الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر

قبع الشاب مارتن لوثر مستكينا أمام العاصفة الرعدية والسواد الدامس والمطر الممتد الذي أحاط به وهو يعبر الغابة في طريقه إلى منزله في مطالع القرن السادس عشر بإحدى مقاطعات ألمانيا بعدما كان عائدا من مدينة «إيرفورفت» التي كان يدرس بها، وقد انكفأ الشاب يرتعد من شدة البرد، ولكنه كان في حقيقة الأمر يخشى بردا مختلفا؛ لقد كان يخشى الموت وأن يلقى ربه وهو مُكَبَّلٌ بالذنوب.. كان الشاب يخشى أن يكون سلوكه في الحياة على غير رغبة المولى سبحانه، فكان يريد أن يطهر نفسه من هذا الخوف. وفي هذه الليلة الرعدية قطع الشاب مارتن لوثر على نفسه عهدا بأن يهب حياته لله سبحانه وتعالى وللطريق الديني القويم إذا نجا من هذه العاصفة، وذلك بالانضمام لأحد الأديرة راهبا، تاركا حلم أبيه بأن يكون محاميا ليخرج الأسرة من طبقتها الاجتماعية الدونية.
ولم يكن الشاب مارتن لوثر يدرك أن هذا العهد الذي حمله للتقرب من الله سبحانه وتعالى والأمان من العاصفة، سيؤدي إلى عاصفة لم تشهد أوروبا مثلها في تاريخها، فلقد كتب لهذا الشاب أن يبدأ حركة واسعة النطاق عرفت بحركة الإصلاح الديني في أوروبا في مواجهة أعتى مؤسسة عرفتها أوروبا الوسطى والغربية؛ وهي مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية وقيادتها ممثلة في بابا روما، فهذا اليوم كان بداية لسلسة من الأيام والسنوات والحقب التي غيرت مجرى التاريخ الأوروبي وفتحت المجال أمام الشعوب الأوروبية للتغيير والتحرر من فساد الكنيسة وطغيانها على الفرد والدولة معا.
لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية بمؤسساتها المتشابكة ورجال دينها فريدة من نوعها في التاريخ الحديث والقديم على حد سواء، فلقد كان البابا مركز سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ومقره في روما، وكانت مؤسسته الدينية عابرة للحدود والقوميات بحكم السلطان الروحي، فلقد رأس البابا سلسلة من عشرات الآلاف من الكنائس المنتشرة في أوروبا، التي كان لها دورها الحاسم في فرض مفاهيمها الدينية بموجب الإيمان المطلق بسلطانها، الذي كان مصدره القديس بطرس مؤسس الكنيسة، الذي أخذه مباشرة من توجيه السيد المسيح له.
وحقيقة الأمر أن قوة الكنيسة لم تقف فقط عند هذا الحد، بل إن سلطانها بات يتحدى السلطة السياسية أيضا، فلقد كانت الكنيسة تتحكم في حياة أي شخص في القرن السادس عشر في أوروبا من خلال الطقوس الكنسية المختلفة التي يقوم بها رجالها بدءا بعملية التعميد عند الميلاد لإدخال المولود الجديد إلى الأسرة الكاثوليكية، وحتى عملية الاعتراف الأخير قبيل الوفاة لضمان تطهير الروح للقاء بارئها، إضافة إلى ما عرف باسم «اليوكاريستيا Eucharistia» أي التناول، الذي بمقتضاه يتحول الخبز والنبيذ إلى لحم ودم السيد المسيح.. وغيرها من الطقوس التي ضمنت الولاء الكامل للرعية؛ وأهمها «الاعتراف» بوصفه وسيلة للغفران من خلال الكنيسة، فلقد أخذت الكنيسة على عاتقها مسؤولية أن تصبح هي همزة الوصل بين الله سبحانه وتعالى وكل الرعايا الكاثوليك، والباب إلى جنة الخلود، وهو سلطان إضافي ضمن للبابا والكنيسة دورا محوريا في حياة العباد.
ومع مرور الوقت، بدأت الكنيسة تفسد تدريجيا، فلقد أصبح البابا يقود مؤسسة أقرب ما تكون إلى مؤسسات الدولة؛ لها إداراتها الخاصة، وقد ساهم في إفسادها السلطة الروحية المطلقة التي كانت في أيدي البابوات الذين تفرغوا في مناسبات كثيرة للحياة الدنيوية ولزيادة أموال الكنيسة بما لا يتفق وتعاليمها. كما أن الفساد في السلك الكنسي أصبح ملموسا في كل ربوع أوروبا، خاصة عندما بدأت الكنيسة تتقاضى أجورا عن الخدمات الروحية التي كانت تقدمها للرعية، إضافة إلى تراكم الثراء لديها جراء امتلاكها أراضي كثيرة قدرها البعض بقرابة ثلث الأراضي الزراعية في بعض مناطق أوروبا، وهي لا تخضع للضرائب المدنية، فضلا عما توفر للكنيسة من دخل يفوق في مناسبات كثيرة الدولة، بسبب ضريبة العشر، إضافة إلى الأوقاف والهبات.. وغيرها، وهو ما وضعها في صراع مباشر في مواجهة الملوك والأمراء الذين ضاقوا ذرعا بمثل هذا السلوك الدنيوي للكنيسة.
لم يدرك الشاب مارتن لوثر هذه الحقائق عندما وهب نفسه إلى حياة الرهبنة وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، فلقد عمل على مدار قرابة ست سنوات للتقرب من الله سبحانه وتعالى من خلال ممارسة الطقوس اليومية والبعد عن كل ملذات الحياة ومتع الجسد، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يحصل على ما يريد أو الصفاء الروحي المنشود، فلقد ظل الخوف من عذاب الله قابعا في أعماقه، وقد زاد من حالته النفسية السيئة الرحلة التي قام بها إلى روما موفدا من الدير، حيث وجد في المقر البابوي كل ما هو أبعد عن أصول الديانة المسيحية من بذخ، وإدارة أشبه بالملكية للكنيسة، فضلا عن فساد غير مبرر؛ وعلى رأسه فكرة بيع صكوك للغفران من مرحلة «المطهر» التي تعذب فيها روح الكاثوليكي لتتطهر قبيل دخول الجنة، وهو ما كان يتعارض تماما ومفاهيم هذا الشاب الراقية حول المسيحية وتعاليم السيد المسيح.
عاد مارتن لوثر من رحلته وهو حانق على الكنيسة، وبدأت رحلة الشك في المؤسسة الكنسية تسيطر عليه، ومع ذلك ظل قابعا في فكره خائفا من الهلاك في الآخرة، ولكن الظروف لعبت لصالحه حين تم نقله إلى جامعة «فيتنبورغ»؛ حيث تبناه أحد الأساتذة ومنحه فرصة للتعلم ودراسة الكتب المقدسة بشكل أعمق بكثير مما كان سائدا في الأديرة، وتدريس اللاهوت، وقد زاد هذا من موقفه المتشكك إلى أن اصطدم بظاهرة مباشرة تمثلت في بيع صكوك الغفران للشخص أو أسرته من الأحياء أو الأموات، التي قادها موفد البابا المسمي «جون تيتزل»، وكان الهدف من ذلك هو جمع المال للانتهاء من تشييد كنيسة القديس بطرس في روما.
وقد هال مارتن لوثر ما سمع من أمر هذا «المنافق»، واعتبره تجسيدا لما لا يجب أن تكون عليه الكنيسة، وقد كانت هذه الحادثة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فلقد قرر مارتن لوثر عدم الرضوخ إلى هذه الظاهرة ومعها كثير من تعاليم الكنيسة وسلوكها، خاصة أن دراسته اللاهوت أوصلته إلى حقيقة أساسية؛ وهي أن الغفران يأتي من الله مباشرة، ولا يحتاج إلى وسيط من البابا أو رجاله، فالمطلوب أن يكون الإنسان خالص النية لربه، وأن التوبة هي مفتاح النجاة. وهنا بدأ مارتن لوثر يضع يده على مفتاح الهداية والإيمان بالنسبة له.
انفجرت الثورة الداخلية للشاب مارتن لوثر، فاحتج على هذا السلوك في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1517 ميلاديا، من خلال قيامه بكتابة ما عرف بـ«الخمس والتسعين رسالة» مستندا فيها إلى الكتب المقدسة ليثبت للعامة وللكنيسة أن بيع صكوك الغفران أمر غير مقبول أو جائز وفقا لتعاليم المسيحية، وقد قام بتعليق هذه الرسائل على مدخل كنيسة «فيتنبورغ» في نوع من الاحتجاج على هذه الممارسة والفساد.
وقد فوجئ أهل المدينة بهذه الرسائل، وهو ما أدخل المدينة في حالة ذهول ومناقشات ممتدة، وعلى الفور تم إرسال نسخة من هذه الرسائل إلى البابا في روما، ومن هنا انطلقت الشرارة الأولى لما هو معروف باسم «حركة الإصلاح الديني في أوروبا»، وهي في التقدير أقوى وأعنف حركة سياسية - اجتماعية تضرب أوروبا في تاريخها، سواء قبل أو بعد اعتناقها المسيحية، فلقد واجه الشاب مارتن لوثر أقوى مؤسسة في أوروبا وحده في بداية الأمر، ولكنه لم يبقَ وحده في هذا الصراع، فلقد اكتسب كثيرا من التحالفات والقوة مع مرور الوقت؛ حيث كان الأمراء والملوك قد ضاقوا ذرعا بقوة البابا المتنامية التي بدأت تنافسهم، لامتلاك البابا حق عزل أي حاكم أو أمير كنسيا بما يخرجه عن الملة تماما، كما كان في استطاعته خلع ولاء طاعة الرعية عنه في حال عدم امتثاله لرغبات الكنيسة، كما أن تراكم القوة السياسية الذي لم يَفُقْهُ إلا تراكم القوة المالية، كان له أكبر الأثر في اتساع الهوة بين السلطة الزمنية ممثلة في الملوك والأمراء، مقابل السلطة الكنسية ممثلة في البابا ورجال كنيسته، فلقد كانت الكنيسة في مناسبات كثيرة أغنى من الدولة ذاتها إلى الحد الذي أصبحت فيه الكنيسة تنافس الدولة في الاستحواذ على الضرائب والرسوم والهبات، وهو ما وضعها في طريق الصدام مع الدولة. يضاف إلى كل ذلك، أن الكنيسة كانت تعتبر سلطانها أقوى من سلطان الملوك والعامة، وبالتالي، فقد كان من الطبيعي أن يبدأ الصدام، وأن يسعى الملوك والأمراء إلى القضاء على نفوذ الكنيسة..
وهكذا أصبح المسرح مهيئا لأكبر صدام فكري وسياسي وعسكري في التاريخ الأوروبي كما سنرى.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».