ملامح جديدة في المشهد الثقافي الفرنسي قد تقلب موازينه

الكتاب العشر الأكثر مبيعا يستحوذون على سوق الرواية

مارك ليفي  -  أرك مرديه
مارك ليفي - أرك مرديه
TT

ملامح جديدة في المشهد الثقافي الفرنسي قد تقلب موازينه

مارك ليفي  -  أرك مرديه
مارك ليفي - أرك مرديه

لأول مرة منذ 10 سنوات يظهر المشهد الأدبي الفرنسي بملامح جديدة ومعطيات قد تقلب الموازين رأسا على عقب. تأثير الأحداث السياسية والجوائز الأدبية بدا واضحا جليا. هذا ما كشفت عنه دراسة من إنجاز معهد «جي أف كا» بالتعاون مع صحيفة «لوفيغارو».
الدراسة التي تخص بالتحليل إيرادات الروائيين الفرنسيين تكشف بأن الكتاب العشر الأكثر مبيعا أو من يسمون بـ«البست سيلرز» يستحوذون وحدهم على 27 في المائة من إيرادات سوق الرواية الخيالية؛ مما يعني أن رواية من بين 4 مما تباع في المكتبات أو عن طريق الشبكة العنكبوتية هي من إمضاء هؤلاء. ظاهرة فريدة من نوعها، حسب سيبستيان روؤو، المسؤول عن فرع الكتب في معهد «جي أف كا» الذي يضيف في الوقت الذي يتخبط فيه قطاع النشر من أزمة انخفاض مبيعات الكتب، فإن الروائيين الأكثر شعبية يبيعون أكثر فأكثر، الهوة التي تفصلهم عن الكتاب الآخرين في اتساع مستمر - وإن صحت المقارنة - فهم كهؤلاء الأغنياء الذين يزدادون ثراء كل يوم بينما يزداد فقر الفقراء في الوقت نفسه.
روايات غيوم موسو، مثلا، تحتفظ منذ فترة بالشعبية الواسعة نفسها، بفضلها يحتل موسو منذ 4 سنوات رأس قائمة الكتاب الفرنسيين الأكثر رواجا أحيانا موازاة مع زميله مارك ليفي، وقد نجح هذه السنة في بيع نحو 1.6 مليون نسخة منها 556 ألف نسخة من روايته الأخيرة «سونترال بارك» التي ظهرت منذ أشهر فقط. أما مارك ليفي الذي تعدت شهرته حدود فرنسا؛ حيث نجح في بيع أكثر من 30 مليون نسخة في العالم، فقد فاجأ الجميع هذه السنة بتراجعه للمرتبة الثالثة بـ998 ألف نسخة، في الوقت الذي ظل فيه لعشرية طويلة يتأرجح ما بين الترتيب الأول والثاني، تاركا مكانه لأول مرة لامرأة هي الروائية كاترين بانكول المعروفة أيضا بروايتها «عيون التمساح الصفراء» (دار نشر ألبان ميشال) التي راهنت بنجاح هذه السنة على ثلاثية «موشاهاس» (دار نشر ألبان ميشال) التي تدور أحداثها ما بين باريس ونيويورك من خلال القصص العاطفية لمجموعة من الصديقات. ثلاثية « موشاهاس» حققت إيرادات قوية وصلت لـ1.2 مليون نسخة، وكانت أكثر الروايات مبيعا في المكتبات وموقع «أمازون» قبل فترة الأعياد.
اللافت للانتباه، (يقول سيبستيان روؤو من معهد «جي أف كا») ليس فقط كون السيدة بانكول هي من نجحت في خلع ليفي «العظيم» من ترتيبه الثاني، بل لأنها نجحت في الوصول لهذا الترتيب بينما كانت غائبة عنه تماما في السنة الماضية.

* الروايات الرومانسية هي الأكثر مبيعا
اللافت للانتباه في هذا الترتيب كون العامل المشترك لأحسن الروايات مبيعا هو ارتكازها على قصص عاطفية، معظمها يسرد قصص حب وغرام بين شخصيات تعيش في الوقت نفسه مغامرات شيقة مثيرة للاهتمام. في مقال مطول بعنوان «قرأت كل روايات غيوم موسو» حاول الكاتب الصحافي من جريدة «سلات»، جان مارك بروست رصد الأسباب التي قد تفسر شعبية هذا الكاتب وإقبال القراء على رواياته، وأول ما لاحظه هو أن قصص الحب هي المحرك الأساسي فيها. يكتب الصحافي جان مارك بروست: «نحن لا نتحدث هنا عن مشاعر حب عادية هادئة، فالتي يرسمها لنا موسو هي مشاعر قوية جياشة بل وجنونية، قصص تخرج عن المعتاد وتأخذ القراء بعيدا عن أحداث الواقع الرتيبة التي يعيشونها يوميا».

* الإيرادات القوية ضمان الجودة الأدبية؟
جدير بالذكر أيضا أن الكتاب الذين يبيعون أكثر في فرنسا هم أيضا الأقل فوزا بالجوائز الأدبية، بل إنهم يتعرضون باستمرار لهجوم النقاد الذين يصفون أعمالهم بالرديئة والمبتذلة. الصفحة الثقافية لمجلة «لكسبرس» هاجمت الروائي مارك ليفي في مقال بعنوان «مارك ليفي.. سعة الفراغ» واصفة أسلوبه الأدبي بـ«الرديء» لدرجة أنه لا يستحق ولا حتى مقال نقدي. أما غيوم موسو الروائي الأكثر مبيعا في فرنسا منذ 4 سنوات متتالية، فإن مجلة «لير» الأدبية تصفه بـ«طاهي الكتب» الذي وصل بفضل الوصفة نفسها لبيع أكبر عدد من الكتب: جرعة من الغرام والمغامرة + شخصيات محدودة + أسلوب سهل بسيط يليق بالقراء الذين يرتادون وسائل النقل العمومية ولا يحتاجون للتركيز، تكتب المجلة المتخصصة.
لكن ما حدث هذه المرة، (يقول سيبستيان روؤو المسؤول عن فرع الكتب في معهد «جي أف كا»)، هو أن حصول بعض الروائيين على الجوائز الأدبية قد انعكس إيجابا على المبيعات. هكذا وجد الفرنسي باتريك مونديانو الحائز على جائزة نوبل لعام 2014 نفسه للمرة الأولى في المرتبة الخامسة في قائمة الكتاب الأكثر مبيعا، بعد أن بيعت روايته الأخيرة «لكي لا تضيع في الحي..» (دار نشر غاليمار) بأكثر من 700 ألف نسخة، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه عام 1987 برواية «شارع الدكاكين الضيقة» التي لم تتعد 120 ألفا، رغم أنه فاز آنذاك بجائزة الغونكور المهمة. القفزة نفسها يسجلها زميله بيير لومتر الذي احتفظ بمركز مشرف في ترتيب «البيست سيلر» هذه السنة أيضا بما أنه التاسع بـ440 ألف نسخة بفضل روايته «وداعا يا من بالأعلى» (دار نشر ألبان ميشال) التي تتحدث عن معاناة الفرنسيين إبان الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918. على أن مجموعة لومتر البوليسية «فيرهوفن» بدأت تثير اهتمام القراء منذ فوزه بجائزة الغونكور لتنقلب لما يسمى بـ«اللونغ سيلر»؛ أي إنها بدأت تلقى الرواج، لكن بعد صدورها بفترة متوسطة المدى.
أما ديفيد فونكينونس الملقب بـ«ملك الجوائز» الذي يحتل المرتبة الثامنة في القائمة، فهو من الكتاب القلائل الذين نجحوا في التوفيق بين الإقبال الشعبي واعتراف النقاد. فبعد روايته «لا ديليكاتيس» أو «الرقة» التي حصل بها على جائزة «رونودو»، وبيعت بأكثر من مليون نسخة مع اقتباسها لفيلم سينمائي. حصل هذه السنة على جائزة غونكور تلاميذ الثانويات عن روايته «شارلوت» (دار نشر غاليمار) المستوحاة من الواقع التي استغرق تأليفها 8 سنوات، لأنها مكتوبة بأسلوب القصيدة الشعرية.

* الأحداث والكتب
موقع «ليفر هيبدو» المتخصص يضيف أن إصدارات أخرى لم يتم إدراجها في هذا الترتيب قد عرفت رواجا كبيرا مستفيدة من الأحداث التي عاشتها فرنسا هذه السنة، وكذا من دعاية إعلامية مهمة دون أن يكون أصحابها من الكتاب المعتادين على الإيرادات القوية ولا على قائمة «البست سيلرز».
فاليري تريفيلر الرفيقة السابقة للرئيس الفرنسي كانت إحدى هؤلاء. كتابها «شكرا على هذه الأوقات» (دار نشر ليزارين) الذي تروي فيه فصولا عن حياتها العاطفية المضطربة مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ومعاناتها النفسية بعد الانفصال، بيع بأكثر من 730 ألف نسخة واستفاد بتغطية إعلامية واسعة داخل وخارج فرنسا. أكثر منه كتاب الصحافي إيريك زيمور الأخير «الانتحار الفرنسي» (دار نشر ألبان ميشال) الذي قوبل بجدل كبير بسبب طابعه العنصري وتحامله الشديد على المهاجرين، ولا سيما المسلمين.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!