لماذا يلجأ كتاب عرب إلى الكتابة بلغات أجنبية؟

بعضهم يتبنونها وآخرون يعتبرونها ضريبة

غلاف «منفى اللغة»
غلاف «منفى اللغة»
TT

لماذا يلجأ كتاب عرب إلى الكتابة بلغات أجنبية؟

غلاف «منفى اللغة»
غلاف «منفى اللغة»

كلمة الفرنكفونية، حسب التعريف عنها السائد في المصادر العربية، تعني البلاد والأفراد الناطقين باللغة الفرنسية. وكان الجغرافي أونوزيم ريكلوس أول من تناول هذا التعبير في سنة 1880.
لكن هذه الكلمة أخذت مع مرور الوقت مفهوما آخر، وأصبحت تدل على المستعمرات الفرنسية القديمة الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية.
وعندما نتحدث عن الفرنكفونية فإن أول سؤال يراود أذهاننا: لم اختار كُتّاب عرب الكتابة بلغة غير لغتهم الأم؟ هذا إذا كانوا قد اختاروا فعلا.
استنادا إلى كتاب «منفى اللغة» لشاكر نوري، من منشورات «دبي الثقافية»، وهو عبارة عن حوارات مع أدباء فرنكفونيين أمثال أحمدو كرووما وبوعلام صنصال ورشيد بوجدرة وياسمينة خضرة وإدمون عمران المليح وغيرهم من الكتاب، نتعرف على مسيرتهم وعلى ارتباطهم باللغة الفرنسية، وقد نلتمس أسباب لجوئهم إليها ونتعرف على جملة منها.
إذا ألقينا الضوء على الأحداث التاريخية، نجد أن أحد الأسباب الرئيسية هو الانتداب الفرنسي بعد مجيء نابليون ثم الاستعمار الفرنسي في بلدان المغرب العربي وبعض بلدان مشرقه الذي ترك بصماته طويلا ولحد الآن. وقد برهن الاستعمار الفرنسي على مر التاريخ أنه استعمار ثقافي بعكس البريطاني الذي كان استعمارا اقتصاديا، كما هو معروف.
ويذكر الرئيس السنغالي السابق والشاعر ليوبولد سيدار سنغور، الذي كتب شعره باللغة الفرنسية واشتهر بها في فترة الخمسينات، أن «الفرنكفونية ثقافة تتجاوز مجرد النطق باللغة الفرنسية لتصبح وسيلة تعتمدها الشعوب الناطقة بهذه اللغة لتشارك في صنع ثقافة إنسانية ترتكز على مجموعة من القيم المشتركة. وبالطبع، هذه هي الهيمنة الثقافية بعينها».
الانتداب الفرنسي رحل عسكريا لكنه أبقى ثقافته المتمثلة في المدارس والجامعات والإرساليات الفرنسية، وكما تقول ناديا تويني «نحن متهمون بأننا جيل ترعرع تحت الاستعمار الفرنسي وبأننا صنيعة مدارس الإرساليات الأجنبية..». وتقول أيضا «إن اعتمادنا الفرنسية كلغة إبداع نتاج اختيار واع وحر، ولا يعني قطعا رفضنا لهويتنا اللبنانية والعربية، بل على العكس من ذلك، فنحن نسعى إلى بلورة هذه الهوية وإلى التأكيد عليها وتفعيلها عن طريق التعبير عنها باللغة الفرنسية..».
وتدافع الكاتبة اللبنانية هيام يارد عن الفكرة نفسها، فترى أن الكتابة باللغة الفرنسية هي خيار وليست ضريبة فُرضت على بعض الكتاب الفرنكفونيين بحكم الأحداث التاريخية التي مرت بها البلاد العربية. وتذكر يارد في هذا الصدد «أنا أجعل الفرنسية لبنانية، لأنها تعكس لبنانيتي. أنا امرأة عربية مائة في المائة ولا أتنكّر لعروبتي، إلا أنني أكتب باللغة الفرنسية».
قد تحملنا مثل هذه الأفكار إلى اللجوء إلى التفسير السيكولوجي بأن طبيعة الإنسان تتكون من عاطفتين متناقضتين هما «حب الظهور والتفوق، وحب الانقياد والخضوع». إذا أسقطنا هذين المحورين ستتبلور أمامنا الأسباب خلف اختيار بعض كتابنا الكتابة بلغة غير لغتهم الأم. وبما أن اللغة الفرنسية كانت لغة التفوق أو لغة الغالب فمن البديهي أن يلجأوا إليها لتفتح أمامهم الطريق الأسرع نحو الشهرة والعالمية، أو قد يكون ذلك ببساطة بدافع الاستسلام للغة الأقوى والخضوع لها.
لكن هذه ليست الحقيقة كلها، فكثير من الكتاب فُرضت عليهم اللغة الفرنسية ويجهلون لغتهم الأم بحكم الاستعمار الطويل. ومن ينسى صرخة الشاعر الجزائري مالك حداد «اللغة منفاي»، وطبعا يقصد اللغة الفرنسية؟
وهناك عشرات الكتاب سواء في البلدان العربية أو الأفريقية الذين يعانون من منفى اللغة. تقول أندريه شديد في هذا السياق «لا أعرف اللغة العربية بشكل كامل حتى أكتب بها أعمالا أدبية..».
وهكذا، وعلى الرغم من مرور زمن طويل على نشوئها، لا يزال كثير من الأسئلة القديمة - الجديدة يلح على المشتغلين بحق الفرنكفونية، كما نستشف من الحوارات التي ضمها كتاب «منفى اللغة». هل تفتح الكتابة بالفرنسية المجال أمام الكتاب لتناول المحرمات التي لا يمكن للكاتب العربي الاقتراب منها؟ وهل تختلف طريقة التعامل مع النص الأدبي في اللغتين العربية والفرنسية؟ وما هي حدود اللغة.. أهي غاية أم وسيلة؟».
لم يجب شاكر نوري، سواء في مقدمته، أو في الحوارات التي أجراها، عن هذه الأسئلة بشكل مباشر، ربما ليترك للقارئ حرية الاستنتاج والتحليل.. لكنها أسئلة تضعنا، من ناحية أخرى، أمام مشكلة حرية التعبير في العالم العربي.. تضعنا أمام مسألة حرية التعبير ومصادرة الفكر وتسييسه لصالح جهات معينة. حتى كتابة التاريخ التي من المفترض أن تكون دقيقة وموضوعية ما عاد القارئ يثق بصلاحيتها.. وهنا يقول بوعلام صنصال «التاريخ ليس تاريخا عندما (يفبرك) المجرمون حبره ويمررون فيه أقلامهم.. إنه سجل يفضحهم..».
فالكتابة باللغة العربية شهدت قمعا بمختلف الوسائل، منها نفي الكتاب أو سجنهم أو منعهم من نشر كتبهم ومصادرتها.. أصبحت الكتب لا تخضع لرقابة لغوية وفكرية بل لرقابة القوى السياسية الحاكمة. ومارس الكاتب بمرور الزمن، وبحكم ميكانيكية القمع، نوعا من الرقابة الذاتية، واضعا خطوطا حمراء في داخله لا يتجرأ على تخطيها.
لكن بعض الكتاب يطرحون أسبابا أخرى، لا تبدو مقنعة كثيرا، أمثال ياسمينة خضرة الذي يرى أن «الكتابة باللغة الفرنسية تساعد الأجنبي على فهم الحضارة العربية.. فلا يمكن أن نصل إلى فهم الآخر بشكل تام إلا حين يتحدث بلغتنا.. انطلاقا من فكرة أن اللغة هوية»، وأن «قوتنا تنبع من أننا نطرح الفكر العربي في أدبنا المكتوب بالفرنسية».



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.