صدرت عن دار «مدارك للنشر» في دبي المجموعة القصصية الثالثة للقاص والصحافي العراقي عبد جعفر المقيم في لندن حاليا. تضم المجموعة الجديدة التي تحمل عنوان «أحزان المرايا ومسرّاتها» 27 قصة قصيرة تتمحور على ثيمات متنوعة ومقاربات مختلفة ينطوي بعضها على عنصر المفاجأة الذي يُثري البنية السردية للنص القصصي، ويُوجّه مسارها في كثير من الأحيان صوب النهاية الفانتازية القائمة على إدهاش المتلقي وإثارة مخياله الذهني.
ورغم أنّ غالبية أحداث القصص تدور في بغداد وعدن ولندن فإن قصة «الذئب» تشكل استثناء وخروجا على هذا النسق المديني؛ فهي قصة قروية بامتياز، بل إن قسما كبيرا منها يجري في المضارب الصحراوية التي تقع عند تخوم القرية التي لم نعرف اسمها مثلما لم نعرف اسم الشخصيتين الرئيسيتين اللتين تقاسمتا البطولة مع الذئب الذي يفتك بأغنام الرعاة. تنطوي هذه القصة على بنية مُحكمة تتضح حبكتها السردية المتينة رويدا رويدا من خلال شخصية السارد الذي يرافق صاحبه في مغامرة البحث عن الذئب القابع في عمق الصحراء التي يستغرق الوصول إليها ساعة زمنية كاملة على ظهور الجياد المطهّمة. وحينما يكتشف رفيقهُ المغارة التي يختبئ فيها الذئب يجمع حطبا ويوقد نارا كي لا تقترب منهما بقية الذئاب، ثم يقرر في لحظة حاسمة أن يتمدد على الأرض ويندسّ في المغارة التي تشع فيها عينا الذئب مثل نجمتين لامعتين فيسمع الراوي صوتا خافتا وطقطقة عظام تشي بأمر جلل وحينما يسحبه خارج المغارة يكتشف أنّ رقبته تنضح بغزارة دما ساخنا لكن ما أرعبه أكثر هو غياب الرأس! تُرى، هل كان صاحبه بلا رأس أصلا؟
يلعب القاص عبد جعفر على التقنية الفانتازية بذكاء حينما ينقل الحدث من مستواه الواقعي إلى المستوى الرمزي الغامض أول الأمر ثم يرتقي به إلى المستوى العجائبي الذي يتماهى فيه الواقع بالحلم بحيث يصبح خرق المألوف تقنية معقولة تستجيب للإيهامات السردية التي تمرق في أذهاننا مثل لقطات سينمائية مضببة قد تكون مُستقاة من الحلم، لكنها يمكن أن تكون واقعية أو توهمنا بوجودها الواقعي في الأقل.
سيعود السارد مشيا على الأقدام لأن الحصانين جفلا وهربا وسط الليل البهيم بينما يحمل على كتفه جثة صاحبه المقطوعة الرأس ليلعب عليها لعبته الفنية التي تخلق في نهاية المطاف قصة ناجحة بكل المقاييس التي تُزاوج بين ما هو واقعي صادم وسريالي مذهل قد يصل إلى حدّ الإدهاش.
حينما يصل السارد إلى القرية ويطرح جثة صاحبه أمامهم يحتار الناس وينقسموا، فمنهم من قال: كان له رأس، ومنهم من نفى ذلك، لكن مدير مخفر الشرطة برّأ الذئب من دمه وقال إنه مات ميتة طبيعية «وربما كان له رأس لكننا سنحتفظ ببصمات أصابعه». أما الرأي الأغرب فقد أطلقه صاحب القطيع حينما قال: «ليس لراع رأس». كما اختلف بشأنه أهل القرى المجاورة رغم أنهم لم يروه من قبل!
وتعزيزا لأسطرة هذه الحادثة فقد قال الأهالي «إنهم رأوا ذئبا أبيضَ رأسه مثل رأس إنسان». وقال آخرون «إنهم رأوا رجلا يركض بين الحقول رأسه رأس ذئب». فيما قالت زوجته إن عواء الذئب يشبه صوت زوجها، ولما خرجت ابتسم لها ثم ولّى هاربا! ولكي تقطع شكّهم باليقين ختمت هذا النص القصصي الناجح بالقول: «لا أعرف إن كان يملك رأسا أم لا، ولكن كل ما أعرفه أني كنتُ أعلّق يشماغه كل ليلة خلف الباب!».
تعتمد قصة «طبيعة صامتة» على المضمون الفانتازي الذي تفاقم في نهاية النص الذي ابتدأ واقعيا ثم تخللته أحلام اليقظة ليتكثّف شيئا فشيئا قبل أن يصل إلى حدّ الفتنة والإبهار؛ فثمة عجوزان يجلسان متلاصقين في حديقة عامة قرب شارع أجور وسط لندن يستذكران قصة حبهما القديمة وفشلهما في الزواج؛ فلقد هرب منها ولم يتحمل مسؤولية الزواج رغم حبه المجنون لها الذي ظل يراهن عليه مهما تقادمت الأعوام. تكشف استذكارات العجوزين اللذين يتلقيان كل يوم تقريبا أن السلطة المستبدة قد سرقت منه «ضوء العينين» وأنّ السلطة ذاتها هي التي «سرقت أولادها في الحرب» كما خطفت الوطن لسنواتٍ طوالا. ومع ذلك فإن قصة الحب لم تمت، فها هو في خريف العمر يعرِض عليها الزواج ويضمّها بقوة إلى صدره ويعدها «أن يصنع لها من أوراق شجرة وردية قلادة ومن جذورها تذكارا للوفاء!».
يتفنن القاص عبد جعفر في رسمه لهذه النهاية المُتقنة التي تجعل النص القصصي برمته مثل فضاء مقفل لا يحتمل الحذف أو الإضافة أو التعديل؛ فلقد اكتفت القصة بمعطياتها الفانتازية التي تضع أي قارئ في دائرة الدهشة والذهول. وحينما التصقت به مُقوّضة آخر الحواجز بينهما «اشتبكا بعناق حار وسكنت أوراق الحديقة والهواء، وحركة العشب، ونقيق الضفادع، وزقزقة العصافير، وطالت أرجلهما لتصبح جذورا ونمت عليها أوراق عشق». لقد مهدّ القاص للتأثير السحري لعناق العجوزين الحار الذي أفضى إلى سكون الحديقة وأعشابها وأشجارها وعصافيرها، لكن اللحظة التنويرية تتمثل بالفعل العجائبي لأرجلهما التي طالت لتصبح جذورا تكسوها أوراق العشق الخالدة ليس في لوحة العناق الآني الحار وإنما ستنحفر في ذاكرة القارئ الذي يتماهى مع هذه اللعبة الفانتازية.
لا تقل قصة «النازل إلى الأعلى» نجاحا عن سابقتيها ولكن زخم الدهشة أقل لأنها قصة واقعية بامتياز تحكي عن انشغالات محمود اليومية وحماقاته المتواصلة وفشله في تحصيل الرزق الحلال، الأمر الذي حوّله إلى عالة على شقيقته وأبويه؛ فقد انهمك ذات مرة ببيع الخشب، وانهمك مرة أخرى في تربية طيور الحُب لكنه كان يفشل كعادته في كل مرة. وحينما تدهمه الجهات الأمنية وتقبض عليه نكتشف أن جاره «أبو عروبة» كان وراء التبليغ حيث أشبعوه ضربا وأمعنوا في تعذيبه، الأمر الذي دفعه للانتقام من جاره حيث غاب مدة من الزمن ثم عاد يحمل كيسا أبيض أثار هواجس شقيقته التي تعرف كل عرق نابض فيه. إثر مغادرة محمود مباشرة للعيش في مدينة أخرى سمع أهل الزقاق صرخات «أبو عروبة» المفزوع وهو ينادي: «الأفاعي! اقتلوا الأفاعي». كان «أبو عروبة» المذعور يقف وسط الزقاق المكتظ بالناس بملابسه الداخلية بينما كان الناس المذعورون أيضا يستمعون إلى جملته الاستفهامية الوحيدة التي يرددها: «لا أعرف من أين جاءت (الأفاعي)؟». وحدها شقيقة محمود هي التي عرفت كل شيء حينما رأت الكيس الأبيض الذي كان يحمله إثر تواريه عن الأنظار؛ فلقد أنجز وعده ونفذ حماقته الأخيرة تاركا لأهله رسالة يحذرهم فيها من مغبة البقاء في هذا الحي الذي لم يعد آمنا.
تُعتبر شخصية حسّان العاطل من الشخصيات المستلَبة التي لم تستطع أن تحرّك ساكنا. ولا غرابة في ذلك فهي في حضرة الرئيس الذي يعرف سطوته واستبداده كل من هبّ ودبّ في العراق. وحينما يسأله الرئيس عن اسمه الذي يعرفه سلفا وعن الشيء الذي سيقدّمه اليوم ينذهل حسان لأنه نسي القصيدة في ملابسه التي جاء بها من المنزل، لكنه يلتقط أنفاسه حينما يخبره الرئيس بأن عليه أن يقدّم شيئا آخر سيخبره به الحارس في الحال. ولكي تكون المفاجأة قوية وصادمة يسأله الحارس بضعة أسئلة من بينها: ماذا يفعل إذا رأى العدو؟ فيجيبه في الحال: «سأحطّم رأسه». وهل قتلت أحدا من قبل؟ لا يحظى السائل بجواب فيخبره بأنه سيفعلها الآن حيث يناوله الكلاشنيكوف ويأمره بأن يُطلق النار على شبح شخص معصوب العينين وحينما يراه الرئيس يبتسم له مخاطبا الجميع: «حسان هذا تميّز عنكم جميعا تعرفون لماذا؟ لأنه كتب قصيدته بالدم». ثم يسترسل موضحا: «لقد قطع الإصبع العائب في عائلته». عند ذلك نُدرك أنه قتل شقيقه الصغير وقد أسقط الحاضرين جميعا في دائرة المفاجأة والذهول.
نخلص إلى القول بأن كل القصص السريالية التي انطوت على عناصر المفاجأة والدهشة والذهول كانت قصصا ناجحة ليس في بنائها الفني فحسب، بل في تطور أحداثها، ونمو شخصياتها، وجمال نهاياتها التنويرية التي تستقر في أذهان المتلقين. أما القصص الأخرى ذات المناخات الواقعية فقد ظلت محتفظة بشحناتها السردية التي لم تجتز الأنساق التقليدية المتعارف عليها كي تندغم في فضاءات السرد العجائبي.
أحداث ترتفع من المستوى الواقعي إلى الرمزي
القاص عبد جعفر يلعب على التقنية الفانتازية في مجموعته الجديدة
أحداث ترتفع من المستوى الواقعي إلى الرمزي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة