عن تلك التصريحات الناطق الرسمي باسم الخارجية التونسية الذي اعترض على تهمة «خروج القيادة التونسية عن الإجماع العربي»، أي عن قرار غالبية القادة العرب في قممهم مقاطعة نظام بشار الأسد بعد اتهامه بمسؤولية قمع شعبه وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء.
كما تدخل التهامي العبدولي - مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية والأمين العام لأحد الأحزاب الخمسة التي تشكل الائتلاف الحاكم الحالي - لتبرير قرار إعادة فتح السفارة التونسية في دمشق والسورية في تونس بـ«حرص الحكومة التونسية على» رعاية مصالح جاليتها في سوريا والمقدرة بـ6 آلاف شخص بينهم طلاب وتجار ونساء وأطفال.
تطبيع مع نظام بشار؟
لكن السؤال الكبير الذي يطرحه مسؤولون من الائتلاف الحكومي السابق الذي قطع العلاقات مع نظام بشار الأسد مطلع 2012 هو: لماذا الحرص على ترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي التونسي في دمشق، بينما سبق لحكومة المهدي جمعة أن فتحت العام الماضي «مكتب تواصل إداريا في السفارة التونسية في دمشق» مهمته متابعة شواغل الجالية التونسية؟
ولماذا الإصرار على «تطبيع العلاقات مع النظام السوري الذي تسبب في مقتل ربع مليون من أبناء شعبه وتشريد 12 مليون آخرين». أليس في مثل هذه الخطوة خروج عن «الإجماع العربي» وعن مقررات القمم العربية والمجالس السابقة للجامعة العربية التي قررت سحب الاعتراف بنظام بشار الأسد ودعم المعارضة السلمية له؟
وهل لم تكن حكومة الترويكا اتخذت قرار القطيعة مع نظام بشار الأسد تحت لافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ هل تخلت عن تلك المواقف الآن وهي «مهد حركات التغيير والإصلاح في دول الربيع العربي»، على حد تعبير عماد الدايمي الأمين العام لحزب المؤتمر والوزير مدير مكتب الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي سبق أن قرر طرد السفير السوري في تونس مطلع عام 2012، احتجاجا على تورطه في قتل شعبه وقمع انتفاضته السلمية.
حوارات الجزائر والمغرب وتونس
لكن المدافعين عن خطوة التطبيع مع النظام السوري - مثل الإعلامي المنجي الخضراوي القيادي في نقابة الصحافيين التونسيين - يذكرون بكون «البرامج الانتخابية لحزب نداء تونس وكثير من الأحزاب السياسية التونسية تعهدت منذ مدة طويلة بتطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد وبإعادة فتح السفارة السورية لدى تونس ونظيرتها التونسية في دمشق. كما اعترض الوزير التونسي الطيب البكوش على «ملاحظات» منتقديه وبينهم ممثل الدبلوماسية المصرية في تونس حول «قرار التعامل مع حكومتي طبرق وطرابلس» بكون المنطقة الغربية في ليبيا تضم 120 ألف تونسي مقابل 20 ألفا في المنطقة الغربية. ومن واجب السلطات التونسية التعامل مع الأمر الواقع وإعادة فتح القنصلية القديمة خدمة لمصالح الجالية التونسية ولأن المعابر البرية المشتركة بين تونس وليبيا تخضع حاليا لسلطات طرابلس غير المعترف بها دوليا.
وأشار البكوش إلى كون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا برناردينو ليون وسفراء الدول الغربية وكذلك حكومات الجزائر والرباط وتونس تنظم منذ سنوات لقاءات مع سياسيين بارزين من حكومتي طبرق وطرابلس وفي هذا السياق تتعاقب لقاءات «الحوار السياسي الليبي - الليبي» الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ مدة في كل من الجزائر والمغرب وتونس وداخل مدن ليبية.
«أزمة حادة «مع تركيا»
في الأثناء تحدثت مصادر كثيرة عن «أزمة حادة» فجرتها تصريحات وزير خارجية تونس عن تركيا التي اتهمها بـ«تسهيل عبور الإرهابيين التونسيين عبر أراضيها نحو سوريا ثم تسهيل عودتهم إلى مواطنهم ثم الضلوع في عمليات إرهابية نظمت في تونس». وقد احتجت الخارجية التركية رسميا على تلك التصريحات واستدعت السفير التونسي في أنقرة محمد صالح تقية للاستفسار عن مثل هذه الاتهامات التي قامت وسائل إعلام تونسية بالترويج لها مجددا. كما أعلنت مصادر رسمية في أنقرة أنها تطالب الجانب التونسي بالاعتذار، وخصوصا أن تركيا سبق أن قدمت لتونس «مساعدات كبيرة لمكافحة الإرهاب» بينها أكثر من 1200 لباس عسكري واقٍ من الرصاص وعشرين مدرعة مصفحة مضادة للألغام والمدفعية.
كما سبق لتركيا أن قدمت مساعدات اقتصادية وأخرى مالية ولوجيستية مدنية للبلديات ووزارتي الداخلية والدفاع التونسيتين.
لكن السفير المختار الشواشي الناطق باسم وزارة الخارجية التونسية اعتبر أن «تصريحات الوزير الطيب البكوش عن تركيا وقع تحريفها». فيما حاول وكيل وزارة خارجية تونس التخفيف من حدتها وأورد أن «الجانب التركي تفهم تصريحات البكوش وأن القصد من تلك التصريحات مناشدة المسؤولين الأتراك التشدد في مراقبة من يصفون أنفسهم بـ«الجهاديين» ويعبرون أراضي تركيا للالتحاق بالعصابات الإرهابية وبينها «داعش» و«القاعدة» في سوريا.
إلا أن مصادر تركية أوردت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أنقرة استغربت اتهامها من قبل وزير خارجية تونس بالتورط مباشرة أو غير مباشرة في دعم الإرهاب والإرهابيين وبتسهيل عبورهم في وقت يعلم فيه الرسميون التونسيون أن القنصليتين التونسيتين في إسطنبول وأنقرة تضم فريقا كبيرا من الأمنيين التونسيين الذين يقومون بالتنسيق مع السلطات الأمنية التركية حول مكافحة الإرهاب بما في ذلك التثبت في قائمة عشرات آلاف السياح التونسيين الذين يتوجهون سنويا إلى تركيا على غرار أكثر من 30 مليون سائح من العالم اجمع». كما أكدت مصادرنا أن «السلطات الأمنية التركية سبق لها أن سلمت قبل (الثورات العربية) وبعدها عددا من المتهمين بالإرهاب إلى حكوماتهم بينهم تونسيون وليبيون وجزائريون وأروبيون».
كما أكد السفير التركي لدى تونس عمر جوشوك لـ«الشرق الأوسط»، أن «تركيا ترفض الاتهامات الموجهة إليها بـ«التساهل» في تنقل الإرهابيين عبر أراضيها لأنها أوقفت خلال الأعوام الماضية عددا كبيرا من المشتبه فيهم بالإرهاب من بين حاملي جنسيات مختلفة. ودعا السفير التركي كل بلدان أوروبا والعالم التي لديها شباب يتسلل من تركيا نحو تونس إلى «القيام بإجراءات وقائية» من بينها منع المشتبه فيهم في بلدانهم الأصلية «لأن تركيا التي تقوم بجهد أمني كبير لا يمكنها أن تمنع دخول السياح العاديين خاصة إذا كان مظهرهم الخارجي عاديا وليس في ملفاتهم ما يوحي بتورطهم في أي نوع من أنواع الجريمة المنظمة أو الإرهاب».
دبلوماسية ما قبل الثورة
ولم تتردد المواقع الإعلامية والاجتماعية القريبة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي ومن حكومة «الترويكا» بجناحيها الإسلامي والعلماني في انتهاز فرصة «غلطات» وزير خارجي تونس لتنتقد الحكومة الحالية وحلفاءها. واتهم البرلماني عماد الدايمي الأمين العام لحزب المرزوقي الحكومة الحالية بمحاولة «إعادة البلاد إلى مرحلة دبلوماسية ما قبل ثورة 2011». وذهب البرلماني عن حزب حركة النهضة الصحبي عتيق - وعضو مكتبها التنفيذي - إلى أبعد من ذلك إذ اتهمه بالتطبيع مع نظام «مورط في جرائم قتل جماعي لشعبه» بعد سنوات من وقوف رموز «الثورة التونسية مع الشعب السوري المقموع».
ودافع الوزير السابق عدنان منصر عن خيار القطع مع النظام السوري من منطلقا «حقوقية وسياسية».
أما طارق الكحلاوي المستشار السابق للمرزوقي فاتهم وزير الخارجية التونسي بكونه أصبح «خطرا على الأمن القومي التونسي»، وتساءل عن «سر التناقض بين مواقف البكوش وتصريحات رئيس الجمهورية قائد السبسي المسؤول الأول دستوريا عن السياسة الخارجية وعن الأمن القومي».
انتقادات وتساؤلات
في المقابل، اتهم عصام الشابي البرلماني السابق والناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري تصريحات وزير الخارجية التونسي واتهم الفريق الحاكم الجديد بالارتجال والأضرار بمصالح تونس من خلال «المواقف غير المدروسة» التي وقع الإدلاء بها عن تركيا وسوريا وليبيا. وأضاف الشابي: «كنا نتمنى أن يتميز الفريق الحالي في وزارة الخارجية عن الفريق السابق في إشارة إلى حكومة (الترويكا) بزعامة حزب النهضة الإسلامي التي كان الشابي من أبرز معارضيها».
إلا أن المنصف عاشور القيادي في حزب نداء تونس المقرب من الطيب البكوش قلل من أهمية «الانتقادات الموجهة إلى الأمين العام لحزب نداء تونس» وذكر بكون 9 دول عربية وعدد كبير من الدول الغربية لديها بعثات دبلوماسية في دمشق. وذكر بكون البرنامج الانتخابي لحزب نداء تونس وعدة أحزاب سبق أن تعهدت بـ«إعادة التمثيل الدبلوماسي» بين تونس وسوريا، وهو ما شرع البكوش في تنفيذه عبر الإعلان عن فتح مكتب قنصلي في دمشق وعن بعثة سوريا في تونس.
هل تؤدي هذه الزوبعة إلى إقناع الساسة الجدد في تونس بضرورة الانتقال من «الارتجال والهواية» إلى «المهنية والاحتراف» سياسيا ودبلوماسيا؟
سيأتي الجواب خلال الأسابيع القليلة المقبلة.