سد مهرجان برلين، الذي يقفل باب أعماله يوم غد (الأحد)، الثغرة التي عانى منها مهرجان «كان»، وسواه من المهرجانات الأولى، عندما غابت المرأة من عداد المخرجين الذين اختارتهم تلك المهرجانات لتقديم أعمالهم.
إلى جانب فيلم الافتتاح «لا أحد يريد الليل»، الذي حققته الإسبانية إيزابيل كواكست، عرضت البولندية مالغوراتزا شوموسكا فيلمها «جسد»، وقامت لورا باسبوري بعرض فيلمها المموَّل ألبانيا وإيطاليا «عذراء محلّـفة». هذا بالطبع إلى جانب أن المرأة على الشاشة، وليس فقط وراء الكاميرا، شهدت حضورا أكبر من المعتاد.
كواكست وحدها، بين المخرجات المشتركات، سعت لتقديم شخصية قوية في ظروف استثنائية. في «لا أحد يريد الليل» تتابع رحلة بطلتها زوجة رحّـالة أميركي (تؤديها الفرنسية جولييت بينوش) تريد الالتحاق بزوجها الذي استوطن القطب الشمالي في رحلة استكشاف. ما تواجهه من معضلات طريق وظروف جوية وعواصف وخطر الموت جوعا هو الدراما الفعلية التي تطالعنا على الشاشة من بعد نصف ساعة أو أكثر قليلا من بداية الفيلم.
بطلة «جسد» لديها هم مختلف، كذلك بطلة «عذراء محلّـفة». الأول أفضل هذه الأفلام الثلاثة. بطلته آنا (مايا أوستازفسكا)، فتاة يُدخلها والدها مصحّة خوفا من أن تنتحر بعد وفاة والدتها، وكانت آنا خسرت قبل ذلك حياة طفلها. الفيلم، رغم موضوعه هذا، كوميديا سوداء حول كيف تواجه المرأة مصاعب حياتها النفسية والعاطفية وتضع نفسها على طريق الهرب مما يحيط بها من إحباطات ومآزق نفسية، ولو دخولا في عالم الغيبيات.
كواكست وحدها، بين المخرجات المشتركات، سعت لتقديم شخصية قوية في ظروف استثنائية. في «لا أحد يريد الليل» تتابع رحلة بطلتها زوجة رحّـالة أميركي (تؤديها الفرنسية جولييت بينوش) تريد الالتحاق بزوجها الذي استوطن القطب الشمالي في رحلة استكشاف. ما تواجهه من معضلات طريق وظروف جوية وعواصف وخطر الموت جوعا هو الدراما الفعلية التي تطالعنا على الشاشة من بعد نصف ساعة أو أكثر قليلا من بداية الفيلم.
لكن بطلة «جسد» لديها هم مختلف، كذلك بطلة «عذراء محلّـفة». الأول أفضل هذه الأفلام الثلاثة. بطلته آنا (مايا أوستازفسكا)، فتاة يُدخلها والدها مصحّة خوفا من أن تنتحر بعد وفاة والدتها، وكانت آنا خسرت قبل ذلك حياة طفلها. الفيلم، رغم موضوعه هذا، كوميديا سوداء حول كيف تواجه المرأة مصاعب حياتها النفسية والعاطفية وتضع نفسها على طريق الهرب مما يحيط بها من إحباطات ومآزق نفسية، ولو دخولا في عالم الغيبيات.
«عذراء محلّـفة» أسوأ هذه الأعمال المذكورة. هو عن فتاة تعيش في منعزل من الشمال الألباني ما زالت عذراء بقرار رفض للتقاليد، حيث تؤدي المرأة دورا ثانويا في الحياة لا يتعدّى أن تكون زوجة وخادمة الزوج في الوقت ذاته. هذا المفهوم يدفعها إلى طلاق أنثويتها والتصرف كصبي لعدة سنوات إلى أن تقرر أن تنزح إلى ميلانو حيث تعيش شقيقتها وعائلتها. هناك تجد نفسها شاهدة لمنوال مشابه، فابنتا شقيقتها على طرفي نقيض؛ واحدة تريد الهرب مع من تحب، والأخرى تلتزم بتعاليم أبيها. الفيلم، على ركاكة سرده، هو بحث تلك العذراء عن هويتها، وهو بحث يفضي بالفيلم إلى نهاية لا تقدّم ولا تؤخر حتى على مستوى ما أراد الفيلم توفيره من حالات.
* في الزمن الماضي
الظاهرة الأخرى التي نستطيع أن ننقلها مما شاهدناه من أفلام المسابقة هي أن أعمالا كثيرة عادت إلى فترات زمنية سابقة. لدينا «لا أحد يريد الليل» و«ملكة الصحراء» الكامنان في مطلع القرن العشرين. كذلك حال الفيلم الفرنسي «مفكرة خادمة الغرفة» لبنوا جاكو الذي يسرد حكاية الفتاة سيليستين (ليا سيدو) التي غادرت باريس، في عام 1900 إلى نورماندي حيث انتهت، بعد تجربة واحدة، للعمل في دار رجل ميسور (فنسنت ليندون) اعتاد معاشرة الخادمات في منزله، رغم حذر زوجته وغيرتها. ها هي الطبّـاخة حامل منه وهو يحوم حول سيليستين التي تقرر عدم الاستجابة له مهما كلّـفها الأمر.
الفيلم ليس جديدا، إذ نقل الحكاية التي وضعها أوكتاف ميربيو في العام ذاته (1900) إلى فيلم روسي سنة 1916، وإلى فيلمين فرنسيين أحدهما لجان رنوار سنة 1946، والثاني من توقيع لوي بونويل سنة 1964. بالإضافة إلى أسلوب عمل بونوا المختلف عن رفيقيه رنوار وبونويل، لا يوجد هنا إلا القليل من ملامح الإجادة أو التميز. يبدو الفيلم كما لو أنه وضع نصب عينيه أن يبيع لجمهور عريض وينتقل بعد ذلك إلى جمهور تلفزيوني أعرض.
وفي «إلسر: 13 دقيقة» (Elser: 13 Minutes) تعود بنا الأحداث إلى عام 1939 إلى حين قام النجار جورج إلسر بمحاولة اغتيال أدولف هتلر زارعا قنبلة موقوتة في مخزن للبيرة في مدينة ميونيخ عرف أن هتلر سوف يزوره. المخرج أوليفر هيرشبيغل لا يزال يسير في أعقاب الفترة الهتلرية (من بعد فيلمه «سقوط» قبل 12 سنة) متعاملا هنا مع الوضع الاقتصادي والسياسي حتى قبل ذلك التاريخ. الموضوع جيد مع وجود اهتمام دائم وجاهز لسبر غور المزيد من الحكايات الدائرة في تلك الفترة (وحول الحقبة الهتلرية)، لكن المخرج لا يبدو أنه ينشد هنا أكثر من ذلك مكتفيا بسرد مقبول وطموح محدود.
وإلى عام 1931 ينتقل المخرج البريطاني بيتر غريناواي بفيلمه «ايزنشتاين في غوانجووتو» إلى فترة من حياة المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين الذي أهدى الثورة الروسية أعمالا فنية هي في حقيقتها أيضا أفلام بروباغاندا، من بينها «إضراب» و«سفينة الحرب بوتمكين» و«أكتوبر»، قبل أن يتوجه إلى المكسيك لتحقيق فيلم أميركي اشترط منتجوه أن لا يتعاطى السياسة.
حسب المخرج البريطاني غريناواي، استنادا إلى بعض ما كُـتب حينها وبعدها من روايات، خاض أيزنشتاين حياة جنسية عصيبة. وصل شبه عذري ووجد نفسه واقعا تحت تأثير الرجل الذي أسندت إليه مهمة الإشراف على أعماله وراحته، فتحوّل إلى مـثـلي سعيد! طبعا لا توجد وثائق تؤكد ذلك، ولا أخرى تؤكد غير ذلك، لكن الفيلم يبني صرحه على ما يطرحه موديا بالهالة التي أحاطت بأيزنشتاين كفنان ثوري إلى ركن وضيع. غريناواي ينجز ما ينجزه عادة من طريقة عمل فنية تستعير أشكالا تعبيرية مختلفة.
في المقابل يمتطي فيلم رادو جود «أفريم»، المقدّم تحت 3 رايات؛ رومانيا وبلغاريا وجمهورية تشيك، ظهر حكاية تدور رحاها سنة 1835 عندما كان مشاعا في ذلك الحين، وعلى ذمّـة الفيلم، اعتبار الغجر عبيدا محكومين بقوانين استبدادية قاسية. بطلا الفيلم هما الضابط كونستانتين وابنه اللذان يمتطيان حصانيهما ذات صباح لمطاردة غجري هارب ومتـهم بأنه أقام علاقة مع زوجة سيده. الفيلم هو تلك الرحلة من مطلعه إلى نهايته الوخيمة. حصانان يجتازان البراري والغابات والوديان والثلوج فوق الجبال ليقبضا على الغجري الهارب، ويعودان به إلى ذلك السيد الذي يصر على اجتثاث فحولة الغجري رغم اعتراف زوجته بأنها هي التي غررت به.
* فيلمان متباعدان
هل يمكن اعتبار كثرة الأعمال التي تتناول فترات تاريخية سابقة هروبا من الحاضر ومشاكله وهمومه؟
في السنوات الماضية تكاثرت الأفلام التي تطرّقت، خلال عرضها على شاشات «برلين»، كما سواه، إلى الشؤون السياسية والاجتماعية الحاضرة من الحرب في أفغانستان إلى الحرب العراقية ومن الإسلاموفوبيا إلى الأوضاع الاقتصادية في أوروبا اليوم والبطالة أو انتشار المافيات الأوروبية وسواها من المواضيع. هذا من دون أن تكف السينما عن التطرق إلى مراحل الأمس وحروبه، مثل تلك الأفلام التي طرحت الحرب البوسنية - الصربية أكثر من مرة.
الحاصل هو أن إجماعا مفاجئا على الالتفات إلى عصور سابقة وإلى سير حياة آنفة ساد الاختيارات هذه السنة. بعض هذه الاختيارات من إخراج سينمائيين مرموقين (الفرنسي بونوا جاكو، الألماني فرنر هرتزوغ، البريطاني بيتر غريناواي.. إلخ)، وبعضها الآخر لمخرجين لم يحققوا بعد المكانة ذاتها، لكن الفريقين يعكسان قدرا من الرغبة في تصوير الأمس إما من حيث إنه تمهيد لما هو الحال عليه اليوم (كما هو وضع فيلم «النادي» للأرجنتيني بابلو لوران، الذي هو أحد أفضل ما تم عرضه هنا) أو من حيث حصر الوضع بتلك الفترة («أفريم») أو سعيا لرابط ثري بين الأمس واليوم (كحال «ملكة الصحراء»).
الأفلام التي اكتفت بالدوران في عالم اليوم بدأت بفيلم «تاكسي» لجعفر باناهي، وشملت فيلم «فارس الكؤوس» للأميركي ترنس مالك، والفارق بين الاثنين شاسع على كل صعيد. الأول فيلم لمخرج يعمل تحت حكم جائر حرمه من العمل، والثاني فيلم يتمتع صاحبه بكل مقوّمات الحرية الفنية والإنتاجية الممكنة. «تاكسي» يدور غالبا في تلك السيارة ومن دون أي لمعات فنية أنجزها باناهي سابقا، و«فارس الكؤوس» هو رسم بالريشة وسباحة في فضاء الحرية وسبر غور الإنسان وبحثه عن ذاته في عالم يفتقر الأخلاقيات والروحانيات. في المقام الأول: «تاكسي» هو عنوان قلة الحيلة التي تؤدي إلى لا إنجاز، والثاني عنوان لما تستطيع السينما أن تحققه عندما يتولى المخرج تقرير مصير عمله بنفسه وبلا عوائق.