ظلت إيران من الدول القليلة التي يتمتع الشعر فيها بجماهيرية غالبة. لذا، لم يكن من المستغرب أن وفاة الشاعر الإيراني البارز مشفق كاشاني، في وقت مبكر من هذا الشهر، جاء من زاوية الأحداث الكبيرة التي استدعت توجيه رسالة خاصة من المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، وساعات طويلة من التغطية الإعلامية الرسمية. وقد انهار كاشاني وفارق الحياة خلال إحدى حفلات تكريم شاعر آخر في طهران.
وصرح الرئيس السابق محمد خاتمي، الذي كان حاضرا في حفل التكريم، يقول: «لقد صرنا جميعا أيتاما بوفاته».
وفي الوقت ذاته، برغم ذلك، كانت السلطات نفسها التي انهالت منها آيات الثناء والتقدير على كاشاني البالغ من العمر (89 عاما) حين وفاته، تصر على الحيلولة دون الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لإعدام شاعر إيراني آخر، وهو هاشم شعباني، الأصغر سنا، الذي أعدم شنقا إثر اتهامه بالإساءة إلى الذات الإلهية.
لقي الشاعر شعباني (32 عاما) حتفه برفقة ناشط حقوقي إيراني آخر يدعى هادي الرشيدي، عقب عامين قضاهما الأخير في السجن والمحاكمات أمام محكمة الثورة الإسلامية، التي انتهكت حتى قوانين الجمهورية الإسلامية ذاتها.
في الأسبوع الماضي، حاول أصدقاء وأقارب شعباني تنظيم حفل تأبين لذكراه في الأهواز، مسقط رأسه، جنوب غربي إيران، غير أن السلطات رفضت منحهم التصاريح اللازمة.
وحينما تجمع بعض من أصدقائه لقراءة بعض من أشعاره بالعربية والفارسية، في حي خلف آباد بالمدينة، جاءت وحدة من قوات الباسيج (التعبوية) لفض الجمع، وإلقاء القبض على عدد من «مثيري الشغب».
عبر العام الماضي، رفضت السلطات الإسلامية كذلك الإفراج عن أوراق شاعر الأهواز، ومن بينها مخطوطات لبعض من أشعاره، التي ضبطت خلال الحملات التي شنها النظام على منزله ومنازل والديه وغيرهما من أقاربه.
فلماذا تعمد الجمهورية الإسلامية إلى تكريم أحد الشعراء، بينما تحاول طمس ذكرى آخر؟
والإجابة بسيطة: كان الشاعر كاشاني من شعراء النظام، ممن ينظمون الشعر ويكرسون موهبتهم الشعرية الضئيلة في خدمة الدعاية الإعلامية الرسمية للنظام الحاكم؛ فقد كتب الغزليات (السوناتة) والقصائد القصصية التي يمتدح فيها الزعيم الراحل آية الله الخميني وخليفته خامنئي. وبوصفه رئيسا للرابطة الإسلامية للشعراء، التي تأسست بأمر من خامنئي شخصيا، كان عضوا بارزا في الأسماء التعريفية. وتم استدعاؤه في أحد الشهور للاستماع إلى آخر الغزليات التي كتبها خامنئي (المرشد الأعلى) نفسه، الذي، ربما، كان يقلد الخميني الذي طالما ظن نفسه دوما من زمرة الشعراء.
بالنسبة إلى كاشاني، فإن الشاعر الصادق «لا بد أن يلتزم بمنهج الثورة»، حيث تساءل في أحد اللقاءات: «ما قيمة الشعر إن لم يكن سلاحا في خدمة الإسلام وخدمة ثورتنا؟».
وكتب يقول:
«لما تحضرني ذكرى مأساة محرم.. واستشهاد الحسين
ينتفض قلبي هلعا
ففي محرم تفجرت الأكدار المرتجفة
ظل الشعراء يحرسون قصة الحب الأزلية
أبدا.. لا تدع عقد الأقاصيص ينفرط سلساله من بين يديك»
ولأن اللغة الفارسية تتمتع بموسيقية عالية، يمكن لقصائد الهواة الضعيفة أن يتردد صداها بين الإيرانيين. وليست أشعار كاشاني استثناء من ذلك. كان يستخدم مفردات لغوية محدودة، يغلب عليها كثيرا التأثر بالكليشيهات المستعارة من الأشعار الكلاسيكية القديمة، من أمثال «حاجباك يمثلان قمر المساء»، وأيضا «الزهرة (فينوس) التي تعزف السيتار في أفق السماء»، فجاءت أشعاره مألوفة تفتقر للإبداع، وبالتالي، بالنسبة للكثيرين، ذات نزعة مطمئنة إلى حد ما. ولأنه لم يخرج علينا بأي صورة شعرية غير متوقعة، ولا أي أفكار جديدة على الإطلاق، منحنا كاشاني من خلال قصائده نوعا من الشعر تجده وتفتقده في آن واحد، أي جزءا من ذات الضوضاء المعيشية الرتيبة، مثل أنماط الموسيقى التي يبثونها في المصاعد ومتاجر التسوق.
تنتمي مدائح كاشاني نحو خميني وخامنئي إلى تقليد يمتد إلى 12 قرنا من الزمان، حيث كان الشعراء يكتبون القصائد الطويلة لمديح الأمراء، والسلاطين، والوزراء في مقابل عطاياهم الكريمة. وبعض المادحين، من أمثال الأنوري، والأنصوري، ومنوجهري، صاروا من كبار الشعراء فقط لأنهم لم يقصروا أنفسهم على قصائد الثناء الرسمية للراعي. ولدينا عامل آخر جاء حافظا لهم من السقوط في التفاهة المطلقة: حداثة الأشكال الشعرية في الأيام الأولى للنهضة الوطنية الإيرانية. غير أن مثل تلك العوامل ليس لها من تأثير يُذكر مع كاشاني، نظرا لأن إيران اليوم لم تعد إيران التي كانت منذ زمن بعيد.
وليس من قبيل المفاجأة أنه في إحدى المقابلات، التي نشرها الموقع الرسمي لخامنئي، وجه كاشاني النصح لشباب الشعراء بالابتعاد تماما عن «الإبداع». حيث أصر قائلا: «إن كتابة الأبيات الحرة لهو ضرب من العبث الكبير». وبالتالي فإن مؤلف الشاعر راينر ماريا ريلكه «رسالة إلى الشاعر الشاب» ليس موجها إليه بحال من الأحوال.
أما الشاعر شعباني، على الجانب الآخر، فكان حداثيا بكل ما تحمله الكلمة من معان، إذ عبر عن إيران الجديدة التي أراد أن يكون جزءا منها، وتكون جزءا من العالم الحديث، مع هبة التفرد، والتنوع.
حال المرشد خامنئي والرئيس روحاني بين الإيرانيين وذكرى شعباني ولو من خلال حفل تأبين يسير. ومع ذلك، لسوف يتذكره التاريخ طويلا بعد أن يطوي الزمان ذكراهما وراء النسيان.
بين كاشاني شاعر النظام وشعباني الشاعر المشنوق
السلطات الإيرانية ترفض الإفراج عن أوراق شاعر الأهواز
بين كاشاني شاعر النظام وشعباني الشاعر المشنوق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة