تسيبراس.. السياسي المتمرد عدو التقشف في أوروبا

رئيس الوزراء اليوناني الجديد يرفض ارتداء ربطة العنق إلا بشرط واحد هو «إلغاء ديون» بلاده

تسيبراس.. السياسي المتمرد عدو التقشف في أوروبا
TT

تسيبراس.. السياسي المتمرد عدو التقشف في أوروبا

تسيبراس.. السياسي المتمرد عدو التقشف في أوروبا

أصبح أليكسيس تسبيراس حديث الساعة على الساحتين اليونانية والدولية بعد فوز حزبه اليساري المتطرف في الانتخابات التشريعية اليونانية الأخيرة معتمدا على أجندة سياسية موضوعها الرئيسي هو مكافحة التقشف وعدم الخضوع لشروط الجهات الدائنة الدولية.

بات تسيبراس، 40 عاما، زعيم حزب سيريزا المناهض لإجراءات التقشف، أصغر من يتولى هذا المنصب في تاريخ اليونان. وكسر تسيبراس الذي يرتدي في العادة بدلة زرقاء اللون من دون ربطة عنق، التقليد المتبع بأداء القسم الديني في اليونان البلد المسيحي الأرثوذكسي، إذ اختار أداء قسم مدني متعهدا «خدمة مصالح الشعب اليوناني دائما». وقال قبيل أدائه القسم أثناء اجتماع مقتضب مع رئيس الدولة «إن طريقا وعرا ينتظرنا».
وتسيبراس رئيس حزب سيريزا منذ 2008 ونائب رئيس اليسار الأوروبي منذ 2010. هو أول حزب حاكم في أوروبا يرفض صراحة سياسات التقشف التي تدعو إليها خصوصا ألمانيا. كما يدعو سيريزا إلى خفض الدين اليوناني الذي يلقى رفضا بين دائني البلاد، الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وقبل أدائه قسم اليمين قال تسيبراس لرئيس الدولة إنه اتفق مع الحزب السيادي لليونانيين المستقلين الذي يحظى بـ13 مقعدا نيابيا لتشكيل حكومة. وبعد أدائه القسم، توجه تسيبراس إلى جدار كيسارياني القريب من أثينا حيث أعدم 200 شيوعي رميا بالرصاص في 1944 على يد النازيين.
كان عضوا في الحزب الشيوعي للشباب قبل أن يتجاوز السابعة عشرة من عمره، كما قاد اعتصامات الطلاب التي كانت في بداية التسعينات من القرن الماضي، والتي كان الهدف منها الاعتراض على نظام التعليم والمطالبة بإدخال إصلاحات، وحينما طالب وزير التعليم آنذاك وفدا منهم من أجل التفاوض حول مطالبهم من أجل تطوير النظام التعليمي، كان تسيبراس على رأس الوفد وتفاوض بشكل مذهل وكأنه رجل محنك سياسيا، وشهد تسيبراس أول نجاح سياسي له عندما استجاب الوزير وقتها لعدد من مطالبه.
شارك تسيبراس في عدد من التنظيمات السياسية الطلابية في اليونان ذات الأفكار اليسارية، كما كان نائب رئيس اتحاد الطلبة بالجامعة، وبعد تخرجه عام 2000 ابتعد عن العمل السياسي لعدة سنوات من أجل الحصول على عدد من الشهادات العليا في مجال البناء والتخطيط العمراني، وشارك في بناء الكثير من الشركات والمؤسسات والمباني بأثينا. وفي عام 2006 لم يستطع تسيبراس الابتعاد عن السياسة أكثر من ذلك، فرشح نفسه للانتخابات البلدية بأثينا من خلال عضويته بحزب ائتلاف اليسار الراديكالي «سيريزا»، وحقق فوزا ساحقا، وقد كان من المتوقع أن يرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية لعام 2007 إلا أنه فضل إثبات نجاحه وقدرته علي القيادة من خلال الحزب وعضويته بالمجلس المحلي.
وبعد نحو 5 سنوات من عنفوان ألكسيس تسيبراس في صفوف المعارضة اليونانية، وبعد مغازلاته المتنوعة للناخبين، الذين عانوا طويلا من تدابير التقشف المفروضة على البلاد بضغوط من الدائنين، واستمرار خفض المرتبات والمعاشات وتسريح الموظفين والعمال وزيادة الضرائب، تمكن من تحقيق فوز تاريخي على غريمة أندونيس ساماراس الذي قاد حكومة ائتلافية عمرها عامين ونصف فقط.
قطع ألكسيس تسيبراس، رئيس حزب سيريزا المناهض للتقشف الفائز في الانتخابات التشريعية اليونانية، شوطا كبيرا منذ أيام شبابه الشيوعية، لكنه ما يزال يزدري ربطات العنق ويكن حنينا لتشي غيفارا، وبالإجابة عن سؤال لأحد الصحافيين المقربين له بارتداء رابطة عنق بعد فوزه، قال تسيبراس «بشرط واحد فقط.. إلغاء ديون اليونان».
قد يكون تسيبراس البالغ 40 عاما أصغر رئيس وزراء لليونان منذ 150 عاما، ويشكل أمل اليسار الأوروبي المناهض لليبرالية والذي توجه عدد من ممثليه إلى أثينا مؤخرا للتضامن معه وللمساعدة في نجاحه، ولم يكن هناك أي شك لدى تسيبراس في النصر، حيث بدا في لقائه الانتخابي الأخير في أثينا بصورة رئيس حكومة، معربا عن «الإدراك بالكامل في بداية مهمة شاقة»، ورغم أنه غير منحدر من عائلة سياسية على عكس شخصيات يونانية كثيرة، فقد استهواه النشاط السياسي في مرحلة مبكرة.
وقد اكتشفته اليونان ممثلا لحركة تلاميذ في برنامج تلفزيوني عام 1990، مؤكدا بحزم رغم أعوامه الـ17 «نريد الحق في اختيار متى ندخل الحصة»، وأطلق الرجل الذي يحتفظ بملامح شابة، اسم اروفيوس على أحد أبنائه تعبيرا عن إعجابه بتشي غيفارا، وهو أب لولدين، كما أنه يقيم مع شريكته بالمساكنة، في بلد محافظ من حيث التقاليد الاجتماعية. ولد ألكسيس تسيبراس في أثينا يوم 28 يوليو (تموز) 1974 وتخرج في المدرسة الثانوية في امبيلوكوبي بالقرب من وسط أثينا، وشارك في الاحتجاجات الطلابية عامي 1990 و1991 وانضم لليسار وحصل على الدراسات العليا في التخطيط المدني والإقليمي (هندسة معمارية) وتولي تسيبراس رئاسة الحزب في فبراير (شباط) عام 2008 حيث حصل على نسبة 70 في المائة من الأصوات مقابل منافسة فوتيس كوفيليس (زعيم حزب اليسار الديمقراطي) حاليا.
تأسس حزب تحالف اليسار الراديكالي (سيريزا) (SYRIZA) الذي يترأسه ألكسيس تسيبراس عام 2004. وللحزب حاليا 149 مقعدا في البرلمان اليوناني من إجمالي 300، ويسيطر على نصف أقاليم اليونان تقريبا ويتكون الحزب من مجموعة من التحالفات والمنظمات ذات الاتجاه اليساري.
ويحاول الحزب معالجة عدد من القضايا التي شغلت المجتمع اليونانية مثل الديون السيادية - الأزمة التي تسببت في تجويع وفقر اليونانيين -
القضية القبرصية - الناتو - اسم يوغسلافيا السابقة - الخصخصة -الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وكحركة يونانية مناهضة لليبرالية في العالم، وآيديولوجية هذا الحزب الاشتراكية الديمقراطية والايكولوجيا الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية.
وقال المحلل السياسي مسعود الغندور، الدبلوماسي الفلسطيني السابق في أثنيا والمطلع بشكل جيد على الوضع السياسي في اليونان بحكم إقامته فيها منذ 1968، إن تسيبراس زعيم جديد استطاع أن يعبر ويستفيد من حالة الإحباط التي هيمنت على حياة المجتمع اليوناني، والمعاناة التي تحملها الشعب من الإجراءات الاقتصادية المجحفة طوال السنوات السابقة. وأضاف الغندور لـ«الشرق الأوسط» «إننا اليوم أمام أصغر رئيس وزراء في تاريخ اليونان، وهو أنهى الثنائية التي كانت تهيمن على حكم البلاد ممثلة في حزبي الديمقراطية الجديدة المحافظ والباسوك الاشتراكي، وكذلك وعد بعلاقات خاصة مع الكنيسة رغم أدائه يمينا دستورية مدنية، وأعطى وعودا سياسية كبيرة لمصلحة المهاجرين والجاليات الأجنبية.
يذكر أن اندلاع أزمة الديون في 2010 وسنوات التدهور الاقتصادي التي رافقتها، أدى إلى إعلاء صوت اليسار المتشدد وزعيمه الذي ندد «بالأزمة الإنسانية» الناجمة عن إجراءات التقشف القاسية التي فرضها الدائنون، أي البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية.
في غضون 3 سنوات تضاعفت حصيلة سيريزا الانتخابية
5 أضعاف، ففي انتخابات 2012 التشريعية حل ثانيا خلف «الديمقراطية الجديدة» برئاسة إندونيس ساماراس، وتصدر الانتخابات البرلمانية الأوروبية في الربيع الماضي، ومنذ هذه الانتخابات بدأ تسيبراس يصقل صورته دوليا، وبعد تحسن كبير في إتقانه اللغة الإنجليزية كما كثف رحلاته إلى الخارج، وزار رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي ووزير المالية الألماني وولفغانغ شاوبله المدافع عن سياسة التقشف التي يرفضها، وكذلك البابا فرنسيس.
وأعلن تسيبراس خلال خطاب الفوز أن «الشعب اليوناني سطر التاريخ» وهو «يترك التقشف وراءه»، معلنا فوز حزبه اليساري في الانتخابات التشريعية، وقال أمام الآلاف من أنصاره الذين تجمعوا في ميدان جامعة أثينا بعدما رفض الذهاب إلى مقر قصر زابيو الذي دوما يعلن من داخلة الفائزين في الانتخابات منذ عشرات السنين «إنها إشارة مهمة لأوروبا التي تتغير والفوز هو أن الشعب اليوناني يعني نهاية الترويكا».
وبعد أكثر من 6 سنوات تذوق خلالها اليونانيون مرارة التقشف وخفض الرواتب وزيادة الضرائب، لم يجدوا سبيلا سوى تسيبراس وحزبه، الذي طالما هاجم خطط التقشف التي لجأت لها الحكومات السابقة من أجل تصحيح الوضع المالي، وإعلانه مرارا وتكرارا من خلال خطاباته الرنانة وظهوره في وسائل الإعلام مدى تعاطفه مع المواطن اليوناني الذي أرهقته خطط التقشف، كما أن انتقاده الدائم لارتفاع نسبة البطالة بين المواطنين بصفة عامة وبين الشباب بصفة خاصة، والتي جعلت عددا كبيرا منهم يلوذ بالفرار خارج البلاد، ومطالباته في البرلمان بزيادة المرتبات ورفع معاشات التقاعد، جعل اليونانيين يشعرون بأن تسيبراس هو الوحيد الذي يشعر بمأساتهم.
وقال تسيبراس إنه يعي جيدا بأن اليونانيين لم يعطوه شيكا على بياض، موضحا أنه أمام فرصة مهمة من أجل اليونان وأوروبا، وعلى صعيد المفاوضات الحاسمة مع دائني البلاد، قال إن الحكومة اليونانية الجديدة مستعدة للقيام بحوار جدي ووضع خطة وطنية وخطة حول الديون، حيث إن من بين النقاط الرئيسية للبرنامج الاقتصادي وضع نهاية للإجراءات التقشفية والتفاوض مجددا حول الديون الضخمة.
وأوضح ألكسيس تسيبراس أنه لا يوجد فائزون ومهزومون في الانتخابات، فالأولوية هي مواجهة جروح الأزمة وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد، وطرد الخوف والعيش بكرامة للشعب اليوناني كله، مشيرا إلى هؤلاء الشباب وأساتذة الجامعات والأطباء الذي غادروا البلاد كمهاجرين إلى دول العالم الأخرى بحثا عن حياة أفضل. وأكد تسيبراس أن أولويته تكمن في إعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على جزء كبير من دين بلاده العام (175 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي) من أجل الانتعاش ووضع حد للتقشف، الأمر الذي يقلق الدائنين والأسواق.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.