حوار فني في مراكش بين شاعر و22 تشكيليًا

احتفاءً بـ«شهر الشعر».. وصاحب «القمر الأحمر»

جانب من حفل افتتاح معرض رواق «أسود على أبيض» المحتفي بتجربة الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري («الشرق الأوسط»)
جانب من حفل افتتاح معرض رواق «أسود على أبيض» المحتفي بتجربة الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري («الشرق الأوسط»)
TT

حوار فني في مراكش بين شاعر و22 تشكيليًا

جانب من حفل افتتاح معرض رواق «أسود على أبيض» المحتفي بتجربة الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري («الشرق الأوسط»)
جانب من حفل افتتاح معرض رواق «أسود على أبيض» المحتفي بتجربة الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري («الشرق الأوسط»)

احتفالا بشهر مارس (آذار).. «شهر الشعر»، نظم رواق «أسود على أبيض»، أخيرا بمراكش معرضا فنيا، منح الشعر فرصة التألق بألوان فنانين تشكيليين، تكريما لعبد الرفيع جواهري، أحد أبرز وأشهر الشعراء المغاربة المعاصرين.
وتميز حفل افتتاح المعرض بحضور نوعي وقراءات شعرية للمحتفى به، رافقتها لوحات موسيقية وتقاسيم على العود تمحورت حول عدد من أجمل كتابات جواهري، التي اشتهرت غنائيا، خاصة «راحلة» و«القمر الأحمر»؛ مع عرض لوحات لـ22 فنانا تشكيليا تمحورت حول تجربة الشاعر المغربي.
ومن بين الفنانين المشاركين في المعرض، نجد فلورنس أرنولد وعبد الكريم الأزهر وعزيز أزغاي ورشيد بكار وأحمد بليلي وصلاح بنجكان وماحي بينبين وأحمد بنسماعيل وحسان بورقية ونور الدين شاطر والعربي الشرقاوي ونور الدين ضيف الله وعبد الهادي العايدي وأحمد الأمين وأحمد الحياني وإلهام العراقي عمري وعزيز لخطف وحفيظ ماربو ومونية تويس وحسن نديم ونادية أورياشي والتيباري كنتور.
وشكل الجمع بين تجربة جواهري الشعرية وإبداعات الفنانين التشكيليين المشاركين فرصة للحوار بين القصيدة واللوحة، بشكل أبرز أن «الرسم شعر صامت، وأن الشعر رسم ناطق»، خاصة أن الفنان التشكيلي وهو أمام اللوحة، تماما كما الشاعر أمام القصيدة، يحلم ويتخيل ويبدع، محولا أفكاره وافتراضاته إلى واقع.
وقال الفنان أحمد بنسماعيل، لـ«الشرق الأوسط»، إن الاشتغال على موضوع المعرض انطلق منذ نحو 4 أشهر، وأنهم أخذوا، كفنانين، الوقت الكافي لإبداع أعمال فردية تساير فكرة وموضوع المعرض؛ مشيرا إلى أن الحوار بين إيقاع القصيدة وألوان الرسم يبقى اختيارا موفقا، خاصة أنه يتزامن مع احتفال كوني بالشعر؛ مبرزا أن تركيز 22 فنانا تشكيليا على أعمال شاعر واحد، ربما، تكون التجربة الأولى من نوعها، عبر العالم، الشيء الذي يؤكد قيمة ومكانة الشعر، عالميا، والمكانة التي يعطيها الفنانون التشكيليون المغاربة، للشعر، بشكل عام، ولتجربة الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري، بشكل خاص.
ويعتبر جواهري أحد الأسماء البارزة في المشهد الشعري المغربي المعاصر، كما يعرف بانخراطه في العمل الحقوقي والسياسي والإعلامي، هو الذي حُول عددٌ من أشعاره الغنائية إلى أغاني صارت من خالدات الموسيقى المغربية، بعد أن أداها كبار الأغنية المغربية العصرية، من قبيل عبد الهادي بلخياط في «القمر الأحمر»، والراحل محمد الحياني في «راحلة»، والراحلة رجاء بلمليح في «يا جار وادينا».
وعرف جواهري في أكثر من مجال. فهو محام، ورئيس سابق لاتحاد كتاب المغرب، وبرلماني سابق عن مدينة مراكش، وأحد مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، كما أنه تدرج في مواقع النضال في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حتى صار عضوا في مكتبه السياسي، وهو، قبل هذا وبعده، شاعر، تغنى بقصائده كبار المطربين المغاربة، فضلا عن أنه كاتبٌ، وأحد مؤسسي الكتابة الساخرة في الصحافة المغربية المكتوبة.
ومنذ «ميعاد»، أول أغنية تعاون فيها مع الملحن المغربي الراحل عبد السلام عامر، سيراكم جواهري أكثر من 30 أغنية، تعامل فيها مع ملحنين معروفين، أمثال عبد السلام عامر وحسن القدميري وعبد الرفيق الشنقيطي وسعيد الشرايبي، تراوحت خلالها تجربته الشعرية بين مرحلة أولى غنائية ومرحلة ثانية تساوقت مع الالتزامات السياسية، التي أطرها ديوان «وشم في الكف»، الذي جاء محتفيا بالشهادة والشهداء، ثم ديوان «شيء كالظل». وعلى مدى المرحلتين، آمن جواهري بأن القصيدة الشعرية يجب أن تحيا خارج الأوراق، وأن تقوم على لغة شفافة ورقيقة بعمق رومانسي، حتى ولو كانت بأبعاد ثورية، مشددا على حاجة القصيدة لأن تبقى بمنأى عن الوثوقية والخطابة.
كما اشتهر جواهري بكتاباته الساخرة عبر «نافذة»، التي دأب على نشرها بانتظام، يوم الأربعاء، من كل أسبوع، في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي، إلى أن جرى وقف نشرها، بعد أن «كانت تزعج في وقتها عدة جهات وتخلق لكاتبها متاعب مختلفة لم تكن تؤثر بتاتا على خط سيره»، على رأي الإعلامي محمد البريني، المدير السابق لجريدة «الأحداث المغربية»، التي يعتبر جواهري أحد مؤسسيها. ويرى البريني أن جواهري «أسس للكتابة الساخرة الجيدة في الصحافة المغربية المكتوبة وأنجز تراكما يستحق الانتباه»، حيث كان «هاجس الكاتب هو الخروج من لغة الخشب، وذلك باستعمال معجم متحرر من التحجر اللغوي واستثمار الثقافة الشفوية بمختلف تعبيراتها، من أمثال شعبية وحكايات وأزجال وأغان، وتوظيفها عند الاشتغال على ما هو اجتماعي وسياسي من أحداث كل أسبوع».
ولم تتوقف إبداعات جواهري عند حدود دواوينه «وشم في الكف» و«شيء كالظل» و«كأني أفيق» و«الرابسوديا الزرقاء» و«القمر الأحمر»، حيث نشرت له، في وقت سابق، مؤلفات أخرى خارج مجال الكتابة الموزونة، ومن ذلك «غرفة الانتظار» و«النافذة» و«أصحاب السعادة» و«جامع الفنا: الصورة وظلالها».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!